“حزب البعث قائد الدولة والمجتمع”، عبارة كانت غطاء لحكم سورية لأكثر من نصف قرن، تحت ستار من الشعارات الحزبية الرنانة، التي نادت بالوحدة والحرية والاشتراكية وتعظيم مطلق للعروبة، لكن سنوات الثورة السورية زادت تعرية هذه الشعارات، خاصة مع انخراط الحزب المباشر في قمع المتظاهرين السلميين.
هذه العبارة، وهي جوهر المادة الثامنة من الدستور السوري في 1973، حولت “البعث” إلى أداة للإمساك بمفاصل الدولة وهياكلها ومؤسساتها، من قبل الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، ونجله بشار، ورغم إلغاء المادة وسحبها من دستور 2012، لا تزال مفاعيلها سارية في العديد من وظائف الدولة حتى الآن.
ومع تقدم سنوات الثورة، وحصر نشاط الحزب في حدود سوريا بعد نزع صفة القومية عنه، يحاول النظام إعادة تفعيل دور الحزب في الشارع السوري، عبر ترتيب بيته الداخلي وضبط صفوفه وعلاقته مع الدول وداعميه، وتوسيع مشاركة “القواعد الحزبية” في اختيار ممثليهم لانتخابات مجلس الشعب التي ستجري في تموز المقبل.
وتحاول عنب بلدي في هذا الملف تسليط الضوء على أبرز التغييرات التنظيمية في الحزب، ومحاولة استثمار المرحلة الراهنة استعدادًا للتطورات المستقبلية، إلى جانب استشراف مستقبل الحزب في ضوء سيناريوهات الرؤية السياسية المقبلة لسوريا.
“البعث” والثورة.. خطوات لإحياء الحزب
خلال السنوات الماضية مر حزب “البعث” بتحولات كبيرة كشفت ترهله وهشاشة بنيته التنظيمية، وهو الأمر الذي اعتبره رئيس النظام والأمين العام لـ”حزب البعث”، بشار الأسد، في كلمة له بالذكرى الـ51 لوصول الحزب إلى الحكم في آذار 2014، “ظاهرة صحية”، ساعدت الحزب بالتخلص ممن وصفهم بـ“الانتهازيين”.
أبرز هذه التحولات كان انحياز الآلاف من أعضاء الحزب عن الرؤية الرسمية له، إلى جانب الانشقاقات الكثيرة التي طالته في الجيش والأمن، وفي المقابل انخرط الحزب كليًا في قمع الثورة السورية، عبر مشاركة “البعثيين” في مسيرات مضادة للمظاهرات، قبل التحول لاحقًا إلى العمل المسلح عبر “كتائب البعث” التي أُسست في عام 2012، لتكون ذراعًا رديفة لقوات النظام السوري تضم متطوعين ومتطوعات من معظم المحافظات السورية، وتشارك في معارك عسكرية في مختلف المناطق، تحت إشراف مباشر من قبل الأمين العام المساعد للحزب، هلال الهلال.
أضعف الانخراط في الثورة صفوف الحزب، وعانى تنظيميًا من العجز، ولم يعد قادرًا على التعبئة، بحسب ما قاله الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، لعنب بلدي، ليدخل الحزب مرحلة “انكفاء” كبيرة، لأن المشهد على الأرض تحول إلى العمل العسكري لمصلحة ميليشيات نشطت مع دخول إيران و”حزب الله” وروسيا.
هذا الترهل دفع الحزب للجوء إلى إجراءات وتغييرات استعدادًا من قبله للتماهي مع المرحلة السياسية المقبلة واحتمالاتها المتعددة، عن طريق عدة خطوات:
الخطوة الأولى كانت الانكفاء نحو الداخل، والتحول من الإطار الإقليمي إلى الإطار المحلي، من خلال تغيرات واستبدال اسم “القيادة المركزية لـ”حزب البعث” بـ”القيادة القطرية”، بحسب ما ذكرته صفحة الحزب الرسمية عبر “فيس بوك“، في تشرين الأول 2018، إذ لم يعد هناك “أمين قطري للحزب” بل “أمين عام”، وتحول الاسم التنظيمي من “الأمين القطري المساعد” إلى “الأمين العام المساعد”، وصار أعضاء “القيادة القطرية” أعضاء “القيادة المركزية”، إضافة إلى استبدال تسمية “المؤتمر العام” بـ”المؤتمر القطري”.
وأرجع الحزب هذه التغييرات، التي تعتبر الأولى من نوعها منذ تأسيسه في 1947، إلى “الحاجة لمواكبة تطورات الوضع الراهن والعمل القومي في الحزب”، بما يحقق “مصلحة الشعب”، في دلالة على تبدل في السياسة الداخلية لـحزب “البعث”، ما يعني أنه لم يعد حزبًا “عابرًا للحدود السورية” من الناحية التنظيمية.
الخطوة الثانية كانت الاعتماد على الشخصيات الشديدة الولاء، وكان من أهمها هلال الهلال، الذي بدأ بتحركات دبلوماسية نشطة داخل وخارج سوريا، وهو يمتلك عوامل شخصية ساعدته في ضبط حالة الترهل التي كانت موجودة بالحزب عبر الفكر الأمني الشديد الذي انتهجه في سياسته المحلية، بحسب طلاع.
وزار الهلال كلًا من الصين وروسيا، في تشرين الثاني 2019، بهدف التعاون بين حزب “البعث” وأحزاب الدولتين، من أجل تنسيق “مكافحة الإرهاب”، والتخطيط لمرحلة إعادة الإعمار، بحسب الرواية السورية الرسمية.
أما الخطوة الثالثة فكانت الاعتماد على آلية “الاستئناس”، لاختيار مرشحيه لانتخابات مجلس الشعب، التي تقوم على اختيار المرشحين من خلال مؤتمرات موسعة لأفرع الحزب، والاعتماد على آراء كوادره، في حين كانت عملية الاختيار سابقًا تقوم على اختيار الحزب مرشحيه بإصدار قوائم تُعرف باسم “قائمة الجبهة الوطنية “، التي تضم أيضًا مرشحي الأحزاب الأخرى المعترف بها والممثلة ضمن “الجبهة الوطنية التقدمية”.
واعتبر الأسد، في كلمة مكتوبة نشرها موقع “الحزب” ، في 15 من حزيران الحالي، أن “تجربة الاستئناس (…) دليل دامغ على ديناميكية البعث وتطوره، وقدرته على التكيف والانطلاق نحو المستقبل”، كما اعتبر أنه “كان لا بد من القيام بأهم إجراء يحفظ المؤسسة الحزبية ويطورها ويقويها، وهو توسيع مشاركة القواعد الحزبية في اختيار ممثليهم لمجلس الشعب (…) هذه الخطوة ضرورية لتجديده تنظيميًا وعقائديًا، وتشكل الرد الموضوعي والساطع على من وصفوه بالشمولية والتكلس والانفصال عن روح العصر”.
وبحسب الباحث معن طلاع، فإن الحزب في “الاستحقاقات الانتخابية” أدرك واستغل لعبة المحليات، مستفيدًا من ثغرة قانونية واضحة، وهي أن المادة الثامنة التي سُحبت من الدستور لا تزال مفاعيلها القانونية سارية في العديد من وظائف الدولة، وخاصة في وظيفتين: الأولى التي تتعلق بالجهات الأمنية والعسكرية، إذ لا يزال الحزب يمتلك إدارة التوجيه السياسي في الجيش، ويمكنه توزيع نشرات يومية إعلامية وسياسية، وبالتالي الجيش لا يزال يخضع للتنظيم الحزبي البعثي، أما الوظيفة الثانية فهي استمرار الرقابة على أجهزة الدولة بكل تفاصيلها.
محاولات الإحياء
تعطي هذه الخطوات والتحركات للحزب مؤشرات على محاولة التكيف مع الأوضاع الراهنة، ودفعه للعب دور أكثر فاعلية، عبر “إعادة تأهيل بعض الشرائح التي كانت حاضنة للفوضى والإرهاب، لكيلا تكون هذه الشرائح ثغرة يتم استهداف سوريا في المستقبل من خلالها”، بحسب تعبير الأسد في اجتماع “اللجنة المركزية” في تشرين الأول 2018.
اعترف الأسد بـ”أخطاء” أدت إلى تراجع دور الحزب، وهي طريقة اعتبرها الباحث السوري والأكاديمي عبد العزيز ديوب، “مناورة لتلبيس الحزب ثوب الفشل بدلًا عنه (عن الأسد)”، إلا أن السؤال المطروح هنا هو: إلى أي مدى سيكون النظام قادرًا على إعادة تفعيل دور الحزب؟
واعتبر الباحث الأكاديمي عبد العزيز ديوب، في حديث إلى عنب بلدي، أن تفعيل دور الحزب مخالف للمادة الثامنة التي حُذفت في دستور 2012، لكن الهدف كان إقصاء الأعضاء الذين استُهلكوا من خلال عملية “الاستئناس” التي اتُّبعت للترشيحات لمجلس الشعب، مؤكدًا أن “الحزب لم ولن يتطور بخطابه الخشبي”.
بينما يرى القيادي السابق في حزب “البعث”، الدكتور ناصر سابا، أن “الحزب الآن هو حزب عائلة الأسد، ونستطيع أن نطلق عليه مسمى (حزب المجموعة العسكرية)”، معتبرًا محاولة تفعيل دوره “كمن ينفخ في قربة مثقوبة”، وهدفه الأساسي هو الاستمرار والإمعان في تحقير فكرة “البعث” القائمة على جوهر أساسي هو الوحدة العربية، والتي يزعم النظام أنه يرفعها.
واعتبر سابا، في حديث إلى عنب بلدي، أن النظام يحاول مجددًا، بعد الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، استثمار اسم “البعث” مجددًا، وما اعتراف الأسد بالأخطاء إلا من باب اللغو الذي لا قيمة له، لأن الحزب لا دور له في سوريا، وإنما هو تنظيم تابع لجهات أمنية وعسكرية، وذات طبيعة أمنية لا علاقة لها بمعنى الأحزاب التي تقوم على الحرية والممارسة السياسية وإبداء الرأي.
وأشار إلى أن النظام السوري دعس على الحزب وأفكاره بالأقدام، ودمّر الفكر الحقيقي لـ”البعث”، والدلائل التاريخية على ذلك كثيرة، بدءًا من إعدام القيادات البارزة، وصولًا إلى تقسيم الصف الفلسطيني والوقوف في صف إيران ضد العراق وحزب “البعث” هناك في حرب الخليج، عدا عن المجازر التي ارتكبها النظام عبر تاريخه في عدة مناطق سورية.
ووصف سابا المحاولات التي يقوم بها الحزب في الوقت الحالي، بأنها “إعادة الروح إلى جثة ميتة”، لأن الحزب حاليًا منزوع الإرادة وفاقد أي استقلالية، وكل الهيئات والمؤسسات التابعة له خارج إطار التعامل الحزبي والسياسي، وتستخدم شعارات الحزب لأغراض سياسية، تخدم مصلحة الحكم والعائلة، مؤكدًا أن الحزب غير “قادر على مواكبة التطورات بصفته الراهنة”.
استطلاع: لماذا تتراجع أدوار الحزب
أجرت عنب بلدي استطلاعًا، عبر صفحتها في “فيس بوك”، حول تراجع دور حزب “البعث” بعد إلغاء المادة الثامنة في دستور 2012، واعتبر 71% من المصوّتين، البالغ عددهم 400 مشارك، أن دور الحزب لم يتراجع، في حين ترى البقية خلاف ذلك.
وبينما قلّل المعلّقون على الاستطلاع من أهمية الدستور في سوريا، ووصفوه بأنه “حبر على ورق”، قال أحمد محمد إنه “في سوريا لا وجود للأحزاب، هي مجرد واجهات وديكورات لمنظومة الإجرام”.
وأكد حساب عماد عماد ذلك بقوله، إن “حزب البعث بالأساس لا دور له، من يحكم سوريا هو خليط قذر من الأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية ورجال الأعمال الفاسدين”.
أدوات الحزب.. التحشيد والتماهي
يمتلك حزب “البعث” أدوات لما يقول إنه تصحيح المسار، تحت قاعدة “تبديل الأولويات لا يلغي الأساسيات”، التي أكدها الأسد في كلمته التي وجهها إلى الحزب، قبل أسبوعين.
وبحسب الباحث معن طلاع، فإن الحزب يفكر بأدوات جديدة وفقًا للسياسات القديمة ذاتها، لكي يتحكم بقناتين رئيستين هما “التحشيد والتماهي” مع أي أشكال جديدة في سوريا، وهذا ما أعطاه هامشًا كبيرًا لتصحيح الاعوجاج الذي مر به الحزب، كما يحاول الاستفادة من المصالحات التي يجريها مع المعارضين في عدة مناطق، لتشكيل طبقة “الوسطاء المجتمعيين” من خلال المخاتير والقانونيين البارزين، وترشيحهم أعضاء لمجلس الشعب.
كما لا يزال الحزب يمتلك بنية تحتية من أملاك الدولة، إلى جانب النقابات والمنظمات، التي يفترض أن تكون غير مسيّسة، كاتحاد الفلاحين واتحاد العمال والاتحاد النسائي و”طلائع البعث” وغيرها، وكلها أقنية يحاول من خلالها الحزب التموضع من جديد، إلى جانب استغلال شعار “محاربة الإرهاب” للدخول إلى الدوائر الخدمية، سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو مادية.
ويرى طلاع أن حديث بشار الأسد عن تدارك الأخطاء ليس القصد منه الاعتراف بها، بقدر ما هو مجرد تحفيز للحزب على تنويع أدواته، والعمل على عناوين كثيرة خلال المرحلة المقبلة، كما أنه محاولة من الأسد للتماهي مع القيادة الجماهيرية.
الحزب مُطالب اليوم، تحت وطأة الحصار والأزمة الاقتصادية، بضبط المجتمع والحيلولة دون الانفجار، وهي جزء من الأخطاء بنظر الأسد التي تمنعه من قدرته على التحكم بالمشهد، بحسب طلاع، الذي استند بذلك إلى مشهد خروج مسيرات مضادة لمظاهرات السويداء، خلال حزيران الحالي، تهتف بشعارات “الحزب خلف القيادة”.
وفي كلمة له خلال اجتماع “اللجنة المركزية”، في تشرين الأول 2018، اعتبر الأسد أن “البعث يجب أن يلعب دورًا في معالجة تبعات الحرب، وأن يقوم بدراسة عميقة للمجتمع والتحولات التي طرأت عليه، وطرح تصوراته وتعريفاته حول العناوين والمصطلحات التي يتم تداولها في المجتمع، والقيام بعملية مواءمة بين الخطاب والممارسة وبين العقيدة، كي يكون قادرًا على الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع”.
واعتبر طلاع أن الحزب يستعد لدخول الحياة السياسة المقبلة من خلال تنظيم أكثر على مستوى سوريا، كونه يمتلك بنية تحتية وقواعد تنظيمية، وبالتالي سيكون جاهزًا لركوب المرحلة المقبلة بغض النظر عن شكلها، كما يحاول الحزب التواصل وتكوين طبقات داخل أقنية صنع القرار في روسيا والصين وإيران، وبالتالي الحصول على مناصرة لسياسات النظام، الذي يحاول إيصال صورة أنه قادر على التماهي مع أي تحولات مقبلة في سوريا.
الأسد والحزب.. من يرتبط بمن؟
يشغل بشار الأسد منصب الأمين القطري لـحزب “البعث”، عقب “انتخابه” في “المؤتمر القطري” التاسع في حزيران عام 2000، وقال في كلمته حينها “أنا ابن البعث”، ثم جدد الحزب “انتخابه” في عام 2005.
لم يتدرج الأسد الابن في مناصب الحزب، عكس أبيه الذي انتسب إلى “البعث” في عام 1946، بحسب الموقع الرسمي للحزب، وخاض من خلاله صراعات عدة، حتى وصل إلى أعلى منصب فيه، وبالتالي فإن علاقة بشار بالحزب مختلفة كليًا عن علاقة حافظ بحزبه.
ويبرز الاختلاف عبر تحركات بشار الأسد نفسه تجاه “البعث”، ومحاولة تطويعه بما يناسب الظرف السوري الراهن ومستقبل العملية السياسية في سوريا، وهو ما دفعه لإلغاء “القيادة القومية والقطرية” واستبدال “القيادة المركزية” بها.
ويرى الباحث والأكاديمي السوري عبد العزيز ديوب أن الحزب مرتبط بالأسد، لكنه يستخدمه باعتباره “حزب الحكم وليس حكم الحزب”.
في حين يصف القيادي “البعثي” السابق ناصر سابا العلاقة بين الأسد وحزب “البعث” بأن الأخير “عصا بيد الأسد في وجه الشعب السوري”، مضيفًا أن رئيس النظام يعتبر “البعث أحد الأملاك التي ورثها عن أبيه”، فلا هو حزبي ولا يفهم معنى المصطلح، بحسب تعبيره، فالحزب “نضال وسياسة وتضحيات” وهذه المراحل لم يمر بها الأسد الابن بالأساس، بينما استغل حافظ الأسد التنظيم الحزبي كواجهة ليحكم سوريا باسمه.
وأوضح الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلّاع، أن حافظ الأسد “أعاد هندسة الحزب وصفى قياداته ملغيًا معناه المدني”، وامتلك الإدارة الكاملة للتحكم السياسي عبر ضبط المشهد المحلي وتحويل “البعث” من حزب سياسي إلى “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، مؤسسًا لما عُرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية”.
ما “الجبهة الوطنية التقدمية”؟
تضم “الجبهة” التي أُسست في عام 1972 حزب “البعث العربي الاشتراكي”، وحزب “الاتحاد الاشتراكي العربي”، و”الحزب الشيوعي”، وحزب “العهد”، وحزب “الاتحاد العربي الديمقراطي”، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي- المركز”، والاتحاد العام للفلاحين، والاتحاد العام لنقابات العمال.
كما تضم “الجبهة” حزب “الوحدويين الاشتراكيين”، و”الحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي”، و”الحزب الشيوعي السوري الموحد”.
وبحسب ميثاق “الجبهة“، فهدفها الأساس “ترسيخ مبدأ التعددية السياسية، وتعزيز النهج الديمقراطي، والإسهام الشعبي في الحياة السياسية”.
وترى أن من مهماتها “تحرير الأراضي العربية المحتلة منذ تاريخ 5 من حزيران 1967 (نكسة 1967)، والاستمرار في مسيرة الإصلاح الشامل بقيادة الأسد، وتأكيد الاشتراكية كنهج اقتصادي”.
وأضاف طلّاع أن الأسد الأب سعى إلى تأطير المجتمع السوري بأقنية عدة، سواء كانت منظمات أو اتحادات، ليضمن السيطرة على المجتمع وانضباطه، لمنع وجود أي خط يعارض النظام وأي حركة احتجاجية في الشارع.
من جهته، نفى ناصر سابا، لعنب بلدي، وجود أي ارتباط بين حزب “البعث” وبشار الأسد، فمصير الأخير بيد إيران وروسيا، ويبرر رأيه بأن مصير سوريا أصبح مرتهنًا لخمسة احتلالات من دول إقليمية وعالمية، بالإضافة إلى الميليشيات والتنظيمات المسلحة، وبالتالي فإن الأسد غير مرتبط بـ”البعث” سوى بشكل صوري.
اجتثاث أم تصحيح
وفي حين تحاول الدول الفاعلة حلحلة الملف السوري والتوافق على حل سياسي يضمن التعددية السياسية، تتجه الأنظار إلى مصير حزب “البعث”، خاصة أن الجارة العراق شهدت “اجتثاث الحزب بما يمنع وصول أعضائه إلى السلطة”، بعد الغزو الأمريكي في 2003.
ويعتقد الباحث السوري والأكاديمي عبد العزيز ديوب، أن أي حل سياسي في سوريا مستقبلًا سوف يؤدي إلى تلاشي الحزب والأسد معًا، بينما يرى القيادي السابق في حزب “البعث” ناصر سابا، أن استمرار الحزب سياسيًا في مرحلة ما بعد رحيل النظام “أمر مهم”، كون أفكار الحزب ونظرياته تجاه “الهوية العربية” ليست مسألة “أيديولوجية” فحسب، بل هي هوية وطنية قادرة على جمع السوريين مجددًا للتعايش مع بعضهم.
واستشهد سابا في أثناء حديثه بتاريخ سوريا الحديث، منذ تشكيل “المملكة السورية” في 8 من آذار عام 1920، التي كانت نتاجًا لانسحاب قوات الدولة العثمانية، عقب ما عُرف بـ”الثورة العربية الكبرى”، إذ قامت المملكة حينها “على الأساس العربي” بحسب سابا، وصولًا إلى “الثورة السورية الكبرى” عام 1925 في مواجهة الاحتلال الفرنسي (1920- 1946)، التي رفضت التقسيم الطائفي، وذلك عقب استشهاد وزير الحربية آنذاك، يوسف العظمة، عام 1920.
وأوضح سابا أن كل ما سبق بحسب وجهة نظره، يعني أنه على العالم العربي أن يقف في وجه كل التحديات المفروضة عليه، وبالتالي لا يتعلق الأمر باجتثاث “البعث” من عدمه، وإنما باستمرار أفكاره القومية، إذ ربما يأتي حزب جديد باسم مختلف ينادي بالأمر ذاته.
لكن يمكن النظر إلى مستقبل الحزب من زاويتين، بحسب طلاع، الأولى هي “الزاوية الثورية”، التي تنادي بضرورة حل الحزب واجتثاثه كليًا، لمنعه من العودة إلى الحياة السورية السياسية في المستقبل عبر تطبيق “قانون العزلة”.
وتتفق هذه الزاوية مع التجربة العراقية، التي أسست لجنة خاصة لهذا الأمر، ووضعت قوائم بمئات الأشخاص ممن امتلكوا صلات مع الحزب، ونشرت القوائم والقرارات عبر الموقع الرسمي لـ”الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة”.
أما الزاوية الثانية، فتذهب إلى أن أي عملية سياسية بين النظام السوري ومعارضيه تتضمن حلًا سياسيًا سيوجد ضمنها حزب “البعث” بطبيعة الحال، باعتباره الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه بشار الأسد، ويمتلك مجموعة من الأدوات القانونية التي تخوله للعودة إلى حكم سوريا.
من عفلق إلى الأسد
محطات في تاريخ “البعث”
شهد عام 1934 عودة كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من فرنسا إلى العاصمة السورية دمشق، عقب تخرجهما في جامعة “السوربون” الفرنسية.
لم تكن عودة هذين الشخصين عادية، إذ سعيا لنشر أفكارهما حول القومية العربية وضرورة وحدة البلاد العربية في دولة واحدة، وتزامنت دعوتهما مع صعود نجم زكي الأرسوزي، الذي يعد أحد أبرز منظري القومية العربية.
بعد ست سنوات، وفي مقهى “الرشيد” في شارع “29 أيار” وسط دمشق، أعلن كل من البيطار وعفلق عن “حركة الإحياء العربي”، قبل أن تتغير لاحقًا بعد “ثورة رشيد الكيلاني” ضد بريطانيا في العراق إلى كلمة “بعث” بدلًا من “إحياء”، لأن الأولى “أكثر جذرية وعمقًا”، بحسب كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”، للكاتب البريطاني باتريك سيل، ثم تقدم كل من البيطار وعفلق بطلب الحصول على ترخيص الحزب في عام 1945، وفي العام التالي انضم حافظ الأسد إلى الحزب، وهو العام نفسه الذي أُسست فيه صحيفة “البعث” عام 1946.
وفي عام 1952، اندمج حزب “البعث العربي”، مع “الحزب الاشتراكي” بقيادة أكرم الحوراني، واعتُمد اسمه رسميًا حزب “البعث العربي الاشتراكي”، ليصبح ثاني أكبر كتلة في البرلمان السوري في انتخابات عام 1954.
لم تستمر الحياة السياسية في سوريا طويلًا، وسرعان ما أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958، وهو ما أدى إلى إلغاء الأحزاب، بما فيها حزب “البعث”، وذلك حتى عام 1961، الذي شهد انقلابًا عسكريًا بقيادة عبد الكريم نحلاوي، وعادت الحياة البرلمانية إلى سوريا، وانتخب ناظم القدسي رئيسًا.
في سنوات الوحدة، اتخذ الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، قرارًا بنقل ضباط سوريين إلى مصر، وكان بينهم حافظ الأسد، الذي أسس مع صلاح جديد في القاهرة “اللجنة العسكرية”، التي قُدّر لها لاحقًا حكم سوريا لسبع سنوات متتالية.
وأعلنت “اللجنة العسكرية”، التي تكونت من حافظ الأسد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي وصلاح جديد وأحمد المير، وبمباركة من “اللجنة المدنية” في الحزب، عن انقلاب عسكري في عام 1963 أُطلق عليه لاحقًا “ثورة 8 من آذار”، وهو تاريخ يتزامن مع ذكرى إعلان سوريا ملكية دستورية، حين نُصّب فيصل بن الحسين ملكًا عليها في عام 1920.
سرعان ما دبت الخلافات السياسية بين اللجنتين، واستبعد كل من صلاح البيطار وميشيل عفلق من الحزب، وتولت “اللجنة العسكرية” مقاليد الأمور في عام 1966 فيما سمي “بحركة 22 من شباط”.
عقب الانتهاء من “اللجنة المدنية”، نشب صراع جديد بين حافظ الأسد وصلاح جديد على خلفية عدد من القضايا السياسية، بينها هزيمة 1967، وحينها كان الأسد وزيرًا للدفاع، ثم دعم الفلسطينيين في مواجهة الملك الأردني فيما عرف بـ”أيلول الأسود”، وفي عام 1971 نفذ حافظ الأسد ما أسماه “الحركة التصحيحية”، واعتقل رفاق الدرب وتولى السلطة منفردًا، وكتب دستورًا جديدًا، حمل في طياته المادة الثامنة: “حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع”.
نهاية المؤسسين
بعد انقلاب 1966، رحل كل من عفلق والبيطار إلى بيروت، ثم توجه عفلق إلى العراق وانضم إلى حزب “البعث” العراقي، وهو ما دفع الأسد للتواصل مع صلاح البيطار لمحاولة إيجاد توازن سياسي، والتقى الرجلان في عام 1978 وسط ظروف سياسية بالغة التعقيد، بحسب مقال نشره الكاتب صلاح نيوف عام 2005 في مجلة “الحوار المتمدن”.
لم ينجح الأسد باستمالة البيطار الذي عاد إلى منفاه في باريس، وأسس مجلة “الإحياء العربي”، التي هاجم من خلالها الأسد وتواصله مع معارضيه، حتى اغتيل في عام 1982، أما ميشيل عفلق فتوفي في باريس ودُفن في بغداد عام 1989.
“اللجنة العسكرية”.. نهاية مخضبة بالدماء
سبق تنفيذ “الحركة التصحيحية” تساقط رفاق الأسد، إذ اتفق كل من صلاح جديد وحافظ الأسد على التخلص من محمد عمران، بسبب إصراره على إعادة الوحدة مع مصر، واعتقل عمران في عام 1966، وأفرج عنه في 1967 ليرحل إلى مدينة طرابلس اللبنانية، ثم اغتيل على باب منزله في عام 1972، رغم تحذيرات تلقاها من محاولات لاغتياله.
أما عبد الكريم الجندي فانتحر بعد علمه بقدوم دورية لاعتقاله، بعدما حوصر سياسيًا من قبل حافظ الأسد في عام 1969، وترك رسالة اتهم فيها حافظ الأسد بالخيانة، وبيّن وجهة نظره بالصراع السياسي بين أجنحة حزب “البعث”.
وتوفي صلاح جديد في عام 1993 بسجن “المزة العسكري” الذي سُجن فيه بعد انقلاب 1970، أما أحمد المير فتوفي في عام 2007، وكان الأسد أعفاه من منصبه كآمر لجبهة الجولان في العام 1968، وانتقل إلى العمل الدبلوماسي سفيرًا لسوريا في مدريد.
المصدر: عنب بلدي