مع كلّ منعطف جديد في العلاقة التركية مع النظام السوري، يتعيّن على قيادات كيانات المعارضة السورية تجديد مفهومها للحلّ السياسي، أو في الأقلّ خفض توقّعاتها منه، فالواقعية السياسية المطلوبة عليها أن تأخذ في الحسبان ميزانَ القوى، والمصالحَ الدولية، وتبدّلَ مواقف الدول، ومصالحَها، في ظلّ مُتغيّرات عالمية، وانهيار محاورَ إقليميةٍ، وبروز تحالفاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ جديدة، وتفاقم الصراعات المُسلّحة والحروب، ومنها ما أنتجته الحرب الإسرائيلية على غزّة، وتداعياتها على الدول العربية والإقليمية، ومنها الأراضي السورية، سواء تلك التابعة لسيطرة النظام مع داعمَيه الروسي والإيراني، أو التابعة لفصائل المعارضة المُسلّحة تحت الحماية التركية، أو مناطق إدلب تحت حكم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) أو المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية) تحت الحماية الأميركية.
والواقعية المُستجِدَّة في التصريحات اليوم تعني، بالضرورة، إعادة مَنْ تسمّيهم القرارات الدولية “قيادة المعارضة السورية” النظر في فهمهم، أو تمسّكهم بحرفية قرار مجلس الأمن 2254 (المُتعلّق بوقف إطلاق النار، والتوصّل إلى تسوية سياسية بقيادة سورية، وفي ظلّ عملية يمتلك السوريون زمامها، وتُيسّرها الأمم المتحدة)، فما كانت تفهمه المُعارَضة من الانتقال السياسي، أنّه إنهاءُ عهدِ الرئيس السوري بشّار الأسد، وفقاً لما جاء في القرار “تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية في غضون ستّة أشهر”، لم يعد ممكناً، وأنّ ما يتضمَّنه من تفاصيل تنفيذية للعملية السياسية، بقي حبراً على ورق، منذ صدوره عام 2015، ولم يبق منه إلا النزر اليسير، وهو ما يسمَّى اللجنة الدستورية التي لم يُقرّ النظام شرعيتها أو مشاركته الرسمية فيها.
وتركيا، إذ تطلب من “المُعارَضة” التفاوض الهادف والواقعي مع النظام، فقد سبقتها إلى ذلك منذ عام 2017، عندما صارت أحد أضلاع ثلاثي مسار أستانة إلى جانب روسيا وإيران، وهو المسار الذي عطّل السير في مفاوضات جنيف الأممية، وترك الأبوابَ مفتوحةً على خيارات روسيا وإيران في القضيّة السورية، ومنح النظامَ السوريَّ الأدوات اللازمةَ لاستعادة السيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ من سورية التي فقد السيطرة عليها ما بين 2012 و2015.
وإذ تُؤكّد تركيا عودَتها للمرّة الثانية إلى خانة الواقعية السياسية، بالتعاطي مع النظام السوري، وترغب في إعادة العلاقات معه، فإنّ ذلك مبنيٌّ على مصالحها الوطنية، ولحلّ مُشكلاتها الحدودية مع الأكراد (بخاصّة “الإدارة الذاتية”)، الذين تتهمهم بإقامة كيان انفصالي عن سورية في حدودها، وتعتبرهم يُهدّدون أمنها، وكانت ترغب في اجتياحهم عسكرياً، وهو ما هدَّدت به مرّات، قبل أن تتدخّل روسيا لعقد مصالحات بين الرئيسين التركي أردوغان والسوري بشّار الأسد، تقضي بوضع النظام السوري في مواجهة الأكراد بديلاً عن تركيا، من منطلقي الدفاع عن وحدة الأراضي السورية واستعادة السيطرة على تلك المنطقة، التي تُعدُّ منبع الثروة النفطية لسورية.
وفي صعيد داخلي، ترى تركيا أنّ من شأن المصالحة مع النظام أن تُقدّم حلولاً لمشكلة اللاجئين السوريين، التي أصبحت ورقةَ ضغطٍ شعبيٍّ تستخدمها المُعارَضة التركية في وجه حكومة أردوغان، بتسهيل إعادة انتشارهم داخل الأراضي السورية، وبما يتوافق مع فكرة حزام شعبي آمن لها على حدودها.
بيد أنّ ذلك كلّه لا يعني، بالضرورة، أن تستغني تركيا عن المُعارَضة السورية، بشقّيها، السياسي والمُسلّح، فالأولى (المُعارَضة السياسية) تضعها على طاولة التفاوض الدولي حول القضية السورية، سواء مع روسيا وإيران، أو على طاولة التفاوض الأممي في جنيف، والثانية (المُعارَضة المسلحة) تُثقّل بها أوراق عملية تفاوضها مع النظام من جهة، ويمكن استخدامها شريكاً في أيّ عملية عسكرية ضدّ الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، سواء اضطرّت للقيام بها منفردة، أو بالتشارك مع النظام السوري. ما يعني أهمّية المُعارَضة السورية لتركيا، ليس لقيمتها الذاتية، بل لدورها الوظيفي الذي تريده لها، وسواء تجاوب الأسد مع رغبة أردوغان في عقد اللقاء التصالحي، أو لم يفعل، فإنّ بقاء مفتاح المُعارَضة بيد تركيا ورقةٌ رابحةٌ يمكن استخدامها باتجاهات مختلفة؛ محلّية وإقليمية ودولية، وبخاصّة في وجه الدول الأوروبية، فالعملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254، بكثير من الواقعية، قد ماتت سريريّاً في الأقلّ، منذ تشكيل مسار أستانة الثلاثي في مواجهة مسار جنيف الأممي، ما أدّى إلى انقلاب أدوار الدول تدريجيّاً، وخروجها من ثنائية محورَي مناصرة الثورة أو ضدّها، بدءاً بتركيا، وصولاً إلى الدول العربية التي أعادت تطبيعها مع النظام السوري، وإلى دول أوروبية تتذرَّع بمشكلة اللاجئين السوريين، وسط صمت أميركي غير مضمون لمصلحة المُعارّضة السورية، وهو ما يضع الأخيرة قبالة خيار الواقعية التركية التي تريد منها التفاوض الهادف، الذي يَسمحُ باستعادة مصالحَ تركيا مع النظام، وببقاءِ المُعارّضة ورقةَ قوَّةٍ بيد تركيا.
لم يتأخر النظام السوري، فيما يبدو، بقراءة ما تريده تركيا منه، وهو يمارس برفضه اللقاء، الذي يجمع رئيسَي الدولتَين، فهمَه القانون الدولي، لمنع قوننة الوجود التركي في سورية، فإنّ ذلك لا يمنع من أن تكون قنوات الحوار والتعاون الأمني مفتوحةً على مصراعيها، وأنّ يكون لقاء قادة المُعارَضة رسالةً تركيةً إلى النظام السوري، بالتوازي مع احتواء المُعارَضة، وتدريبها على الانتقال المرحلي في عملية التفاوض، من الندّية مع النظام، إلى معرفة حجمها، ونقاط ضعفها وقوَّتها، في مواجهةٍ غيرَ متكافئةٍ من النواحي كلّها.
سبق لتركيا أن التقت قادة فصائل المُعارَضة المُسلّحة قبيل لقاء أردوغان نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وسقوط حلب عام 2016، وقبل انعقاد أولى جلسات مسار أستانة، وكانت نقطة تحوّل في القضية السورية بعمومها، وهو ما قد يجعل من هذا اللقاء الجديد، نقطةَ علّامٍ جديدةٍ في مُستقبل السوريين المُلبَّد بالغيوم.
المصدر: العربي الجديد
هل الواقعية السياسية أن يتم فهم جديد للقرارات الدولية وخاصة 2015/2254 ضمن التفسير الروسي الإيراني ونظام دمشق؟ سعي البعض الإنطلاق من الظروف الدولية والإقليمية الحالية ولنفض الغبار عن الملف السوري وضمن تبدل مواقف الأنظمة العربية والإقليمية للملف السوري، تكون الواقعية السياسية بقبول ذلك.