“أجدع ناس، وأطيب ناس، ونورت مصر، ومصر بلدك الثاني يا فندم!” تتكرر هذه العبارات لدى سائقي التكسي المصريين حين يعرفون أنك سوري! قد تكون هذه العبارات توزع بالتساوي على كل من يصعد مع هذا السائق أو ذاك، لأن اللغة المرحبة هي إحدى أدوات العمل في سوق التكسي المصرية، لا مشكلة، فليكن، بالتأكيد ذلك أفضل من أن تخاف من إظهار جنسيتك أمام السائق خشية ردة فعل عنصرية.
إضافة إلى الترحيب الذي يبادرك به السائق المصري، قد ينتقل إلى خطوة أخرى حين يسألك عما تود سماعه، ولا يتردد في أن يتحدث عن دور فريد الأطرش وأسمهان في الطرب المصري وقد يصل إلى أصالة. ربما يكون لديه اهتمام سياسي فيحدثك عن الوحدة بين سوريا ومصر وكيف انسحب حافظ الأسد من حرب تشرين بعد اليوم الثالث عبر اتفاق سري، كما يقول، وما آلت إليه الحرب بعد ذلك. قد يصل الحديث إلى الثورة، فتحتج عليه “ورطتمونا، ورطنا حسني مبارك، ظننا أن تنازل الرؤساء عن الرئاسة أمر سهل وممكن!” فيلفت نظرك إلى فكرة: لا تصدق أن الشعب المصري هو الذي أسقط مبارك، مبارك أسقطه الجيش لأنهم لا يريدون رئيساً مدنياً حيث كان سيورث الراية إلى ابنه علاء. تركوا “الإخوان” يحكمون كمحطة استراحة، ثم عادوا ليقولوا نحن الأصلح، وتخلصوا من “الإخوان” نهائياً. ليست “توصيلة سيارة” المكان الأفضل لنقاش سياسي، لذلك قد تتجاوز الموضوع نحو موضوع اجتماعي أو إلى جانب من جوانب يوميات القاهرة. يندر أن تجد اليوم في الأحياء المصرية، خارج وسط البلد، كما يقال في القاهرة لوحة “سيارة أجرة” فقد أذهبت التطبيقات الحديثة مثل “إن درايف” و”أوبر” ذلك التقليد، وتلك الشخصية التي كرستها الأفلام والروايات، وبات الكثير من السائقين من أولئك الشباب الذين ليست لديهم الرغبة بأن يكونوا ورثة ذلك الجيل من السائقين، وهم ممن يطلقون عليهم في مصر “الإيخبتيون” كتعريب لمفردة المصريين من الإنجليزية، عكس المصريين الذين يعتزون بقيم “ابن البلد” الأصيلة كما يرى متحمسون لهذه الصورة أو تلك. قد يسمع صديق لك يعمل في دولة خليجية عن إعجابك بمصر والشخصية المصرية نتيجة ما مر معك من مواقف، فيلومك أو يعتب عليك أو يحذرك، ويذكر لك أمثلة كثيرة مما مر معه إبان صراع المصري معه في سوق العمل العربية، حيث كما ينقل كثيرون أن المصري لا يتردد في استعمال أي وسيلة لإثبات جدارته أو ليكون “الأول”، أو الأقرب إلى المدير، وتحضر صور قليلة عن المصري الذي تراه اليوم في القاهرة. قد تكون تلك الأمثلة كلها صحيحة، وربما لو دخلت في ميدان تنافسي مع “الشخصية المصرية” لظهر الوجه الحقيقي للشخص، وهو ما لاحظته كذلك في هولندا ذاتها، حين تكون في إطار تنافسي وعلاقة ندية يختلف الوضع كلياً حين تكون زبوناً سيقدم الأجر و”البقشيش”، لكن بالتأكيد إن نظرت إلى الشخصية المصرية في سياقها اليومي ومعركة “الغالب والمغلوب” التي تخوضها لحصد متطلبات الحياة اليومية قد تتفهم أو تفهم مواقفها أو “استقتالها” في معركة سوق العمل الخليجية، ولك أن تستضيء بصورة الشخصية المصرية في سياقاتها التاريخية والصراع الطبقي الحالي وفكرة “الغلابة”.
بعيداً عن المجاملة ولغة الترحيب الناعمة بين الزبون ومقدم الخدمة/ السائق، ستسأله من باب الفضول والتعرف إلى صورتك عند الآخر، في مرحلة الكل يجلدك كسوري: ما الذي يلفت نظرك في الشخصية السورية لتتحدث عنه بكل هذه الإيجابية؟ يحدثك السائق المصري عن اللغة الناعمة لدى السوريين ويعيد الأمر إلى أنهم يعملون في حقل التجارة، ويحدثك عن نبرة صوت السوريين الناعمة كما يرى، وعن أنه يأخذ حقه دون صراخ. يحدثك السائق المصري عن الأناقة السورية، ويفصل في ذلك حين يشير إلى أن الكثير ممن وصل إلى مصر من السوريين جاؤوا بهدف العمل التجاري. يقارن السائق المصري بين نمط الشخصية السورية وجنسيات أخرى جاءت إلى مصر فيتحدث عن “اللباقة السورية”.
وحين تقول له: ما الذي أدراني، ربما ما تقوله عن الجنسيات الأخرى في سياق الذم، قد تقوله عن السوري في حال كان الزبون من تلك الجنسيات! يبتسم السائق ويقسم لك أنه “ما بيهزرش”! يحوِّل السائق المصري الموضوع إلى معادلات وحسابات ويقول لك: أعطني مثالاً عن أي جنسية عربية أو سواها وصلت إلى مصر في السنوات الأخيرة، وتركت هذا الأثر في السوق المصرية؟ ويستفيض بالحديث عن أمثلة كثيرة تدهشك، وتكشف عن خبرته وأنه يعمل سائقاً لكن ثقافته العامة ومتابعته مميزة.
يتابع: أعطني مثالاً عن أي جنسية أخرى غير مصرية سوى السوريين والسوريات، يرغب المصريون والمصريات بالزواج منها؟ يجيبك: لا يوجد! قد يكون الفرح هو ما يخالطك حين تأخذك الظروف إلى أن تستقل سيارة أجرة، نتيجة ما تسمعه من هذا السائق أو ذاك، وقد يخالطك الحزن حين تكتشف أنك بسؤالك عن صورة السوري لدى الآخرين، تبحث عن لحظة يقين، من سائق حول صورتك أو صورة بلدك، قد تدمع عيناك نتيجة ما آلت إليه أحوال السوريين وكيف تقلبهم أنظمة الحكم في البلدان المختلفة والقوانين والتعليمات الإدارية من حال إلى حال، وليس لديهم “بكايات” كما يقول المثل، لأنه لا يوجد لهم تمثيل سياسي أو دولة تدافع عنهم، أو تقول لهم: هذا السوري لا يستحق كل هذا الحيف الإداري، والتقلب الهرموني في التعليمات، فلم يخرج من أرضه وداره إلا بحثاً عن قيمة عليا هي قيمة الحرية بكل تبعاتها! تريد أن تختم هذا المشوار، مع ذلك السائق الطيب بابتسامة فتسأله، عن السبب الذي يجعل سوريين يتزوجون مصريات يقول لك: الحب، وزمالة العمل والعشرة، وكذلك “صورة الشخصية المصرية” الممزوجة بالسخرية والمزاح والصبر.
وأحياناً الرغبة بالحصول على الإقامة والتخلص من المستندات؛ مع أن زواج المرأة المصرية من أجنبي لا يمنحه الجنسية، بل يحصل على الإقامة فقط، على العكس من الرجل المصري إنْ تزوج من امرأة من جنسية عربية حيث يمنح الجنسية لزوجته بعد مرور سنتين على الزواج. تسأله من باب الموازنة: برأيك لماذا يتزوج مصريون من سوريات؟ فيقول لك: هناك صورة مكرسة منذ قرن ونيف، ساعد مسلسل باب الحارة خاصة في تكريسها أكثر وأكثر، هي أن المرأة السورية امرأة أنيقة، لبقة، تهتم بتفاصيل بيتها، وتدلل زوجها وتهتم به وترعاه، ويتابع: ذلك أمر قد يختلف من حالة إلى حالة. أما ما نراه بأعيننا من أناقة المرأة السورية فلا يمكن أن ننكره! تحاول أن تشرح له أن ما تقدمه الدراما التلفزيونية قد يختلف اختلافاً جذرياً عن الواقع، وأن تلك الصورة ربما باتت في باب “كان زمان”! غير أنه ينطلق سريعاً بحثاً عن زبون آخر سيقدم عرضه عبر تطبيقات الموبايل التي ترن بين الفينة والأخرى وقد غدت علامات سيميائية للتواصل والبحث، بعد أن غابت كلمة “تكسي” وإشارة اليد بحثاً عن سيارة أجرة، بفعل عالم الإنترنت والأونلاين والذكاء الاصطناعي!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
نقل موضوعي عن مواقف سائقي التكاسي والمواطن المصري العادي عن الإنسان السوري من صفات عامة وخاصة، الذي جمعنا بالوحدة كأقليم شمالي وجنوبي ماتزال بذاكرة المواطن المصري وأغاني فريد الأطرش التي تتغني بمصر وبلاد الشام.