منذ انفجار الربيع العربى المجازى، وفشل مراحل الانتقال السياسي، وضعف أداء النخب السياسية والجماعات الثقافية التى ظهرت خلاله، يطرح سؤال أين النخب وأدوارها وخبراتها السياسية؟ أين المثقفين ووظائفهم التاريخية منذ قضية درايفوس التاريخية مروراً بتطور فرنسا وأوربا الحديثة والمعاصرة ، وحتى مراحل التحرر الوطنى، والاستقلال، وما بعد الكولونيالية لمثقفي الجنوب والعالم العربي؟ أين هؤلاء فى ظل الثورة الرقمية؟ هل هناك عقل رقمى نخبوى في مواجهة او بالموازاة مع عقل الجموع الرقمية الغفيرة ؟
بعض الإجابات الشائعة تركز على حالة السياجات السياسىية وقيودها على العقل العربى المعتقل فى ظل إغلاق المجال العام السياسى، وضغوط العقل الدينى النقلى، وجماعات الإسلام السياسى التى قفزت من بين القواعد الاجتماعية العريضة إلى السلطة وفشلها ، والقيود التى فرضتها على الحياة العقلية، والإبداع والهندسة الدينية للحياة الشخصية والجماعية والسلوك الاجتماعي وأقنعته وازدواجيته، ولغة الحياة اليومية، وفق تفسيراتها السياسية المتشددة للنصوص الدينية، وللسرديات التأويلية الوضعية لها والمتناقضة مع غالبها! هذا النمط من الإجابات يحملُ نسبيا بعض من الإجابات الجزئية المحدودة على الأسئلة السابقة، إلا أنها تحملُ بعض من الضباب السببي والتحليلى، والأبتعاد والأنفصال وعدم متابعة لبعض من التحولات الكبرى التي تمت فى عالمنا، وإقليمنا العربى، وعلى رأسها الانفصال عن التحولات الرقمية، وأيضا عدم دراسة التغيرات فى وضعية المثقفين فى المجتمعات الغربية -فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا..الخ التي عرفت المثقف وادواره- إجابات تبدو في بعضها ساكنة، وقديمة، وعامة لا تجيب فقط علي هذه الأسئلة، بل وتصلح للإجابة عن غالب الأسئلة السياسية، والاجتماعية المثارة حول تخلفنا التاريخي المركب، ومن ثم لا تجيب غالبً على شئ!
أسئلة، وإجابات تتناسل من حالة الانفصال المزدوج بين العقل العام، وبين دراسة واقعه الفعلى، والرقمى، وبين تحولات عالمنا فائق التطور، والتحول فى الشمال، وآسيا الناهضة.
تراجع دور المثقف، والخطاب حول نهايته بدأ منذ انهيار الإمبراطورية الماركسية السياسية، ونهاية السرديات الكبرى -وفق جان فرنسوا ليوتار- ، والتحول إلى النيوليبرالية، وهيمنتها على عالمنا، ومعها الإمبراطورية الأمريكية، وصعود بعض الدول الآسيوية الناهضة، تكنولوجيا وعلميا واقتصاديا.
كرس نهايات المثقف، وأدواره السياسية والاجتماعية والنقدية – لمنظومة المحرمات الاجتماعية، ودوره في الهدم الخلاق للأبنية والقيم التي تعرقل التطور الإنساني- ، وفى إنتاج الوعى الاجتماعى، والسياسى، ، وفي القطيعة المعرفية مع الانساق المعرفية التي أفلت وظائفها ! وهو ما يرجع أيضا إلي تكاثر بعض أزمات النظم السياسية الليبرالية التمثيلية، خاصة مع التغيرات الجيلية الشابة من أبناء الثورة الرقمية التي أدت إلي تمايزات عن أجيال مابعد الحربين العالمية الثانية ومابعد الحرب الباردة وذلك في أنساق القيم والتوجهات والسلوك الاجتماعى والسياسى، لاسيما في ظل هيمنة أنماط استهلاكية مفرطة فى سياقات النيوليبرالية الاقتصادية، وانفجار حالات عارمة من تسليع الثقافات، والعالم، وأنماط الحياة، والرغبات والمشاعر، والحواس والسلع والخدمات، وتمدد بعض منها إلي دول جنوب العالم، والمجتمعات العربية، “فى دول العسر، وشيوعها المفرط فى دول اليسر، وهو ما أدي إلي انفصال عن الثقافة العالمة إلي السلع الثقافية الترفيهية!، ومن ثم إلي ظهور أنماط من استهلاك سريع جدا للموسيقي والغناء والمطربين والمطربات، والممثلين والممثلات ومعهم مفهوم الشهرة والذيوع ! مع الثورة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي ومواقعه !
بعض الفكر الفلسفى والسوسيولوجى الغربي، ظل يتابع هذه التحولات الكبرى، وتحليلها، من خلال بعض المقاربات القديمة، والجديدة إلا أن تراجع الفكر الماركسى واليسارى -فى أعقاب نهاية الحرب الباردة- أثرجزئياً وسلبا على بعض من أثر البحوث علي الحياة الفكرية والسياسية والإجتماعية والثقافية، وفى محدودية بعضها لصالح الدور الكبير للبحوث العلمية والتكنولوجية والذكاء الإصطناعي في التأثير على مسارات السياسات النيوليبرالية، فى تطبيقاتها العملية، وعلى ثورة الاستهلاك المفرط وتشكيلها للإنسان المُستهلك، والمنهك وراء رغباته ودوافعه، وتفكيره فى استهلاك السلع والخدمات، ومن ثم انشغال العقل بعالم الاستهلاك، والخدمات وإنتاج العقل المُستهلك! من خلال أدوار وتأثير الثورة الرقمية والذكاء الإصطناعي .
لا شك أن التحول إلى النيوليبرالية، مع الرقمنة أدى إلى عديد الانعكاسات على أفق التفكير، ومفاهيم السعادة، والحرية، والسياسة، والعدالة والزمن المتسارع بوتائر فائقة، على نحو أثر على عقل العوام الرقميين ومن ثم علي فاعلية الأحزاب السياسية، وعلى مدى قدرتها على تمثيل المصالح الاجتماعية والاقتصادية، والتعبير السياسى عن قواعدها الطبقية من خلال النماذج والنظم السياسية الديمقراطية! ولجوء الشباب إلي الحياة الرقمية لممارسة الضغوط علي صناع السياسات والقرارات وعلي المعارضات السياسية .
الأخطر أن الرأسمال الخبراتى السياسى للطبقات السياسية الحاكمة، والمعارضة فى المجتمعات الديمقراطية الغربية، اتسم ببعض من الهشاشة، والضعف، على نحو ما ظهر، ولا يزال فى مواجهة بعض المشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وفى التعامل مع بعض الأزمات الدولية، وتأثير السياسة الأمريكية، ومصالحها الكونية والوطنية على بعض من قرارات السياسة الخارجية للمجموعة الأوروبية، وهو ما ظهر فى الحرب الروسية الأوكرانية، وأيضا فى حرب الإبادة الإسرائيلية على السكان المدنيين فى قطاع غزة! والدعم والمساندة العسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية والسياسية للعدوان الإسرائيلى الكولونيالى على القطاع، بدعوى زائفة، هي حق الدفاع الشرعى “للاحتلال” عن نفسه !، ونسيان حق المقاومة المشروعة، وتقرير المصير للفلسطينيين إزاء المستعمر الاستيطانى بأسم الأساطير التأويلية السياسية التوراتية !.
الأهم هذا الانحياز الأعمى لبعض الفلاسفة -هبرماس مثلا-، والأكاديميين الغربيين، ومؤسساتهم الجامعية والبحثية لإسرائيل، ومعهم الغالبية الساحقة من أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والصحف والمجلات، إلا فيما ندر من آراء ومقابلات رافضة للمذبحة والإبادة الجماعية، والتجويع، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتحطيم المستشفيات، وبعض مراكز العبادة المسيحية والإسلامية، وحالة الحصار والعقاب الجماعى للقطاع!
لا شك أن الحرب الغاشمة على القطاع، كشفت أيضا عن نهاية الدور النقدى التاريخي الحداثي، وما بعد الكولونيالى للمثقف الغربى، فى السعى والبحث عن الحقيقة، فى ذروة الأزمات الكبرى، واتخاذ المواقف النقدية الشجاعة فى مواجهة السلطة السياسية، ومواقف الجموع إزاءها، وتفكيكها، وهدمها الخلاق، واتخاذ الموقف المناصر للشعوب المحتلة، وحقها فى الدفاع الشرعى ضد المحتل، وتقرير مصيرها، والأهم الدفاع عن الوجود الإنسانى فى ذاته- أيا كانت عرقه، وديانته ومذهبه، وأرضه، وتاريخه وقوميته وحضوره علي الجغرافيا السياسية لاقاليم العالم..الخ-، وعن حريته واختياراته. الأدوار ما بعد الكولونيالية للمثقف، تراجعت لصالح أدوار خبراء المناطق فى الولايات المتحدة ومراكز البحث والجامعات وامتدت إلى أوروبا، وحلول خبير المنطقة بديلا عن المستشرق الكلاسيكى فى دراسة العالم العربى، من هنا تراجع أيضا دور المستشرق، وبعض أدوار القلة منهم، وخاصة بعض من جماعات الأستشراق الألمانية، والنمساوية، والفرنسية! من ثم ظهرت تحيزات خبراء المنطقة السياسية لصالح دعم إسرائيل وحربها الإبادية للشعب الفلسطيني خشية علي مصالحهم وأوضاعهم داخل مراكز البحث والجامعات ، والخوف من فصلهم او دفعهم للاستقالة . ثمة قلة وبعضهم يهودى الديانة، اتخذوا مواقف نقدية رافضة لليمين التوراتى السياسى المتطرف، والمتعصب وخطابه العدوانى الداعم للتطهير العرقى، والنزوح القسرى، والإبادة والقتل للفلسطينيين.
المواقف الأمريكية المنحازة لإسرائيل ودعمها عسكريا واقتصاديا وسياسيا وديبلوماسياً فرضت قيوداً علي الحريات الجامعية ومنها حرية الطلاب وبعض الأساتذة في الجامعات الكبرى في التعبير عن اراءهم ، وقام الكونجرس بأستجواب وطرح الأسئلة حول معاداة السامية ! ، وممارسة الضغوط علي بعض رؤساء الجامعات الكبرى مثل هارفارد – كلودين جاري- وبنسلفانيا – ليز ماجيل- ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – سالي كورنبلوت – وادي علي نحو دفعت هذه الضغوط والتنمر وبعض الأنتقادات والتنمر إلي استقالة رئيسة جامعة هارفارد وبنسلفانيا ، وذلك بمقولة انهن سمحن للطلاب بالتظاهر وطرح شعارات وخطابات معادية للسامية ! ، وهو مادفع نعمات شفيق رئيسة جامعة كولومبيا إلي طلب الأمن للتدخل لمنع التظاهرات، وتم القبض علي بعض الطلاب ، والأساتذة ، وهو ما حدث في جامعة نيويورك ،و كلية التجارة بها حيث تم اعتقال 100 من المتظاهرين – ومنهم الكاتب والأستاذ سنان أنطون، ود هالة حليم واخرين – طالبوا ” بالكشف عن الشركات الداعمة لها ماليا وهي ضالعة في الوقت نفسه في صنع وتوريد السلاح لإسرائيل “-، وجامعة ييل حيث اعتقلت الشرطة نحو50 طالبا في ييل ونيوهيفين ، وكونيكتكت ، وذلك علي الرغم من ان الطلاب في عديد المقابلات الإعلامية أكدوا أنهم ليسوا معادين للسامية وأن انتقاداتهم موجهة إلي الحكومة الإسرائيلية وسياساتها وداعميها . امتدت الأعتصامات إلي جامعات بيركلي ،وواشنطن ، وميتشيغان ، وميريلاند ، ونورث كارولينا . ثمة ضغوط واضحة علي حرية بعض الطلاب والأساتذة في التعبير عن اراءهم تجاه دعم هذه الجامعات لإسرائيل ، وبعض المشروعات العلمية مع نظائر لها في إسرائيل بينما تنتهك القوانين الدولية وتمارس حرب الإبادة علي المدنيين في القطاع وتحطم وتدمر المباني الخاصة والعامة ، والتهجير القسري للسكان ، والتجويع والتعطيش لهم ، واجتياح المستشفيات، والقبض علي بعض الأطباء والممرضين ، علي نحو خطير !
أدت الحرب على قطاع غزة إلى أفول تيار السلام الإسرائيلى الداعم لحل الدولتين، و”الدولة الواحدة ذات القوميتين”، والتى كان يدعمها اليسار الإسرائيلى، وحزب راكاح قبل وبعد اتفاقية كامب ديفيد! تراجع اليسار الإسرائيلى، كنتاج لتحولات المجتمع السياسى، والدينى الإسرائيلى نحو اليمين، واليمين المتطرف، ومعها تراجعت بعض الأصوات النقدية للسياسة الإسرائيلية الاستيطانية تجاه الشعب الفلسطينى، وباتت محدودة الأدوار، والأصوات، والتأثير السياسي على الرغم من بعض الانتقادات، لقلة قليلة ومحدودة جداً لسياسة مجلس الحرب المصغر، والعناصر المتطرفة لليمين التوراتى مثل سيموتريتش، وبن غافير وآخرين فى الحكومة اليمينية الموسعة!
أدت حرب الإبادة الإسرائيلية، إلى تصفية خطاب “ثقافة التطبيع” الذى تم الترويج له بعد اتفاقيتي كامب ديفيد، ووادى عربة، واتفاقيات إبراهام، وخاصة فى المجال الثقافى، والشعبى، وفى مناهج التعليم، والتربية، وسياسات الإعلام، نقلا عن تجربتى ألمانيا، واليابان فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفشلت مع “السلام البارد”، وسياسات الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية، وفشل اتفاقية أوسلو، ومعها قادة السلطة الفلسطينية فى الوصول إلى حل الدولتين، وخاصة أن الاستيطان حول الضفة الغربية تحول إلى شبكات من المستوطنات على أجزاء واسعة من أراضيها!
فى ظل هذه الأوضاع الدولية، والإقليمية المتوترة، وبعض الاضطراب السياسى، تحولت الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولى العام، وقانونى الحرب والدولى الإنسانى إلى أدوات يتم التلاعب بها، وعدم إنفاذها فى أيدى “الإدارة الأمريكية للحزب الديموقراطي ورئاسة بايدن”، والإدارات السياسية الأوروبية، ولا يؤبه بها من قبل الحكومة والدولة الإسرائيلية، على نحو أدى إلى فقدان قطاعات شعبية واسعة فى المنطقة الثقة بالمنظمة الدولية، وبالقانون الدولى وقواعد الشرعية الدولية التى تنتهك من قبل إسرائيل وجيش الاحتلال فى غزة، وغيرها من قضايا المنطقة.
لا شك أن بعض الأصوات الغربية الرافضة لهذه السياسة العدوانية ذات أهمية، مع قلة من بعض النشطاء الحقوقيين في الغرب والعالم من الأجيال الشابة على الواقع الرقمى، والفعلى، إلا أن بعضهم فى المنطقة صامت خشية من تأثير رفضهم للإبادة على التمويل الدولى لأنشطتهم! فى ظل هذه الأوضاع المضطربة، والتحولات الرقمية، وأزمات النخب السياسية والثقافية والأكاديمية، تراجع تأثير العقل النخبوى السياسى والثقافى والاكاديمي، لصالح العقل العام للجموع الرقمية الغفيرة ، وأدى إلى تحول فى بعض الأدوار الفعلية والرقمية لعقل النخب السياسية، والثقافية والأكاديمية الذى ضاع أثره، وسط الصخب الرقمى الذاعق! والسؤال كيف تأثر عقل النخب بالثورة الرقمية، وتراجع ادواره لصالح عقل الجموع الرقمية الغفيرة ؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم.
المصدر: الأهرام
ليس بالضرورة ان يعبر المقال كليا عن رأي الموقع
أين النخب العربية ودورها وخبراتها السياسية؟ أين المثقفين العرب الثوريين وأدوارهم التاريخية من التحرر الوطني والإستقلال؟ ليكون الفشل بالإنتقال السياسي بمعظم الأقاليم العربية التي مرت بالربيع العربى، ليثبت ضعف أداء النخب السياسية والجماعات الثقافية الثورية؟ ولتكون حرب غزة وتأثير الثورة الرقمية على عقلية النخب وطريقة تعاملها مع الحدث .