قراءة في رواية: موت صغير

أحمد العربي

محمد حسن علوان. روائي سعودي متميز، صدر له عدة روايات اطلعنا على أغلبها، وكتبنا عن بعضها، وهو روائي متنوع يخوض في غمار التجربة الإنسانية بكل خصوصيتها واتساع فضائها، يظهر كل عمل جديد له كأنه من انتاج مؤلف روائي آخر، الرابط بينها كلها : العمق في الخوض بالذات الإنسانية وخصوصيتها وتجربتها الحياتية.

رواية موت صغير تتحدث عن حياة المتصوف محي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر)، والرواية تأخذ نسقين روائيين: النسق الاساسي سرد على لسان ابن عربي نفسه، والنسق الاخر يتحدث فيه تباعا من يعتقد انهم حملوا هذا المخطوط الذي دونه ابن عربي عبر الأجيال ليصل أخيرا إلينا.
ابن عربي ولد في بلنسية في الأندلس (إسبانيا)، في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي من أصول عربية تعود لقبيلة طيء في الجزيرة العربية، ابوة يعمل في قصر الملك (ابن مردنيش)، أمه كانت جارية، وعند ولادته كابن ذكر منها أدى هذا الى عتقها وتحريرها، لابن عربي ام اخرى فاطمه كمربية ترعاه ، وترى فيه امارات لكرامات قادمة في التصوف، وفي المسير في طريق التجرد لله، بن عربي نشأ في مرحلة الصراع بين الإمارات العربية في الأندلس، أباه العربي كان وزيرا عند الملك ابن مردنيش المتحالف مع الفرنجة ضد الإمارات العربية الأخرى، مشاكل الحكم والدسائس حاضرة، التحالفات والصراعات دائمه وهاهي بلنسية تحاصر من الموحدين، ليصل لمرحلة تخضع بها الى حكمهم، يغادر ابن عربي مع عائلته الى اشبيلية، والده مازال من حاشية الحكام الموحدين الذين يحكمون بعض المغرب العربي وبعض الأندلس. ينشأ ابن عربي في هذه البيئة وهو منذ طفولته يرى بنفسه انسانا أعطاه الله من الكشوف الكثير، وبدأ يتابع بحثه الدؤوب في طريق التجرد لله، خالف والده حيث اراد له ان يكون مثله من وزراء الحكام، اما هو أراد أن يكون متعبدا في طريق الله، تتلمذ على يد الكثيرين من المتصوفة، ودرس كل ما وصل إليه، كان له فرصة للاطلاع باكرا على علوم اليونان والاغريق وعلوم المسلمين، كان معاصرا لابن رشد الذي كان له حظوة عند الموحدين، وكان بينه وبين ابن عربي حوار، فابن رشد يتحدث من موقع الفيلسوف بالمنهج العقلي والاستدلال الواقعي ويتحدث عن قوانين ونواميس الكون، وعن قوانين وتوجيهات ربانية عبر رسله وكتبه السماوية، وأن لا تناقض بين رسل السماء ورسالاتهم بالنقل وبين علم العقل البشري، ابن عربي وافق على ذلك لكنه اضاف ان هناك علم آخر يضاف لهم عن طريق الكشف الذي يعطيه الله لبعض عباده المقربين (الأولياء والصوفية). دخل ابن عربي في نسيج المنظومة الصوفية السابقة له وصار له حضور وسمعة،  وكان له في كل منعطف حياتي هدف يتحرك له ليتقرب من الله اكثر، فاطمة مربيته وامه الروحيه، دفعته في طريق التصوف وقالت له طهر قلبك واتبعه، اخبر ان له اربعة اوتاد هم مراتب صوفية يجب أن يبحث عنهم يجدهم أو هم يجدوه ليصل الى درجة القطبية، يعطيه الله من علمه، ويتذوق من كرامات الله الروحانية والوجدانية، يعيش عوالم روحانية نفسيه وواقعية، ويتداخل الحلم مع الكشف في حياة ترحال مستمرة، يبحث فيها عن مايكمل فيه رحلته الروحية، فبعد أن يلتقي بوتده الأول في الأندلس يخبره أن وتده الثاني في افريقية، فيذهب الى فاس ومراكش، يعيش حياته متنقلا بين شيوخ العلم الديني الفقهي ومشايخ الطرق الصوفية، يلتقي بالكل يدرس على يدهم ويكون له حلقة تدريس في كل مدينة وله اتباع كثر خاصة بعد أن ذاع صيته. كان ابن عربي قد تزوج ورزق بطفلة، وكان ذلك جزء من مساره للبحث عن الله وفي طريقه إليه. جاءه الكشف بالذهاب الى مكة للحج، ووتده الثاني لم يلتقي به بعد رغم طول مكوثه في المغرب العربي، ويذهب بصحبة شخص اسمه “الحصار” وهو دارس للهندسة والمتصوف، يصل مصر ويلتقي فيها برفاق الطريق الصوفي “الحريري” و “الخياط”، ليكتشف أن الحصار هو وتده الثاني ولكن بعد موته، وإن الخياط بديله وهو مشلول عاجز، وأنه في مكة سيجد وتده الثالث، ابن عربي دائم التفكير والقلق، فأي تغير يصيبه واي مشكلة يعيشها يعيدها لتقصير منه مع الله، يدخل في نوبة تأنيب ضمير تستمر لوقت طويل حتى يأتيه كشف ما يخبره أن الله راض عنه. يصل اخيرا لمكة وكان قد ترك زوجته وطفلته عند اهلها في تونس، في مكة يتعرف على “الأصفهاني” المتصوف وأخته المتصوفة ايضا، يدرس على يدهم ما عندهم من علوم، يعطيهم ما عنده، يتعرف في ذات الوقت على ابنة الاصفهاني “نظام” التي درس معها عند عمتها ونسج بينهم حب كبير،  كان يعود ابن عربي الى بيته كل يوم ويدون اشواقه لنظام في كتاب اسماه “ترجمان الأشواق”. كان لابن عربي مريد من الحبشة قرر أن يكون تابعة وخادمه اسمه بدر الذي رافقه رحلة الحياة في ترحاله الدائم خمسة وعشرين عاما حتى توفي. وكذلك التحق به بعد وصوله الى مكة “سوركين” الذي بقي في صحبة ابن عربي حتى وفاته. التحقت زوجة ابن العربي به في مكة، وكانت ابنته زينب مرضت وتوفيت على الطريق وهم قادمين إليه في مكة، هذا ما اثر بزوجته التي طلبت العودة لأهلها، وعادت.  في مكة استمر تواجد ابن عربي ثلاث سنوات تعلّم وعلّم والمّ بكل مافيها من علماء وعلوم، تبلورت عواطفه اتجاه نظام واكدت هي ايضا محبتها له، فما كان منه إلا أن تقدم لخطبتها من والدها وعمتها، وفرحا بذلك لكن نظام رفضت متعللة ان الحب يميته معاشرة المحبوب، وعاد مجددا ابن عربي لقلقه من وضعه فلا وتده وصل إليه وها هي نظام ترفض حبه وعشرته والزواج منه. حول كتاباته في مكة لكتاب ينسخ ويوزع سماه “الفتوحات المكيه”، وبعث أيضا كتابه ترجمان الأشواق للنسخ والتوزيع، وعندما رفضت نظام الزواج منه استخار ربه وقرر الرحيل مجددا الى بلاد الشام، و ذهب الى دمشق، التي وجد بها متسع له وللكثير من الصوفيين وغيرهم من شيوخ العلم، لكن دمشق لم تكن أفضل من مكة والمدينة  حيث صراع رجالات الحكم هناك، أيضا صراع الايوبيين بين بعضهم في دمشق ومصر، دعاه الحاكم واكرمه . لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد نشر كتاب ترجمان الأشواق الذي جرح الاصفهاني استاذه واثر على سمعة ابنته، وبعث لابن العربي برسالة عتاب جعلته يتألم كثيرا، وفكر باحثا عن مخرج، وألف كتابا يشرح به ترجمان الاشواق وانه كتاب في العشق الإلهي، ولم يرتضي بعض فقهاء دمشق بأطروحات ابن عربي عن وحدة الوجود وغيرها، فقد كثرت الوشايات والاساءات، فما كان من ابن عربي الا الذهاب الى مصر ليلتقي بأحبته الخياط والحريري، لكن فقهاء مصر كانوا قد جيشوا العامة والسلطة ضده، واجهوه في الجامع حيث درسه وحاججوه وأساءوا له، استدعاه قاضي القضاة و حبسه، ولولا كرامة لولي هو وتده الثاني الميت الذي شفع له عند الحاكم والقاضي لكان ما خرج من السجن؟!!. عندما خرج سارع لمغادرتها لبغداد التي استقبلته واحتضنه متصوفيها وصار له ركن درس في أحد جوامعها، و مريدين وتابعين. استمر على هذه الحال ينتظر اشارة ربانية ويلتقي بوتده الثالث، إلى أن علم بوفاة الاصفهاني صديقه ووالد نظام حبيبته وهم في بغداد، شارك بالعزاء وحزن كثيرا، بحث عن نظام ووجدها، بث لها اشواقه وحبه وانه ينتظر موافقتها ليكتمل حبهم بالزواج، وهي اكدت حبها له واشواقها لكنها ترفض الزواج منه مجددا، يحزن كثيرا، لكنها يتفاجأ عندما يعرف السبب وتخبره انها وتده الثالث واستحالة أن يتزوجا..؟!!. و يستسلم لمشيئة الله. المهم عنده ان الله مازال يراه بعين الرعاية، وتخبره ان وتده الرابع في ملاطية وامرأته ان يذهب اليه. يغادر بغداد والتتار يغيرون من مدينة لاخرى والمذابح والقتل وراءهم يخيف الناس، والحكام كل في مدينته منهمك في صراعه مع المدن الاخرى، يعود الى حلب ليتوجه منها الى ملاطية، حلب التي كان قد زارها سابقا وكان استقبال فقهائها له سيئا حيث منعوه من دخول المسجد، وكادوا يعتدون عليه، لكن هذه المرة استقبل فيها بترحاب، والتقى فيها بيعقوب صديقه أحد المتصوفة الأتراك الذي ساعده على الزواج من فتاة ارملة مقاتل شهيد، فالعمر يمضي وابن عربي بحاجة لزوجة ترعاه وتنجب له الاولاد وتروي جسده، وهكذا حدث. تحمل زوجته وتنجب له ابنا اسماه عماد الدين، وكانت زوجة صديقه يعقوب قد انجبت طفلا أسماه نظام الدين، وسرعان ماتوفي يعقوب وترك في نفس ابن عربي جرحا كبيرا واعتبر نفسه مسؤولا عن عائلته، خاصة أنه وجد بنظام الدين نبوغا وحبا للعلم، وانه سيكون من المتصوفة وعلى طريقهم، على عكس ولده الذي لن يحب العلم والدرس وسيعيش طفولته لاهيا وشبابه ضائعا. استمر ابن عربي في ترحاله بحثا عن وتده الرابع، وفي يوم يدخل عليه رجل يطالبه بزوجته، فهو لم يكن ميتا بل اسيرا، و يعالج المشكلة بأن يطلق له زوجته، ويشترط عليه أن يعيش قريبا منه لينشأ ابنه قريبا منه في رعاية أمه، وهكذا حصل. وبعد موت يعقوب وانتقال كفالتهم لابن عربي وطلاق زوجته منه، يخطب ابن عربي زوجة صديقه المرحوم يعقوب وتقبله وتخبره ان هذه وصية زوجها المرحوم.؟!!. وسرعان ما تحمل بعد زواجهم وتنجب له ابنا اسماه سعد الدين ،  فيصبح ابا لثلاثة اولاد. سيدخل بدر المرافق له ومريده في الشيخوخة و يصاب بالحزام وتقطع رجله ويرعاه ابن عربي هو و سوركين خادمه الثاني، وينقل الى بيت المجذومين للرعاية ومنع الاصابة، ويتابع ابن العربي رعايته وزيارته، ويقضي بدر وقته في تدوين مؤلفات ابن عربي، حتى يموت في مرضه ويدفنه ابن عربي ويحزن عليه كثيرا، ويزوج خادمه سوركين ويسكنه في منزل مجاور لبيت ابن عربي، ويأتيه دائما لرعاية شؤونه، ويلتقي ابن عربي اخيرا بوتده الرابع ويكون شمس التبريزي. وذلك بعد أن أصبح ابن عربي قريبا من ملوك الترك في قونية وغيرها، يتعاملون معه بتعظيم واحترام وتقدير لعلمه وقدره، وبعد أن يلتقي ابن عربي بوتده الرابع شمس ويعطيه وصيته ويؤكد له ان شمس الحب سطعت في قلبه، وأنه أصبح من احباء الله. قرر ان يغادر الى دمشق ليكون فيها خاتمته وقبره، لأنها المكان الذي سينزل فيه عيسى عليه السلام ويريد أن ينتظره هناك، يعود ابن عربي الى دمشق التي لم يكن حكامها او فقهائها سعداء لحضورة، فهم  ضد الصوفية، فقطعوا عنه المساعدة التي تعطيه اياه السلطة، ولم يعد يستطع أن يدرس، وأصبحت لقمة العيش عزيزة، فهو قارب السبعين وعليه أن يعمل ليعيل زوجته وابنه الصغير، فعمل بستانيا وتغيرت أحواله بتقدمه بالعمر، الذاكرة تضعف، والمعلومات تتوه، والجسم لا يتجاوب مع الاراده، ويضعف عن القيام بالأعمال الموكلة إليه. يموت ابن عربي في إحدى مزارع دمشق وهو يعمل ليعيش بكرامته .
اما المسار الآخر للرواية فهي رحلة المخطوط ليصل الينا محميا بأقدار الله وبارادة محبي ابن عربي عبر مئات السنين، منتقلا من مدينة لاخرى ومن مكتبة لاخرى، يعاصر حروبا وحكام ومتغيرات طالت الدنيا كلها.
هنا تنتهي الرواية.
أما في قراءتها فنقول: رواية تسرد حياة ابن عربي من موقع الانتماء النفسي له و تجربته و التصوف عموما، وهي تقدم تشابكا رائعا بين ابن عربي وتجربته الحياتية والوجدانية والروحية وعصره في كل الازمنة التي عاشها والبلدان التي مر عليها والحكام الذين احتضنوه او اضطهدوه أو عاملوه بود واحترام أو حيادية.

 الرواية تؤكد على النهج الصوفي بصفته خبرة شخصية ذاتية يعيشها المتصوف باحثا عن ذاته، وعن صلة ما مع الله، ساعيا للحضور في رعاية الذات الإلهية، منقطعا عن شؤون الدنيا، إلا بصفتها مجال العيش، متقبل لكل متغيرات الحياة، متفرجا على ما يعيشه الناس وما يتصرف الحكام. وما يمر على البشر من أحوال السياسة والحكم و امور المعيشة العامه، وكأن هذا ليس من مسؤولية التصوف والمتصوفين.  فكل ما يعاش من أقدار الله التي لا راد لها. لذلك كان المتصوفين غير منشغلون بأحوال العباد، بل بالتقرب من رب العباد، بالتعبد والاعتزال والدرس والجوع والتجرد والترحال، والبحث عن الله في خلقه.
ان ذلك فهم محدد للدين وللعلاقة مع الله وللبحث في ملكوته والتجرد.. الخ.. يختلف مع إفهام اخرى سواء مدرسة الاتباع التي ترى الدين نصوص وعلينا أن ننفذ ما تطلب منا. ويتفرع لمدارس وطرق واجتهادات توسعت عبر مئات السنين. والبعض يرى في الدين توجيهات عليا، وللعقل دور في تسيير امور الانسان وصناعة حياته الافضل.  وهذا ديدن الفلسفة والسياسة، ونحن في هذا العصر نرى ان حياة الانسان والانسانية تتسع للبحث عن الخالق والسير في طريق التصوف والحب الإلهي،  وتتسع للمتبع لدين الله بما ينفع الناس ولا يفرض على الغير ما يرى، مع الإقرار بالتنوع الاعتقادي والديني والكل محترم انسانيا. ان العقل والعلم أصبحا أدوات أساسية لادارة شؤون الحياة، في عصر كاد العلم ان يصل الى حقيقة كل شيء ويتحكم به. المهم ان كل ذلك نراه ينطلق من مصلحة الإنسان ومن حقه بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية و التشاركية والديمقراطية. واي طرح لا يصل لهذه الثوابت الإنسانية للحفاظ على إنسانية الإنسان، فيه خطأ ما في احد اركانه او مساراته او آلية تحققه.
.العبرة أخيرا بالنتائج لما نفعله في الحياة، وتحقيق حياة الإنسان الأفضل على كل المستويات .

30.9.2016…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “موت صغير” للروائي السعودي “محمد حسن علوان” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “احمد العربي”، الرواية تتحدث عن حياة المتصوف محي الدين بن عربي، وذلك بأخذ مسارين للرواية: الأول أساسي بسرد على لسان ابن عربي نفسه، والاخر يتحدث فيه تباعا من يعتقد انهم حملوا هذا المخطوط الذي دونه ابن عربي عبر الأجيال ليصل أخيرا إلينا.

زر الذهاب إلى الأعلى