يُفاجِئ الجمهور السوري، في كلّ مرّة، أصحاب المراكز البحثية بقدرته على الخروج من طوق السياسات التي تحكمه، واستعادة حلمه في بناء دولة مواطنة حقيقية، وهو بذلك يُصرّ على أنّ الصدأ الذي تُراهن عليه قوى الأمر الواقع، بعد 13 عاماً من الصراع في سورية، لن ينال من جوهر التغييرات المرجوّة التي يبحث عنها للتحرّر من التركيبة الحقيقية للأنظمة السياسية التي تحكمه، فحيث تتاح الفرصة لأيّ مجموعة للتعبير عن رأيها بحرية، ونزاهة، واستقلالية، تحضر مقوّمات الدولة الحديثة بكامل تفاصيلها في اختياراتهم للإجابة عن أيّ استفسار، سواء تعلّق بحقوق المواطنة الكاملة والمتساوية لكلّ السوريات والسوريين أو لجهة شكل الدولة أو تسميتها أو القوانين الناظمة لها، ما يؤكّد أنّ الشعب على اختلاف شرائحه يتقدّم في تفكيره وتصوّره لسورية القادمة أو المأمولة، مشاريعَ السياسيين على اختلاف انتماءاتهم، بين معارضة ونظام.
في هذا الإطار، لفتتني نتائج استطلاع حديث لجمعية سورية الجديدة، شارك فيه نحو 350 شخصاً (معظمهم نساء) أكّد أنّ المستطلَعين يؤيّدون نظاماً لا مركزياً لدولة سورية في المستقبل، تتساوى فيها حقوق المرأة مع الرجل بالكامل، كما يتطلّعون إلى نظام اقتصادي مفتوح وعابر لخطوط التماس المحلّية، ما يعني أنّهم يبحثون عن تطبيع اقتصادي مجتمعي بين المناطق التي ارتفعت جدران حواجزها بين قوى الأمر الواقع، يتضمن ذلك رفضهم حالة التقسيم التي تتفاقم يوماً بعد يوم، في ظلّ تنامي السيطرة المسلّحة على كلّ المناطق السورية، ودعمهم تنمية منظّمات المجتمع المدني على حساب الأحزاب السياسية، وهو ما يشير إلى الرغبة في تغليب الحالة المدنية على حالة العسكرة أو الحالة الحزبية الأيديولوجية. ورغم قلّة عدد المشاركين في الاستطلاع، إلا أنّ التعريف بأنّ عدد النساء المشاركات فيه هو الأعلى قد يسهم في التعريف بأولويات جديدة للنساء السوريات.
تأتي تلك الاستبانة في وقت ينشغل فيه العالم عن الملف السوري، وتعمل السُلطات المحلّية المختلفة على تمتين سطوتها، وتثبيت حدودها، من دون الالتفات إلى الواقع المأساوي للسوريين، ما يقتضي هنا، قبل الحديث عن “السيناريو الرغبوي”، المصارحة والاعتراف بهزيمة كلّ الأطراف أمام تحقيق أيّ اختراق لجهة بلورة حلّ للأزمة السورية على مدار 13 عاماً، ما زاد في عمق المأساة وتشظّيها، لتشمل كلّ مناحي حياة المواطنين على اختلاف السُلطات السياسية أو العسكرية التي تحكمهم، والتي تتشابه في أهدافها وأدواتها مع اختلاف قدراتها ودرجة شعبيتها. ورغم تفاوت ملحوظ في درجات البؤس بين مناطق النظام، وهي الأكثر تأثراً بسبب اشتداد قبضة العقوبات الأميركية والغربية عليها، وبين المناطق الأخرى، سواء التي تحكمها جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) أو التي تحكمها الفصائل المسلّحة (الجيش الحر) المدعومة بالحماية التركية، لوجود معابر اقتصادية شبه مفتوحة على تركيا. أمّا منطقة حكم الإدارة الذاتية، فتتحكم فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بمعظم موارد سورية النفطية وتجارتها. وتقتضي مصلحة جميع الأطراف فتح المعابر من كلّ الجهات السورية (النظام والمعارضة وتحرير الشام).
رغم ذلك، فإنّ هذا التفاوت النسبي في قدرة السُلطات على تقديم بعض الخدمات الأساسية للمواطنين، لا يعني أنّ أيّاً من هذه المناطق محصّنة ضدّ الانزلاق إلى كارثة إنسانية، يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر بمقاييس سوريّة متدنية، وليس وفق التقييم المعروف عالمياً فقط، إذ لا يتجاوز متوسّط دخل الفرد عشرين دولاراً شهرياً، ما يزيد من فرص الانهيار المدوّي القريب، ما لم تسع كلّ السُلطات إلى استنباط حلول مرحلية، ومحلّية، وسريعة، تتجاوز عقبة الحلول الدولية التي تبدو بعيدة اليوم في ظلّ التعقيدات الدولية التي تحيط بالمنطقة، وانشغال الفاعلين الأساسيين في الصراع السوري عن القيام بأيّ دور من شأنه أن يعيد للملف السوري أهميته على جدول أعمال المجتمع الدولي، الغارق في أزماته، من الحرب الروسية على أوكرانيا إلى حرب إسرائيل على غزّة إلى الصراع الإيراني الإسرائيلي. ما يعني أنّه ما لم تجتمع إرادات محلّية لصياغة حلول (ولو جزئية) ترفع حالة الضرر عن السوريين فإنّنا أمام مرحلة جمود سياسي طويلة الأمد، قد تمتدّ لسنوات قادمة كفيلة أن تبدّد آخر معالم وجود الدولة السورية، سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام أو الواقعة تحت حكم سُلطات أخرى سبق ذكرها، وهو ما أعاد الحراك الشعبي إلى الواجهة على أمل ألا تضيع تضحيات السوريين سُدى، ولأنّ ضرورة الاستفاقة لحقيقة أنّ ثورتنا يتيمة لم تحظَ بأصدقاء مبدئيين يساندون حقها في إقامة دولة مواطنة ومساواة، فإنّ الحراك المجتمعي هو أداة التغيير المثمر لتحويل الرغبات إلى حقائق على الأرض.
المصدر: العربي الجديد