كثيرة هي الكتابات التي تقول إن الإسلام يميّز بين الرجل والمرأة بمنحه الأول موقعا تسلطيا عبر “القوامة”، كما خصّه بامتيازات في الميراث، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، وتعدّد الزوجات، مثنى وثلاث ورباع، وشهادة رجل بشهادة امرأتين. وقامت بتأكيد هذا التمييز بشواهد كثيرة من التجربة التاريخية والممارسة اليومية في حياتنا المعاصرة. … هنا محاولة لإيضاح حقيقة الموقف وخلفيات هذه التباينات بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق.
تستدعي معرفة مكانة المرأة ووضعها بالنسبة للرجل في القرآن الكريم البحث عن المواضع التي ذُكرت فيه في كل السور، وتقويم محدّدات وضعها وما اُعطيت من حقوق، مقارنة بما اُعطي الرجل لتبيّن إن كان ثمّة تمييز أو تفضيل للرجل أم لا.
سيجد الباحث المدقّق أن القرآن الكريم قد وضع الرجل والمرأة في مكانةٍ واحدة وبمساواة تامة جوهريا عبر تحديد انتمائهما إلى نوع واحد من المخلوقات: الجنس البشري، حيث قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” ﴿النساء:1﴾. وقال: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون” (الروم:21). كما تجسّدت هذه المساواة في وصف كل من الرجل والمرأة، بعد زواجهما، بالزوج، أي ثاني اثنيْن، فالرجل زوج والمرأة زوج في علاقة ثنائية ندّية. وقد تكرّرت صفة زوج في آيات كثيرة تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة مثل “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ…َ” (الأنبياء:90)، و”وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴿النساء:20﴾، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿البقرة: 35﴾.
وقد تأكّدت المساواة بين الرجل والمرأة من خلال التكاليف الشرعية الواحدة، الصلاة والصوم والزكاة والحج، للرجل والمرأة، كما في العقاب والثواب الواحد. ففي الثواب قال: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (التوبة:71)، و “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” (الأحزاب:35) و “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ” (آل عمران: 195)، وفي العقاب قال: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ…..َ” (النور: 2)، “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا..(المائدة:18)، و”وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ” (التوبة: 68)،. ومنح كلا من الرجل والمرأة الحق ذاته في مجال العلاقة الثنائية، قال: “وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ” (البقرة:228)، وبالمعروف، التي تعني ما يتعارف عليه المجتمع من قيم وحقوق وواجبات، تتيح اعتبار التغيّر وأخذه بالحسبان في تقويم العلاقات الزوجية لأن المعروف يتغير في المكان والزمان.
نعود إلى المآخذ التي أطلقتها الكتابات المشار إليها أعلاه، أولها قضية القوامة، كما وردت في قوله “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ …” (النساء: 34). وأول ما يمكن اكتشافه فيها عند التدقيق في السياق والربط مع بقية الآيات عن العلاقات الزوجية ارتباط القوامة بشؤون الأسرة حصريا لا تتعدّاه إلى خارجها، وهي هنا مرتبطة بمنطلق الإسلام الاجتماعي الذي يعتبر الأسرة، لا الفرد، أساس المجتمع. ففي أسرة من زوجين، مع توقّع إنجاب أولاد، لا بد من ربّان يقود السفينة ويوجّهها فكان الرجل. وهذا لا ينقص من دور المرأة في شؤون الأسرة حتى وهو يعطي الأفضلية فيها للرجل، لأن أساس الحياة الزوجية في الإسلام توزيع أدوار في كنف التكامل، كما لا يمنع المرأة من التحرّك المستقل خارج حدود الأسرة في مجالات العمل الاجتماعي؛ والتجاري؛ فهي حرّة في استثمار مالها بشكلٍ مستقلٍّ عن الزوج؛ والسياسي؛ ولنا في قصة بلقيس، ملكة سبأ، مع النبي سليمان خير دليل على ذلك، حيث لم يعكس القرآن الكريم عند روايتها أي تحفّظ حول موقعها في رأس هرم السلطة: ملكة في بلدها، بل نقل صورة إيجابية عن قيادتها بلدها أنها لا تأخذ قراراً إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة. “قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ” (33) (النمل:29-33).
شهد التاريخ الإسلامي حالات صعود وهبوط تلاه انقسام وصراعات سياسية دامية بين أبناء الإسلام، دفعت إلى تبنّي قيم وممارسات لا تتّسق مع توجيهات القرآن الكريم في مجالات كثيرة، بما في ذلك مكانة المرأة ودورها
الثانية، حصّة الذكر والأنثى في الميراث. هي الأخرى مرتبطة بنظرة الإسلام الاجتماعية، حيث الرجل مكلّفٌ بدفع مهر للمرأة عند الزواج، ومكلّفٌ بتوفير نفقات الأسرة. لذا منحه الإسلام حصّة مضاعفة من دون أن يحرم المرأة من حصتها، قال: “لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً”(النساء:7)، ووازن مضاعفة حصّة الذكر بالميراث بحقّ المرأة بالاحتفاظ بمالها ومنع الرجل من الاستحواذ عليه من دون موافقتها ورضاها، “وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا”(سورة النساء:4)، و”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا” (النساء:19).
الثالثة رخصة تعدّد الزوجات جاءت لتحلّ بعض المشكلات، لكنها قُيدت بالعدل بين الزوجات، قال: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً …” (النساء:3)، وشدّد في التقييد، حين أكّدت استحالة العدل بين النساء بقوله: “وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا” (النساء:129).
الرابعة قضية احتساب شهادة رجل بشهادة امرأتين، كما وردت في قوله تعالى: “وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى” (لبقرة: 282)، ما يثير شبهة إعطاء الرجل موثوقية أكبر من المرأة، لكن الحقيقة غير ذلك حيث ربط التوجيه القدرة على أداء الشهادة بنوعية اهتمام كل من الرجل والمرأة وما يترتّب عليه من مشاغل وتبعات، تجعل تركيز المرأة على مشكلات الأسرة والأولاد والحياة اليومية، ما يجعل تركيزها على قضايا شهدتها أقل أهمية وعرضة للنسيان.
تأكّدت المساواة بين الرجل والمرأة من خلال التكاليف الشرعية الواحدة، الصلاة والصوم والزكاة والحج، للرجل والمرأة، كما في العقاب والثواب الواحد
ما نشهده من حوارات وسجالات بشأن مكانة المرأة ودورها في القرآن الكريم ناجم عن اعتبار المشايخ وأتباع الإسلام السياسي ما في القرآن الكريم من مبادئ وتوجيهات عن المرأة والرجل، وما حصل في التاريخ الإسلامي من تحوّلات في القيم والسلوك، يمثل هدي الإسلام. وهو قولٌ غير صحيح، ويتعارض مع التوجيهات والوقائع، لأن التاريخ الإسلامي طويل وشهد حالات صعود وهبوط تلاه انقسام وصراعات سياسية دامية بين أبناء الإسلام، دفعت إلى تبنّي قيم وممارسات لا تتّسق مع توجيهات القرآن الكريم في مجالات كثيرة، بما في ذلك مكانة المرأة ودورها. وقد تفاقم هذه الانحياز عن جادّة المبادئ والتوجيهات مع الانحطاط الحضاري والعلمي والثقافي الذي أرخى بكلكله على المسلمين قروناً وعمّقته سيادة مشيخية، تعتمد حفظ الموروث من دون مراجعة أو اجتهاد يواكب تطور المجتمع البشري علمياً واجتماعياً، فشهدنا حفَظة بذاكرة قوية وعقل مغيّب. قابلهم على الضفة الأخرى أصحاب رأي تمييز القرآن الكريم بين الرجل والمرأة والحطّ من مكانتها وقدرها باعتبار ما حصل ويحصل في التاريخ الاجتماعي للمسلمين هو موقف الإسلام من دون اعتبار لما ورد في الشرع الإسلامي من مبادئ وتوجيهات بهذا الخصوص، ومن دون تمييز بين الحكم الشرعي وما فعله المسلمون في التاريخ الإسلامي، والحكم على قيم الإسلام بمعزل عن فلسفته الاجتماعية وبالاعتماد على معايير الحضارة الغربية في نسختها الأخيرة.
تباين القيم الاجتماعية والثقافية بين الحضارات أمر واقع وحقيقة راسخة. ولكن من يستطيع أن يجزم بأن قيم هذه الحضارة أكثر صحّة أو أكثر جدوى من الحضارات الأخرى، ونحن نرى بالعين المجرّدة ما تنطوي عليه كل حضارة من مشكلات داخلية ومظالم بين الرجل والمرأة وبين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة. ما يجعل تفضيل موقف حضاري على آخر يواجه تحدّيات ويرتب تبعاتٍ لا يمكن تحاشيها أو جسرها. يبقى المخرج في احترام كل القيم التي تبنّتها الحضارات والحثّ على التعايش والتفاهم والتثاقف.
المصدر: العربي الجديد
أن القرآن الكريم قد وضع الرجل والمرأة في مكانةٍ واحدة وبمساواة تامة جوهريا، وتتأكّد المساواة بين الرجل والمرأة بالتكاليف الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة والحج، للرجل والمرأة، كما في العقاب والثواب الواحد، وما موضوع الشهادة والأرث فهناك أسباب ذكرت، وإن كان هناك بأكثر من حالة بالأرث المرأة تأخذ مثل الرجل وأحياناً أكثر، قراءة موضوعية دقيقة.