إذا كان للموت من مأثرة تذكر فهي أنه يذكرنا أحيانا بالعمالقة والمبدعين الكبار الذين نسيناهم , وخاصة إذا كان هؤلاء من وزن وحجم المفكرين الكبيرين كلوفيس مقصود ومحمد المجذوب رحمهما الله , اللذين رحلا في يوم واحد , وهي مصادفة قدرية قاسية . ومصادفة أقسى أن يختار القدر لهما الرحيل في يوم الخامس عشر من أيار/ مايو , أكثر أيام العرب في القرن العشرين سوادا . لأنه يوم حدادهم المستمر !.
في هذا اليوم عام 1916 توصل سادة النظام الدولي الكولونيالي في حينها , الفرنسيون والبريطانيون الى صفقة أو اتفاق سايكس – بيكوالذي يقتسم الشرق الاوسط وتركة السلطنة العثمانية , وهو الاتفاق الذي ما زلنا اسرى له ولمقرراته التي لم يشارك في صنعها عربي واحد , وفرض علىهم جميعا التزامها , والويل لمن يحاول انتهاكها !
وشهد هذا اليوم أيضا اعلان قيام دولة اسرائيل عام 1948 على ارض فلسطين في قلب الوطن العربي , وهو الحدث الذي غير حياة العرب جميعا تغييرا جذريا , وخاصة عرب المشرق .
إنه إذا الخامس عشر من أيار/ مايو , وعلينا أن نتوقع دائما مفاجآته المشؤومة , وآخرها وفاة المفكرين الكبيرين في هذا اليوم بالذات .
الرجلان ليسا عاديين , بل عملاقان كرسا حياتهما الفكرية والعملية لخدمة النضال العربي في سبيل الاستقلال والتحرر والتخلص من أثار سايكس بيكو أولا . والنضال لاستعادة فلسطين إلى أصحابها ثانيا ,وتحقيق وحدتهما القومية .
الرجلان مفكران اكاديميان أورثانا ميراثا غنيا بالمؤلفات العلمية والثقافية والسياسية الممتازة . والاثنان امتازا بسيرة حافلة بالعطاء الوفير والسخي تترجم أفكارهما الى مسيرة طويلة وعمل دائم يعكس مصداقيتهما المشهودة وانغماسهما العميق والتام في نضال أمتهما الدائم , نضال يتسم بالعقلانية والمنهجية العلمية الرصينة .
وإذا كانت هذه المعالم والمحطات بديهية للدكتور المجذوب لأنه عاش معظم حياته في بلده لبنان فاعلا ومتفاعلا مع أحداثه وتطوراته خلال نصف قرن بحكم الواقع والضرورة , ولم يكن لرجل مثله أن يكون الا كما كان , وطنيا , عروبيا , تحرريا , يساريا, مثقفا مشغولا بهموم الفكر والنضال , ابنا بارا لبيئته الاسلامية معتدلا , بريئا من اللوثة الطائفية والمذهبية والعنصرية , فإن اجتماع هذه الصفات في شخصية مثل كلوفيس تكتسب قيمة مضاعفة, وهو اللبناني الذي ولد في المهجر الامريكي , ونشأ وتلقى تعليمه فيه, ولكنه رغم ذلك عاد بجسده وفكره وقلبه الى لبنان والوطن العربي , ووضع نفسه في معترك النضال القومي , وأصبح ( سفيرا ) للجامعة العربية لسنوات طويلة في امريكا والهند , وهذه الوظيفة بالنسبة له كانت رسالة نبوية ومهمة نضالية أكثر مما هي مهنة ديبلوماسية تتيح لشاغلها حياة النخبة الناعمة , ولا هي منصب رفيع وحسب .
كلوفيس مقصود شخصية عملاقة بحق , وسيرته الحافلة بالحركة والعطاء والغيرة الصادقة على العروبة والعرب تعكس انتماء قوميا نموذجيا يستحضر قيم الريادة وتجارب الرواد الأوائل في عصر النهضة ونضالات القوميين العرب التاريخيين , وتجسد سيرته وحركيته بين بيروت والقاهرة ودمشق تاريخا مشرفا, وكذلك دوره النضالي على المسرح الدولي , ولا يمكن لموضوعي إلا أن يشيد بدوره في نيويورك وهو يقاتل كجندي شجاع دفاعا عن القضايا العربية ويدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني , كما لا يمكننا نسيان أو تجاهل تجربته المميزة في الهند سفيرا للجامعة العربية إبان العصر الذهبي للعلاقات العربية – الهندية , إذ أنه لم يكن مجرد موظف يؤدي وظيفته لأن كتابته عنها فيما بعد أبرزته مؤرخا ومحللا اكاديميا وفاعلا مؤثرا , وأظهرته شاهدا وثيق الصلة وموثوق الرواية عن ظروف ارتقائها وما قدمته للعرب ولشعوب العالم الثالث في تلك الحقبة الساخنة من تاريخنا المعاصر .
كلوفيس مقصود ورفيق رحلته محمد المجذوب وجهان لبنانيان راقيان , ونموذجان لمفكري النهضة والرواد الكبار, ومكونان أصيلان في معادلة الانسجام الوطني اللبناني في اطار الانسجام العربي , وهما أيضا عنوانان وصورتان لدورلبناني كان حقيقة حية , ومميزا على الساحة الاقليمية والدولية , وهو دور يفتقده اللبنانيون الآن, ويفتقده العرب في لبنان الضائع المضيع الذي فقد هويته وخرج عن محوره التاريخي والجغرافي , وأصبح يحلق في فضاء واسع خارج الجاذبية الواقعية .
رحم الله الرجلين اللذين سنتذكرهما دائما , لأنه لا غنى لنا ولأجيالنا القادمة عن تراثهما الفكري وسيرتهما النضالية , واستلهام تجاربهما الغنية .
================================================
هذا المقال منشور من مجلة الشراع اللبنانية، العدد 328 , الصادر في بيروت بتاريخ 20 – 5 – 2016
كان رحيل العملاقين والمبدعين االمفكرين العروبيين الكبيرين كلوفيس مقصود ومحمد المجذوب رحمهما الله في يوم واحد الخامس عشر من أيار/ مايو, مصادفة قدرية قاسية. لأنه يوم حداد العرب بالقرن العشرين المستمر، إنه يوم إغتصاب فلسطين، رحم الله الكاتب والمناضل العروبي محمد خليفة الذى قدم تأبين يليق بهما، الله يرحمهم ويسكنهم الفردوس الأعلى.