الصين تلتزم استراتيجية عدم تحريك ساكن في الشرق الأوسط

لورين بارني وآرون غلاسرمان

بكين تحتاج إلى ممر آمن من البحر الأحمر لكنها تريد من واشنطن أن توفره لها

الصين ستظل منافساً دبلوماسياً في الشرق الأوسط. وينبغي على واشنطن أن تتوقع من بكين أن تستمر في شجب الهيمنة الأميركية وتصوير نفسها كقوة عظمى أكثر اعتدالاً وبناءة.

شكّل الحوثيون في اليمن منذ أواخر عام 2023، تحدياً غير عادي للشحن العالمي. وقد اضطرت العديد من أكبر شركات الشحن الدولية إلى تغيير مسار سفنها حول أفريقيا لتجنب البحر الأحمر تماماً، جرّاء الهجمات المستمرة التي تشنها الجماعة المدعومة من قبل إيران على السفن التجارية في البحر الأحمر، وهي تهدف إلى الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها بشأن الحرب الإسرائيلية في غزة. ووفقاً لأحد التقديرات، فقد ارتفعت تكاليف الشحن من آسيا إلى أوروبا بنحو 300 في المئة في الفترة الممتدة من أكتوبر (تشرين الأول) ومارس (آذار). وفي محاولة لاحتواء الأزمة والدفاع عن هذا الممر التجاري الحيوي، نفذت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مئات الضربات الجوية ضد مواقع للحوثيين في اليمن.

ومع ذلك، ظلت الصين، التي تشكل تجارتها العالمية الضخمة جزءاً كبيراً من حركة المرور في البحر الأحمر، تقف موقف المتفرج إلى حد بعيد. ترسل بكين بضائع بقيمة 280 مليار دولار (نحو 220 مليار جنيه استرليني) سنوياً عبر مضيق باب المندب على البحر الأحمر، وهو ما يمثل نحو 20 في المئة من إجمالي تجارة الصين البحرية. ونتيجة لهجمات الحوثيين، تواجه الصين تكاليف شحن متزايدة على نحو سريع [كما تعاني من] تعطل سلسلة التوريد في وقت يتعرض الاقتصاد الصيني أساساً للضغوط. ومع ذلك، لم تفعل بكين سوى القليل على سبيل الرد. وقد اقتصر [موقف] المسؤولين الصينيين أنفسهم على التأكيد في العلن على أهمية البحار الآمنة والمفتوحة، كما حاولوا في السر التفاوض مع الحوثيين وداعميهم الإيرانيين من أجل تأمين المرور الآمن للسفن المرتبطة بالصين، مع أن العديد من هذه السفن قد تعرض للهجوم.

وتثير سياسة ضبط النفس الذي تمارسها الصين في البحر الأحمر تساؤلات مهمة حول استراتيجيتها الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط. وقد بدا قبل الحرب الحالية في قطاع غزة، أن بكين كانت تؤكد على لعب دور متزايد في المنطقة، بما في ذلك دور وساطة لإجراء تطبيع دبلوماسي بين إيران والسعودية وتوسيع نطاق علاقاتها التجارية مع دول الخليج. ومن خلال ادعائهم الدفاع عن الفلسطينيين، يهدف الحوثيون إلى تعزيز مكانتهم في العالم العربي. ويشير بعض المراقبين إلى أن إحجام بكين عن مواجهة الجماعة يعود إلى جهد مماثل لا يخدم سوى مصلحتها الخاصة يهدف أيضاً إلى تعزيز نفوذها الإقليمي. وفي حين تتحمل الولايات المتحدة وحلفاؤها العبء والتكلفة المحتملة التي قد تدفعها من سمعتها بسبب التدخل العسكري، فإن الصين تستطيع أن تظهر بمظهر بطل الجنوب العالمي. وذهب مراقبون آخرون إلى أبعد من ذلك، من خلال الإشارة إلى أن الصين توافق ضمنياً على هجمات الحوثيين وتقوم بشكل متعمد بجعلها ممكنة من خلال تجارتها المستمرة مع إيران، الداعم الرئيس للحوثيين، وذلك كجزء من خطة أوسع لإثارة الفوضى في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

في الواقع، إن كلاً من هذين التفسيرين يتجاهل أولويات بكين الأعمق في المنطقة. وعلى رغم أن قادة الصين يشعرون بالسرور لتجنب التورط العسكري، وتسجيل نقاط دبلوماسية سهلة مع الحكومات الإقليمية في إطار القيام بذلك، فإنهم لا يرغبون في استمرار هجمات البحر الأحمر. وهم يعلمون أن لدى بلادهم الكثير من المصالح الاقتصادية والعسكرية على المحك. فبدلاً من تنامي الأزمة بشكل أكبر، يريد لها هؤلاء القادة أن تنتهي، ولكن من دون الاضطرار إلى إنفاق موارد بلادهم الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية من أجل بلوغ هذه النتيجة. ولا تعتمد الصين في نهاية المطاف على الفوضى لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وإنما على الاستقرار، وهو الهدف الذي ينطوي على تداعيات استراتيجية مهمة بالنسبة للولايات المتحدة في سياق سعيها لاحتواء الحرب في غزة.

مسألة فيه مجازفة

وفي وقت يبدو موقف الصين الاقتصادي متردد على نحو متزايد، إذ إن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط يشكل تهديداً هائلاً لاستقرارها الاقتصادي. ونظراً لأهمية المنطقة بالنسبة إلى تجارة الصين الدولية، فقد أشارت بكين إلى رغبتها في تأمين سلاسل التوريد الخاصة بها إلى دولها. في مقابلة أجرتها معه قناة “الجزيرة” في أبريل (نيسان)، وصف وزير الخارجية الصيني وانغ يي البحر الأحمر بأنه “ممر شحن دولي حيوي للسلع والطاقة”. وذكر أن “حماية سلامه واستقراره تساعد في الحفاظ على سلاسل التوريد العالمية من دون عوائق وتضمن [استمرار] النظام التجاري الدولي”.

وفي الواقع، تهدد هجمات الحوثيين على السفن التجارية سلاسل التوريد الصينية في المنطقة. وقد أجبرت الحملة العديد من شركات الشحن الدولية على إعادة توجيه سفنها إلى الطريق الأطول بكثير حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، ما أدى إلى إضافة أيام على الزمن الذي يستغرقه الشحن عادة ورفع تكاليف الوقود بنحو 40 في المئة. وعلاوة على ذلك، فإن ما يقرب من 70 في المئة من صادرات الصين إلى الولايات المتحدة تمر في العادة عبر البحر الأحمر، وتتحمل هذه التجارة الآن تكلفة شحن أعلى بكثير مما مضى إضافة إلى التأخير الطويل. وبالنسبة إلى بكين، فإن التوقيت لا يمكن أن يكون أسوأ. وفي مواجهة تباطؤ الاستهلاك المحلي وانهيار قطاع العقارات، تسعى الحكومة الصينية إلى تعزيز النمو من خلال تصدير السلع ذات القيمة العالية مثل السيارات وبطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية. ويشكل الشحن نسبة عالية نسبياً من التكلفة الإجمالية لهذه المنتجات، ما يجعلها عرضة بشكل خاص لارتفاع الأسعار أو هبوطها خلال فترة زمنية قصيرة.

ومن الممكن أن تؤدي الاضطرابات في التجارة العالمية إلى تعريض أمن الطاقة والغذاء في الصين إلى الخطر أيضاً. وفي الوقت الحالي، فإن واردات البلاد في هذين القطاعين الاستراتيجيين متنوعة بما يكفي لاستبعاد حصول أزمة كبرى، وذلك، حتى لو تمكن الحوثيون من إيقاف الشحن في البحر الأحمر بشكل كامل. إن وفرة محاصيل الحبوب في السنوات الأخيرة والاستخدام المتزايد للسيارات الكهربائية والطاقة النظيفة التي يجري انتاجها محلياً يوفران للصين طبقات إضافية من الحماية ضد أزمة الطاقة الناجمة عن [تعطيل] سلاسل التوريد. ومع ذلك، يتم تداول المواد الغذائية والهيدروكربونات في الأسواق العالمية، وبالتالي فهي حساسة للغاية حيال الاضطرابات أينما حدثت. وإلى جانب أزمة البحر الأحمر، تسببت حرب روسيا في أوكرانيا في انقطاعات كبيرة في شحنات الحبوب عبر البحر الأسود، كما أدى الجفاف وانخفاض مستويات المياه إلى الحد من كافة أشكال التجارة عبر قناة بنما. وكلما طال أمد هجمات الحوثيين، زادت نقاط الضغط هذه من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة في كل أنحاء العالم، بما في ذلك الصين.

وتعلم بكين أن استمرار الأزمة لفترة طويلة قد يعرض مصالحها الاقتصادية المتنامية حول البحر الأحمر إلى الخطر. وتملك الصين حصصاً كبيرة في عمليات الموانئ القريبة من قناة السويس، وهي تبلغ 20 في المئة في بورسعيد في الطرف الشمالي و25 في المئة في العين السخنة في الجنوب. ولديها خطط للاستثمار في محطات موانئ جديدة على ساحلي البحر. ويؤدي انخفاض الشحن إلى هبوط إيرادات الشركات الصينية المملوكة للدولة المشاركة في عمليات الموانئ والشركات الصينية الخاصة التي تنقل البضائع بين الصين وأوروبا. كما أن الضرر الذي يلحق بالاقتصاد المصري، الذي أصبحت حركة المرور في قناة السويس بمثابة شريان حياة له في السنوات الأخيرة، يعد أيضاً من الأخبار السيئة بالنسبة إلى الصين. والآن، أصبحت بكين رابع أكبر دائن لمصر، ولديها مليارات الدولارات على المحك في البلاد.

وعلاوة على ذلك، نصبت الصين نفسها كلاعب رئيس في التحول إلى الطاقة النظيفة في الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعلها صاحبة مصلحة راسخة في الاستقرار الاقتصادي في المنطقة وسلاسل التوريد. وفي يونيو2023، أبرمت شركة “هيومان هورايزونز” الصينية لإنتاج السيارات الكهربائية صفقة بقيمة 5.6 مليار دولار (نحو 4.4 مليار جنيه استرليني) مع السعودية. وفي ربيع هذا العام، وقعت الإمارات العربية المتحدة والصين مذكرة تفاهم جديدة في إطار مبادرة الحزام والطريق في بكين لتعميق مشاركتهما الاقتصادية، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا الخضراء.

وكشفت أزمة البحر الأحمر أيضاً عن وقوع بكين في تناقضات بشأن وجودها العسكري في المنطقة. فمنذ عام 2008، نشر سلاح البحرية التابع لجيش التحرير الشعبي الصيني أسطولاً من السفن في البحر [الأحمر]، بما في ذلك مدمرة وفرقاطة، للقيام بمهام مكافحة القرصنة وتعزيز مكانة الصين كقوة إقليمية صاعدة. كما أنها تحتفظ بقاعدتها البحرية الخارجية الوحيدة في جيبوتي، التي تطل على خليج عدن القريب. ومن الناحية النظرية، يمكن للصين استخدام قواتها في المنطقة للرد على الحوثيين أو لمرافقة السفن التجارية الآتية إلى البحر الأحمر والخارجة منه. ومع ذلك، فإن إحجام الصين عن حماية سفنها التجارية يسلط الضوء على نفورها العام من التدخل العسكري، حتى في حالة وجود قاعدة لها قريبة من الصراع وحين تكون مصالحها الاقتصادية الخاصة على المحك. وكلما طال أمد الهجمات، زاد الخطر من أن تجد بكين نفسها في موقف تضطر فيه إلى نشر قواتها البحرية والتورط بشكل مباشر في الصراع. ومن المفارقة أنه نظراً إلى الأولوية التي توليها الصين لتجنب التورط العسكري، فإن الأصول البحرية الصينية في المنطقة يمكن أن تشكل عائقاً [أمام قرار الوقوف موقف المتفرج]، إذا استغرقت حملة الحوثيين زمناً طويلاً.

فوضى أقل، تحكم أكبر

وعلى رغم الأصول الاقتصادية والعسكرية التي تملكها بكين في المنطقة، فقد أشار البعض في واشنطن إلى أن القادة الصينين يستفيدون من مأزق البحر الأحمر. وفي مقال نشر في مجلة “فورين أفيرز” في أبريل، قال نائب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق مات بوتينجر وعضو الكونغرس الأميركي السابق مايك غالاغر، إن تقاعس بكين في ما يتعلق بهجمات الحوثيين كان جزءاً من “سياسة الرئيس الصيني شي جينبينغ لإثارة الفوضى العالمية”. “ووفقاً لهذه النظرية، من المفترض أن تستفيد الصين من الأزمات العالمية التي تتورط فيها الولايات المتحدة وتسعى إلى تأجيجها، وبالتالي تكشف ضعف واشنطن في إدارة النظام الدولي الذي يقوده الغرب.

ومع ذلك فإن هذا المنطق يشوّه حسابات الصين. مما لا شك فيه أن بكين ترى نفسها قوة صاعدة، وقد أوضح القادة الصينيون أنهم غير راضين عن قيادة أميركا للشؤون العالمية. وعلى المدى القصير، قد تجني الصين بعض الفوائد من البقاء على هامش التدخلات العسكرية الأميركية المثيرة للجدل. غير أن هذا لا يعني أنها تريد تشجيع الصراع في أنحاء العالم كافة. وهذا صحيح بشكل خاص في الشرق الأوسط. وإذا تطورت أزمة البحر الأحمر أو الحرب في غزة إلى حرب أوسع نطاقاً، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة تقلبات التجارة والاستثمارات الصينية في جميع أنحاء المنطقة.

إن النظرية القائلة بأن بكين تزرع الفوضى عمداً تخطئ في فهمها لصعود الصين نفسه. وقد نشرت المؤسسات والمراكز البحثية البارزة في الصين خلال السنوات الأخيرة، نظريات حول “القوانين العامة” التي تحكم صعود القوى العظمى وسقوطها. ووفقاً لهذه النماذج، مرّ العالم بسلسلة من “دورات” القوى العظمى على امتداد نصف الألفية الأخيرة أو نحو ذلك، بما في ذلك دورات الإسبانيين والبرتغاليين في القرن السادس عشر، والهولنديين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم البريطانيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ومن وجهة نظر الصين، فقد استمرت كل من هذه الدورات لمدة مئة عام تقريباً وانتهت بالفوضى والاضطرابات، وتواصل هيمنة الولايات المتحدة التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية السير في هذا الاتجاه. في مقال نشر عام 2021، وصف وانغ هونغانغ، الباحث في المعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة في بكين، المرحلة النهائية من هذه الدورة بأنها “أزمة عالمية”، وهي فترة امتدت عقوداً من الزمن وسادها الدمار والمنافسة الشرسة بين الدول.

وقد أوضح شي جينبينغ أنه يؤيد هذه النظرية. وقد تحدث اعتباراً من عام 2018 باستمرار عن “تغيرات لم نشهدها منذ قرن”، في ما بدا أنه كان تلميحاً إلى الاضطرابات والابتكار المرتبط بتآكل القوة الأميركية، بدءاً من الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وردود الفعل الشعبوية المستمرة ضد الديمقراطية الليبرالية، وصولاً إلى التقدم السريع الذي حدث أخيراً في مجال التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي. ويأمل كبار المسؤولين والأكاديميين في الصين، ولعلهم يعتقدون بصدق، في أن هذه التغييرات سوف تمكن بلادهم من تحقيق الهيمنة في دورة ما بعد أميركا. إلا أنهم يعرفون حق المعرفة أيضاً التحديات التي يتعين على بكين مواجهتها من أجل النجاة من الاضطرابات. وقد حشد شي جينبينغ جهاز الدعاية التابع للحزب الشيوعي الصيني بغرض تعزيز “الوعي بالكارثة”، أي الاستعداد الهادئ واليقظ لانتهاز الفرص الناشئة عن الكارثة، والتأكد من استعداد مسؤولي الحزب لمواجهة “المجازفات والتحديات الكبرى” التي تنتظرهم.

ونتيجة لذلك، سعت بكين إلى تقليل تعرضها لعدم الاستقرار العالمي وتعظيم قدرتها على البقاء والتكيف. ويعني هذا على مستوى الاستراتيجية الكبرى تنويع سلاسل التوريد وطرق التجارة من أجل توفير طرق للتغلب على الصراعات المحلية أو الإقليمية أو للحدّ من تأثير العقوبات الاقتصادية المحتملة. وكما قال المحلل الجيوسياسي باراج خانا أخيراً، فإن هجمات الحوثيين على الشحن البحري في البحر الأحمر هي مثال واضح تحديداً على نوع الأخطار التي تهدف مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى التخفيف منها. فمن خلال بناء المزيد من سلاسل التوريد المتنوعة، يمكن للصين أن تعزل نفسها بشكل أفضل عن أي ارتفاع أو انخفاض في العرض، سواء كان ناجماً عن أحداث جيوسياسية أو عن تغير المناخ. وتعمل البلاد أيضاً على تعزيز طرق التجارة البرية، مثل ممر السكك الحديدية عبر آسيا الوسطى إلى أوروبا، والذي يمكن أن يكون بمثابة محطات دعم [لمعالجة تداعيات] الاضطرابات على طول طرق الشحن الرئيسة. وعلى المنوال نفسه، عملت بكين جاهدة على مدى العقد الماضي من أجل تعويض اعتمادها على الذرة والقمح ولحوم البقر الأميركية من خلال توسيع نطاق تجارة السلع الأساسية مع الأرجنتين والبرازيل ودول أميركا اللاتينية الأخرى، فضلاً عن آسيا.

وتتجلى هذه الاستراتيجيات بسهولة في دبلوماسية بكين في الشرق الأوسط. وفي عام 2021، دخلت الصين في شراكة لها قيمة في مجال الطاقة والاقتصاد مع إيران، التي هي الأخرى توجه انتقادات صريحة للنظام الذي يهيمن عليه الغرب. كما أقامت “شراكات استراتيجية” وطورتها مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك الإمارات في عام 2012 والمملكة العربية السعودية في عام 2022. وتواصل تعمّيق تأثيرها في الدول العربية من خلال منتدى التعاون بين الصين والدول العربية. وبعيداً من قيامها بتوسيع نفوذها الدبلوماسي، كما أظهرت في مارس 2023 وساطتها الرامية إلى تحقيق تقارب إيراني سعودي، ترى بكين أن هذه الاتفاقيات وسيلة لتأمين الوصول على نحو يمكن الوثوق به إلى الطاقة وبناء البنية التحتية.

التهرب الاستراتيجي

لا يظهر الحوثيون في الوقت الحالي أية علامات على تخفيف قبضتهم الخانقة على البحر الأحمر. وفي الشهادة التي أدلت بها أمام لجنة بمجلس الشيوخ في أوائل شهر مايو، توقعت أفريل هاينز مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أن التهديد بشن هجوم ما “سيظل نشطاً لبعض الوقت”. وتتكهن شركة الشحن الدولية “ميرسك” أن تستمر اضطرابات الشحن خلال عام 2024، وذكرت أن “منطقة الخطر قد اتسعت، وأن الهجمات تصل إلى مناطق أكثر بعداً في البحر”. وفي الواقع، أصابت صواريخ الحوثيين ومسيراتهم عدة سفن تجارية في جولة من الهجمات في الأسبوع الأول من يونيو، كما شنت الجماعة أيضاً هجوماً على حاملة طائرات أميركية، على رغم أن المسؤولين الأميركيين يؤكدون أن الهجوم لم ينجح.

وعلى رغم أن مثل هذه الضربات تهدد أيضاً المصالح الصينية في المنطقة، إلا أن خيارات بكين تبقى محدودة. وهي تعلم أن أي رد عسكري قد تقوم به لن يكون أكثر نجاحاً من رد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما تحتاج إلى الحفاظ على دعم زعماء الشرق الأوسط في محاولتها من أجل سدّ الفجوات التي خلّفها الغرب في كل أنحاء المنطقة. ونتيجة لهذا فمن المرجح أن ترد الصين بالمزيد من الشيء ذاته، فتبذل كل ما في وسعها بهدف حماية مصالحها، وتجنب المزيد من التشابكات، والصمود في وجه الاضطرابات في المستقبل.

وتماشياً مع وجهة نظرهم القائلة بأن القوة الأميركية آخذة في الانحدار، فسوف يستمر القادة الصينيون في تسجيل نقاط دبلوماسية سهلة في الشرق الأوسط حيث يمكنهم ذلك. وهكذا، في أبريل، دعوا أعضاء المنظمتين الفلسطينيتين المتنافستين، “حماس” و”فتح”، إلى بكين للتشجيع على المصالحة ووضع الخطوط العريضة لحكومة وحدة محتملة في غزة والضفة الغربية في أعقاب الحرب، وذلك مهما كانت مثل هذه الخطة بعيدة المنال في الوقت الحاضر. وكما يشير الاستطلاع الذي أجراه مايكل روبنز وأماني جمال ومارك تيسلر في أواخر عام 2023 وأوائل عام 2024، فقد شهد رأي المواطنين العرب بالصين قدراً من التحسن منذ 7 أكتوبر، على رغم أن قلة من المشاركين اتفقوا على أن الصين ملتزمة جدياً بحماية حقوق الفلسطينيين.

وفي نهاية المطاف، تسعى الصين في الشرق الأوسط إلى ما تسعى إليه في أماكن أخرى، وهو توسيع علاقاتها التجارية، وتنويع مصادر وارداتها من الطاقة والغذاء، والتأكيد على نفوذها المتنامي كقوة عظمى، وكل هذا في الوقت الذي تتجنب فيه التورط عسكرياً. ويدرك القادة الصينيون أن المعارضة الخطابية للهيمنة الغربية في المنطقة هي وسيلة ذات تكلفة بسيطة للحصول على دعم أوسع، وخصوصاً في الجنوب العالمي. إن أولويتهم الكبرى ليست غرس المزيد من [بذور] عدم الاستقرار، وإنما حماية مصالح الصين والتكيف مع البيئة الجيوسياسية التي تعتبر مصدر خطر عليها. ولبلوغ هذا الهدف، قد يستخدمون أساليب ساخرة وانتهازية، لكنها تقوم على إدارة الأزمات، وليس على خلق المزيد منها.

وهذا يعني بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أن الصين ستظل منافساً دبلوماسياً في الشرق الأوسط. وينبغي على واشنطن أن تتوقع من بكين أن تستمر في شجب الهيمنة الأميركية وتصوير نفسها كقوة عظمى أكثر اعتدالاً وبناءة. بيد أن الخطاب المثير للجدل لا ينبغي أن يمنع صنّاع السياسات في الولايات المتحدة من إدراك أن مصالح الصين الحقيقية تكمن في البقاء خارج الصراع وانتزاع ما يمكنها من المكاسب، تاركة مسؤولية استعادة الاستقرار الإقليمي لدول أخرى. لن تكون الصين على استعداد لبذل الكثير من الجهد من أجل السلام، إلا أنها لن تحبط العملية [الرامية إلى تحقيقه] أيضاً.

*مترجم من فورين أفيرز، 13 يونيو (حزيران) 2024.

 

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الصين ستظل منافساً دبلوماسياً للهيمنة الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط، لذلك ستعمل عل شجب هذه الهيمنة وتصوير نفسها كقوة عظمى أكثر اعتدالاً وبناءة لدول المنطقة، وما يجري بالبحر الأحمر ، والتنافس بين حماس وفتح ، وتنمي نفوذها كقوة عظمى مع دول المنطقة “السعودية- إيران” خاصة ، وتنظر عن بعد دون ملتزمة استراتيجية عدم تحريك ساكن، بتسجيل نقاط على الطرف الآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى