تصدّرت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، الأسبوع الماضي عناوين الصحافة العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي بصورها وفيديوهاتها التي تظهر فيها شخصية سياسية لا نمطية، بتصريحاتها، كما بحركاتها وتصرّفاتها، بشكلٍ يُبرز جرأتها وصراحتها وحتى “شقاوتها” … وتصادف ظهورها المكثف خصوصا في قمّة مجموعة السبع الكبار في مقاطعة أبوليا في جنوب إيطاليا مع إعلان نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي اكتسحتها أحزاب اليمين المتطرّف في ألمانيا كما في فرنسا وغيرهما، ولم يفت السيدة ميلوني أن تستخدم هذه الانتخابات لتعزّز شعبيّتها بوضع اسمها على رأس قائمة التصويت في حزبها، وأثبتت نجاح الرهان، فسجّلت الأصوات زيادة بنسبة 29% عن انتخابات عام 2022 العامّة في إيطاليا… فبدت جورجيا ميلوني، وسط هذا المشهد وهذه النتائج والأرقام التي تثير الفزع في الأوساط السياسية والشعبية، الأكثر ارتياحا وثقة وتحفّزاً معلنة نفسها، بالتلميح، رمزا ونموذجاً لقادة اليمين القادمين في أوروبا، وعكست تصرّفاتها مع قادة السبع كثيراً من الأريحية القيادية مع من اختارت أن تكون “لطيفة” معهم وقدراً من “العدوانية” مع آخرين، فرصدتها عين الكاميرا الدقيقة في احتفاليةٍ لإنزال مظليين، وهي تلتحق بالرئيس الأميركي بايدن الذي ابتعد عن المجموعة وأعطاها ظهره، فأعادته إلى الصفوف بكثير من الدربة ومن دون إشعاره بالانزعاج. ولكنها اختارت، في المقابل، بل لعلها تعمّدت، عند دخول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبدء مصافحته الحضور، وهي من ضمنهم، أن ترمقه بنظرةٍ لا تحتاج شرحاً كثيراً، قبل أن يصل إليها، ثم تُردف تلك النظرة بحركات وتعبيرات، مباشرةً بعد أن خصّها بمصافحة ملكية تناول فيها يدها وقبلها… فكانت لحظات قصيرة، لكنها مكثفة، أخرجت كل ما في نفس ميلوني تجاه ماكرون…
تناقلت وسائل الإعلام الأوروبية التقليدية وفضاءات التواصل الاجتماعي تلك اللقطات الناطقة بأكثرمن رسالة، والتي سيحفظها تاريخ علاقات إيطاليا وفرنسا. وتساءل كثيرون عن خلفية تلك المصافحة المكهربة وأسباب العداء الذي لم تتكلف عناء مداراته، فكانت فرصةً لاعادة تداول مقاطع من خطاباتٍ تعود إلى أكثر من خمس سنوات، وصف فيها ماكرون الحكومة الإيطالية والإيطاليين بالوقاحة وعدم التحلّي بالمسؤولية في مسألة الهجرة غير الشرعية بشكل خاص، وردّ ميلوني عليه، وهي لا تزال رئيسة لحزبها اليميني”إخوة إيطاليا”، وهو ردٌّ أقلّ ما يقال عنه إنه ناري، مباشر، ردّت فيه التهم والشتائم على فرنسا وربطتها بممارساتها الاستعمارية في أفريقيا ماضياً وحاضراً، لتخلص إلى إعادة طرح السؤال: فمن هو الوقح ومن هو اللامسؤول؟ وجاء التصفيق وعبارات التأييد والإعجاب بأسلوب الثأر لكرامة إيطاليا، من القوة، بحيث يمكن الجزم بأن خطاب ميلوني ذاك كان من أهم الخطابات التي راكمت النقاط في رصيدها، وأوصلتها إلى منصب رئاسة الحكومة الرفيع جداً.
والحقيقة أنه ثأر مزدوج، حقّقته بالقول الصاعق وبالفعل، والفعل هو رؤيتها اليمين المتطرّف في فرنسا بزعامة وريثة أبيها مارين لوبان تكتسح وحزبها انتخابات بلادها وتزعزع وضع ماكرون وحزبه وتخلط حساباته، وتدفعه إلى اتخاذ قرار مشهود بحل البرلمان فوراً، في خضم استحقاقات مصيرية وأحداث كبرى، ليس أقلها الألعاب الأولمبية الوشيكة التي تثير مخاوف امنية كبيرة حتى من دون انتخابات. وليست فرنسا وحدها التي في مرمى طموحات جورجيا ميلوني ويمينها الإيطالي المتطرّف، بل قالت، بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل، “نريد أن نفعل في أوروبا ما فعلناه بالضبط في إيطاليا في 25 سبتمبر/ أيلول 2022، أي إنشاء غالبية توحّد قوى اليمين لإعادة اليسار إلى المعارضة في نهاية المطاف، حتى في أوروبا”… ثم أعلنت أنها ستكون على رأس القائمة الأوروبية!
يزحف اليمين المتطرّف على أوروبا، ومعه تزداد المخاوف داخل دول الاتحاد وبين الجاليات المهاجرة وفي الجوار، ولعله من المصادفات العجيبة أن يبدأ صعود اليمين المتطرّف في أوروبا الى أعلى مراتب السلطة، من إيطاليا بالذات التي شهدت قبل 67 عاما وضع اللبنة الأولى للبناء الأوروبي بتوقيع معاهدة ما عرفت آنذاك “المجموعة الأوروبية المشتركة”، وأن تجسّد هذا اليمين المخيف امرأة في أواخر عقدها الرابع، مفعمة بالحيوية والطاقة، طليقة اللسان، جريئة، تُحسن اللعب على الأوتار الأكثر حساسية لدى شعبها، وتخاطب جيرانها بما يفهمون، أي بلغتهم الأم، وهو ما فعلته جزئيا في خطابها الثأري من ماكرون… ولا تتردّد في طرق الأبواب وترتيب زيارات رسمية إلى الدولة التي ترى فيها شريكا مفيدا في حلّ معضلة ما تواجه بلدها وهو ما فعلته مع تونس أكثر من مرّة فيحل ركبها وتخصص معظم جدول زيارتها لمسألة الهجرة غير الشرعية التي تقضّ مضاجع ضفتي المتوسط الجنوبية والشمالية عبر بوّابات محدّدة تعتبر تونس وإيطاليا أهمها وأخطرها. … ومع التوتر الكبير الذي تسبّبه هذه الزيارات لدى التونسيين وتطلعهم لحقيقة ما يجري خلف كواليس المفاوضات، تحافظ ميلوني، وهي مدركة الأجواء المحيطة بها، على ابتسامة عريضة منذ لحظة نزولها من الطائرة، وتتمسّك بها أو تتخفّى وراءها في لقطات عدسات المصورين، وتلتزم بلغة جسد تجعلها تبدو قريبة من روح مضيفيها وطباعهم … تمتزج فيها العفوية المدروسة بحركةٍ سريعةٍ تلمّح إلى الاستعجال والرغبة في تحقيق الأهداف، من دون إهدار للجهد والوقت … حتى أن التونسيين، وهم متوجّسون وساخطون، أطلقوا نكتةً أن “جورجيا ميلوني هي الشخص الوحيد القادر على جعل الرئيس قيس سعيّد يبتسم”، وتعود كل مرّة إلى روما وفي جعبتها إنجاز أو أكثر.
وفي الحرب المتوحّشة على غزّة التي قسمت العالم السياسي والإنساني، وتُحسب فيها كل كلمة على قائلها، نطقت ميلوني بما أملاه عليها فهمها الأحداث، ولم تلتزم بما هو مكتوب في الكتاب ليردّده الجميع بالنبرة ذاتها، فقالت بوضوح أزعج قادة الدول السبع وحكومة نتنياهو بشكل خاص إن “إسرائيل وقعت في الفخ الذي نصبته لها حماس، وكان يهدف إلى عزلها ويبدو أنه نجح”… ولم تحاول ميلوني أن تتراجع أو تعدّل أو تفسّر، بعد إطلاق تصريحها الذي وصفته صحيفة الغارديان البريطانية بأنه الأكثر إثارة للدهشة… “
هل تتعمّد ميلوني الظهور بمظهر مختلف وتبنّي خطاب أكثر مباشرة يقطع مع خطاب ومظهر يبدو أنهما باتا يثيران السأم لدى المجتمعات الأوروبية بالذات، وفقدت معه الثقة في وعود سياسييها وأولوياتهم وقراراتهم وأساليب حكمهم وإدارة الشؤون الداخلية لدولهم؟ وهل تسعى، من خلال ذلك كله، إلى تقديم نفسها نموذجاً ورمزاً قادراً على تبديد مشاعر الخوف من اليمين عموماً، من خلال تجربة حُكمها التي تقترب من عامها الثالث، وعلاقتها بعموم الإيطاليين حتى تشجّع مزيدا من المتردّدين على التصويت لليمين في أنحاء أوروبا في الاستحقاقات الانتخابية المتبقّية والوشيكة، طبعا من غير الجاليات المهاجرة؟ وهل تضع إيطاليا نصب عينيها، وهي تترقّب تلوّن أوروبا تماما بلون اليمين المتطرّف، لتجعلها في الصدارة وفي قلب الرحى، فيما يبدو نوعاً من التشفي لصورة إيطاليا داخل الاتحاد الأوروبي كإيطاليتين: واحدة مصنّعة ومزدهرة في الشمال وأخرى مفقرة تنهشها البطالة في الجنوب الأقرب إلى العالم النامي… ولمقولة متداولة أوروبيا إن ألمانيا مثلا هي عقل أوروبا وإيطاليا قلبها… والقلب يضخ الدم للشرايين، لكنه يبقى في اللاوعي موطن العواطف والمشاعر والانفعالات. وقد تكون لدى ميلوني رغبة في تغيير هذه الصورة على شاعريّتها إلى “إيطاليا العقل والقلب” معا.
من رأى رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، تلقي خطبا مصيرية، وتفاوض، وتحلل المواقف السياسية الشائكة، ثم وهي تصافح ماكرون، ثم وأخيراً وهي ترقص مع راقصين محليين بفستانٍ طويلٍ فضفاض في احتفالية تقليدية بمناسبة انتهاء قمّة السبع في منطقة أبوليا أو باري التي تظهر في الخريطة على شكل الكعب الذي تقف عليه إيطاليا بأكملها، وربما جزء مهم من أوروبا، قد يدرك أن جورجيا ميلوني لا تفعل شيئاً بالمصادفة، وأنها، بقدر ما تفضّل الخطاب المباشر، تحذق بالقدر نفسه بإرسال الرسائل المشفرة إلى اليمين واليسار وما بينهما.
المصدر: العربي الجديد