قراءة في رواية: الهيلعي

أحمد العربي

عن دار نرد للنشر والتوزيع في إسطنبول صدرت رواية الهيلعي للكاتب عبد القادر الجاسم…

الهيلعي أول عمل روائي للكاتب عبد القادر الجاسم أقرأه له. وهو يعتمد السرد على لسان الراوي واحيانا على لسان عمر الشخصية المحورية في الرواية…

عمر من مدينة حلب وهو في الأصل من ريفها. يعيش مع عائلته فيها. درس وحصل على الشهادة الجامعية وأصبح مدرسا فيها. وبعد ذلك مثل كل الشباب السوري كان لا بد ان يذهب الى الخدمة العسكرية الإجبارية، ولأنه يحمل شهادة جامعية فقد خدم في الجيش برتبة ملازم مجنّد، وهو بذلك يختلف عن الضباط العاملين من ملازم وما فوق، هؤلاء الضباط الذين جعلوا التطوع بالجيش مهنة حياتهم…

المهم خدم عمر في الجيش في ما قبل الثورة السورية التي حصلت في ربيع ٢٠١١م. حيث كان في سرية دفاع جوي على جبال الحدود اللبنانية السورية…

عاش عمر ككل الضباط المجندين ازمة عدم احترام رتبته من الضباط العاملين، الذي يظهر بأشكال مختلفة. وهو يدرك أن الخدمة العسكرية مرحلة وتمضي وعليه أن يساير ويداري وضعه…

لقد اطّلع عمر على واقع المحسوبية والتسلط من الضباط العاملين على المجندين وصف الضباط ايضا المجندين، وعايش الاساءة والاستغلال والظلم…

لقد أدرك عمر باكرا ومن والده حقيقة الواقع السياسي والعسكري السوري. وان سلطة البعث التي سيطرت على سورية منذ عقود. قد أصبحت بعد استلام الاسد الاب السلطة في سورية عام ١٩٧٠م. وبعده ابنه عام ٢٠٠٠م. ذات طابع طائفي في الهيمنة على مفاصل الدولة السورية وخاصة في الجيش والأمن. وان سورية قد عانت من الاستبداد والاستغلال والقهر عبر العقود الماضية. وان محاولات مواجهة النظام سواء من الإخوان المسلمين في الثمانينات او القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة. جعلت النظام أكثر وحشية وقام بمذابح في حماة وغيرها من المدن هذا غير الاعتقال السياسي لكل القوى المعارضة السورية. بحيث أصبحت سورية جمهورية صمت وخوف وعبيد…

كل ذلك يدركه عمر وحاضر في ذهنه لذلك اعتمد التقية واهتم بكاميرته وتصوير المناظر الطبيعية الخلابة في أعالي الجبال حيث يتواجد في سريته …

تابع عمر جبروت وإساءة الضباط الكبار وخاصة العلويين منهم. وكيف يستثمرون أوضاع المجندين للحصول على الأعطيات والمكتسبات. فبعض الجنود امكانياتهم جيدة. يذهبون بإجازات شبه مفتوحة ويقدمون المال للضابط المسؤول. والبعض يلزم بتقديم الهدايا للضابط عندما يحصل على الاجازة. وعند العودة من الإجازة أيضا. هناك قانون داخل الجيش هو “عسكرية دبر راسك” أي اعتمد أي طريقة لتنتهي من سنوات الخدمة بأقل ضرر لتعود لحياتك العملية و تبني حياتك ومستقبلك.

استمر الحال هذا في سريّة عمر حتى بدأت بوادر الربيع العربي في تونس سقوط السلطة هناك وبعدها في مصر. اوائل عام ٢٠١١م وانتقالها إلى ليبيا واليمن. وبدأت تظهر في السرية بوادر تحفز وخوف من أي عمل مضاد للسلطة من الضباط والجنود المجندين. ومع الأسف ظهرت للعلن التفرقة بين السني والعلوي في الكتيبة. بعدما كانت مضمرة. وبدأت قيادة السرية والكتيبة بإجراءات مباشرة خاصة بعدما بدأت بوادر الحراك الشعبي في درعا وانتقل إلى كل سورية. فقد تم سحب السلاح من كل الضباط والجنود الغير علويين. وجعلوا كلهم تحت مجهر المخبرين والمستفزين خوفا من عمليات انشقاق او تمرد او هروب من الجيش…

اعتمد الضباط على بعض الانتهازيين الغير علويين ليكونوا مخبرين ليقوموا بأدوار طلبت منهم لخدمة السلطة. التي كانت قد اختارت المواجهة المسلحة مع الشعب في كل البلاد.

العسكري المجند سعد الدين الشاب الحلبي نموذج عن هذا الانتهازي الذي باع نفسه للنظام ليحصل على أي مكتسب مهما صغر. أنه على رأس الدبكة “الهيلعي” في احتفالات دعم النظام في ساحات الكتيبة. وعلى التلفزيون في حلب يقود مسيرات التأييد للنظام، حلب التي تأخرت في الالتحاق بالثورة السورية…

وصلت نار الثورة والاندفاع للانشقاق عن النظام الى جنود الكتيبة وبعض الضباط العاملين الغير علويين. وبدأوا يخططون لأن يقوموا بعمل ما داخل الكتيبة ثم ينشقوا. وينتقلون من الكتيبة ملتحقين بثوار الزبداني القريبة منهم. بعدما بدأت تتشكل مجموعات من الجيش الحر لمواجهة عنف النظام ضد الشعب والمتظاهرين…

تواصل أحد الجنود مع عمر ليكون مع الجنود والضباط المنشقين. لكن عمر كان قد اختار منذ البداية أن لا يتورط بأي عمل ضد النظام. لأنه يعرف من والده أن النظام قوي ومدعوم ولن يرحم اي احد يقف بوجهه. لم يتجاوب عمر مع الجندي ودعوته للانشقاق، وسرعان ما كشفت المحاولة وتم اعتقال الكثير من الجنود، وخاف عمر من أن يذكر اسمه. لأنه سيحاسب على معرفته وعدم اخباره مسؤوليه. ولكن لم يذكر اسمه ولم يتم اعتقاله. مرت ايام قاسيه عليه. فكر فيها بالهروب من الجيش. ومع ذلك فقد انشق عدد من الجنود والضباط من الكتيبة واستطاعوا الوصول الى الزبداني بأمان. وقرر قائد الكتيبة ان يقصف الزبداني بسبب إيوائها المنشقين. لكن الرقباء المسؤولين عن الرمي رفضوا. وهربوا والتحقوا بالمنشقين. وهكذا تصاعد الصراع بين النظام والثوار في كل سورية. وجاء الخلاص لعمر عندما علم انه ودورته قد تم تسريحهم. لقد صمت عمر منتظرا ان يتم التسريح ولم يستجب لأي استفزاز. من مخبرين او ضباط عاملين من العلويين يريدون الإيقاع به. وسرّح اخيرا. وعاد الى حلب التي كانت قد دخلت في صراع بين النظام ومجموعات الجيش الحر المتنوعة. التي ظهرت بكثافة. وبدأ يظهر الرد الطائفي على طائفية النظام. وبدأت تدخل قوى خارجية سواء لدعم النظام، ايران و حزب الله والميليشيات الطائفية الشيعية. هذا غير الشبيحة واغلبهم علويين. وكذلك تم دعم القوى الثورية من الخارج وفتحت أبواب سورية ليأتي إليها “مجاهدين” من كل العالم. والاهم هو إخراج النظام لاغلب الجهاديين الإسلاميين من السجون. بقايا القاعدة. الذين سرعان ما شكلوا كتائب اسلامية. أحرار الشام وغيرها. وسرعان ما ظهرت جبهة النصرة. وهي فرع القاعدة في سورية. وظهر مجموعات نهب وسرقة بأسماء مختلفة غطت نفسها بأنها من أنصار الثورة السورية. لقد تداخلت الأطراف كلها وأصبحت سورية ساحة صراع بين الكل. وكانت الغلبة لقوى الثورة على تنوعها. بحيث سيطرت على جزء من مدينة حلب. وكان ذلك محنة لاهلها حيث اصبحت تحت القصف والتدمير والقتل اليومي. وزاد الأمر سوء عندنا قررت روسيا دعم النظام واعتمدت القصف بالطيران واستعمال البراميل المدمرة والرمي العشوائي. وهكذا أصبح العيش في أحياء حلب الخارجة عن سيطرة النظام أشبه بالانتحار وحصلت موجة نزوح كبيرة. من حلب الى الارياف التي أصبحت تحت سيطرة القوى الثورية. وانتقل عمر إلى تلك الأرياف اقرب لبلده. وأصبحت السيطرة على الأرض لجبهة النصرة. وسرعان ما التقى عمر بسعد الدين الذي وجده أميرا في النصرة. بعد مقتل والده وأخيه على يد النظام. وبذلك نقل ولاءه إلى النصرة. التي انتدبته لمهمة استحصال مال من الخليج. واستطاع أن يحتفظ بالمال لنفسه ؟!!. وعندما انقلبت الحال في الثورة السورية. وخلقت الدولة الاسلامية في العراق والشام داعش التي حاربت الثوار لأنهم “مرتدين” وحربهم اولى من حرب النظام “الكافر”. وهكذا تم ضرب الثورة السورية من باب داعش التي ظهر أنها مخترقة للنظام ولقوى دولية مختلفة. وكذلك التقى عمر مع سعد الدين الذي اصبح اميرا داعشيا. انه يعبد ذاته ومصالحه. وهكذا بدأت تضيق الارض في سورية على أهلها. فبدؤوا بالنزوح الداخلي الى المناطق الاقل ضررا وصراعا. ثم ركبوا الصعاب وغادروا الى تركيا ولبنان والعراق والاردن والى كل دول العالم. وصل عمر متنقلا من مكان الى آخر الى اهله وقريته النائية. واستقر هناك قليلا. تزوج وقرر بالاتفاق مع والده ان يهرب بزوجته التي ظهر عليها الحمل بضرورة الذهاب الى تركيا ومن هناك إلى أوروبا.

لقد أصبحت سورية بعد سنوات من الثورة ساحة صراع دولي. فقد حضر الروس والايرانيين وحزب الله والميليشيات الطائفية لمساعدة النظام. وحضر الغرب بتحالفه الدولي بقيادة أمريكا بدعوى محاربة داعش واستخدمت قوات ال ب ك ك حزب العمل الكردستاني و ربيبهم في سوريا ال ب ي د مع قوات سورية الديمقراطية. بحيث وضعت أمريكا يدها على شمال شرقي سورية وشرقي الفرات وسيطرت على النفط والغاز والأراضي الخصبة السورية. وبذلك انتهت فقاعة القاعدة وتحولت الى خلايا نائمة بعدما قامت بدورها مع النصرة وغيرهم ومع النظام وحلفاؤه بالطبع بالقضاء على الثورة السورية…

لذلك لم يكن غريبا أن يلتقي عمر في رحلة لجوئه مع زوجته الحامل إلى تركيا بسعد الدين الذي ظهر في احدى المدن التركية المحاذية للحدود السورية وأنه مدير مدرسة نموذجية للسوريين. وأنه مستعد أن يعيّن عمر عنده في المدرسة فهو معرفة قديمة ويحترم عمر. ومع ذلك قدّم سعد الدين خيارا اعتبره افضل لعمر وهو أن يساعده للسفر الى اوربا التي أصبحت حلم السوريين الهاربين من الموت في سورية…

لقد كانت تحولات سعد الدين تلفت نظر عمر دائما وكان سعد الدين يتهرب من جواب صريح. لكن واقع حاله يعتمد مقولة “لكل زمان دولة ورجال” وهو يعرف من “أين تؤكل الكتف”. واعتمد بيع ذاته ولم يعد له أي حصن من كرامة أو انسانية…

استطاع عمر أن يؤمّن أموال اللجوء الى اوروبا. من اصدقاء له. وصل الى اسطنبول التي أبهرته. ومنها إلى مدينة أدرنة. ومن هناك كان يجب ان ينتقل الى اليونان او غيرها من الدول الأوروبية…

لكنه يتراجع في آخر لحظة ويقرر أمرا آخر.؟!!.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

اننا أما رواية كثيفة جدا رغم كونها تظهر بصفتها سيرة شخصية بطلها عمر. لكنها في واقع الحال وثيقة مهمة ترصد واقع سورية في فترة حرجة قبل الثورة وأثناءها وبعدها بسنوات. وخاصة انها تحدثت عن الجيش السوري الذي هو آلة الهيمنة والبطش والسيطرة في سورية ماضيا و حاضرا و المستقبل المنظور؟!!.

كذلك رصدت الرواية واقع الحراك الشعبي لبداية الثورة وتحوله الى العنف. في مواجهة عنف النظام. وسلط الضوء على البعد الطائفي العلوي للنظام. وان جزء من الرد الشعبي كان فيه بعض الفعل الطائفي خاصة عندما تم استثمار ذلك من الجماعات التي رفعت رايات الاسلام وخاصة النصرة وداعش حيث تم الإساءة للشعب وقضيته وللاسلام نفسه…

كما رصدت الرواية معالم التدخلات الدولية والاقليمية في قضية الشعب السوري وكل يفكر بحصته من الكعكة السورية. بحيث أصبحت محتلة من امريكا وروسيا وايران وحزب الله والميليشيات الطائفية وكذلك حزب العمال الكردستاني الانفصالي. وأصبح أهلنا في الداخل السوري في حال مؤسف من القمع والفلقة والجوع ونقص في كل شيء…

في الرواية تركيز على علي صديق عمر النموذج المبارك للنظام من خلفية مصالحه الخاصة ولو كان من وراء ذلك دمار سوريا وتقتيل وتشريد شعبها. وكذلك الانتهازي سعد الدين الذي باع نفسه لهواه ومصلحته. “الذي يتزوج امي اقول له عمي” وهذا النموذج يوجد منه الكثير. وهم نفايات كل المجتمعات. هم من تبعات الاستبداد والظلم والتخلف وليسوا صانعية. صانع الظلم ومؤبده النظام المستبد الطائفي المجرم في سورية…

في الرواية أيضا إشارات تحتاج إلى نقاش عن السوريين المتصارعين والمتنافسين والمصلحيين والمتخلفين والذين لم ولن ينجحوا بالثورة. لانهم بالاصل متفرقين وكل ينظر الى مصلحته او مصلحة جماعته…

هذه وجهة نظر حاضرة بقوة. لكنها متناقضة مع العلم وحقائق والحياة: فنحن اولا واخيرا بشر لسنا من صنف الملائكة، فينا الخيّر والشرير. وفينا صاحب القضية المضحي لأجلها. والتغيير ليس عمل فردي بل هو عمل جماعي عام في دولة تحترم شعبها وتتصرف وفق مصالحه. أن أي دولة غير ديمقراطية ولا تحترم كرامة شعبها ومصالحه بالحرية والعدالة وتأمين فرص العيش الكريم. ستجعل الشعب كل بطريقته يبحث عن مصالحه. هذا بخدمة السلطان انتهازي و مخبر ومنافق. وذاك يلتحق بعصبته وعائلته وعشيرته. وذاك يترك الجمل بما حمل ويهاجر وذاك ينتمي لعمل سياسي سري يحلم بالتغيير ثم يكتشف أن عمره قد انقضى بعضه في السجون وبعضه في انتظار أمل كاذب… و اغلب اهلنا يعيشون نظرية الانحناء للعاصفة “الحاكم الظالم” ولو استمرت عمرا…

لذلك كانت الثورة صرخة المظلومين ولم تكن عملا سياسيا مدروسا. وللأسف لم تجد من يحولها من أبناء الشعب السوري الى ثورة في الميدان سياسيا وعسكريا. تسعى لتنتصر. هذا غير الاستخدام الخارجي بحيث كانت النتيجة حساب ختامي مؤلم ومأساوي يجعل البعض يتبجح بأننا لو استمرينا عبيدا خيرا من الثورة التي لم تثمر إلا الخيبات والضحايا والتشريد والتدمير…

لا الثورة حق ومطالبها حق والذي صنع هذا الحساب الختامي هو النظام وحلفاؤه والنظام العالمي الصامت عن ما حصل مع شعبنا…

والحديث يطول…

ثم ان في نهاية الرواية موقف لعمر يجعلنا نقف ونتأمل: عمر يتراجع عن السفر لأوروبا. يعني رفض الهروب وأراد أن يبدأ من نقطة ما، يقوم فيها بدوره في الثورة السورية التي لم تنتهي. لأنها لم تنتصر بعد…

كل منّا نحن السوريين عليه دور يجب القيام به حيث نحن في الداخل السوري أو في الاغتراب. نعمل لتنتصر ثورتنا ونحقق الحرية والعدالة والديمقراطية ونعيد الكرامة لكل مواطن ونعمل للحياة الافضل..

هكذا يجب..

نحن امام رواية سدت فراغا معرفيا عن سورية في أحد جوانبها العسكر والنظام وافعاله. للتوثيق وللمعرفة وللتعلم أيضا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية: الهيلعي” للروائي السوري “عبد القادر الجاسم” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن مسيرة الشاب “عمر” من ريف حلب ودرس الجامعة والتحق بالخدمة الإلزامية قبل الثورة وبالدفاع الجوي ومعاناته من تصرفات الضباط وبعد ذلك خلال الثورة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى