هوشنك أوسي شاعر وكاتب سوري متميز، له الكثير من الإنتاج الأدبي، وطأة اليقين اول رواية اقرأها له…
تعتمد الرواية في سردها على لغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها “ولات” ، الشاب السوري ابن مدينة القامشلي من أصول كردية وهو يعيش لاجئ في زمن الرواية المعاش في إحدى مدن بلجيكا…
ولات لم يكن شابا عاديا في علاقته مع الحياة، ومن خلال تواصله مع صديقه ابن مدينته آغوب السرياني السوري، يوضح أنه كان منتميا لرابطة العمل الشيوعي، الذي أصبح حزبا فيما بعد، وأنه قضى مع صديقه آغوب خمسة عشر عاما معتقلا لانتمائه ذلك…
قبل الاستطراد بالحديث عن ولات لا بد من التأكيد أن الرواية تشبه الشجرة في بنيتها الكتابية جذعها ولات ذاته وفروعها هي شبكة علاقاته التي تفاعل معها عميقا، الى درجة أنك كقارئ تجد نفسك أمام عدة روايات في رواية واحدة. لذلك سأعتمد في القراءة هذه على التحدث تباعا حول حياة ولات ومن تفاعل معهم في الرواية الطويلة نسبيا ٣٨٢ص. رغم أنه كان يعيش حوادثها وازمانها الممتدة لعقود، واماكنها التي طالت مدن وبلدان مختلفة…
ولات الشاب السوري الكردي جذبته الماركسية وافكارها الثورية وهكذا وجد نفسه منتميا لرابطة العمل الشيوعي، التي كانت موعودة مع حملة اعتقال واسعة طالت بنيتها كلها. كانت مدد الاعتقال طويلة ، اعتقل ولات خمسة عشر عاما، وخرج كافرا بالبنية العقائدية عموما وبما فيها الماركسية ذاتها. لقد خرج يحمل قناعة مفادها أن البنية العقائدية والانتماء الشبه أعمى لها من منتسبيها على تنوعهم جعلتهم مستهلكين في يقينيات جوفاء وصراعات لا معنى لها مع المختلفين، وجعلهم كلهم في حالة موات ودون جدوى وفاعلية، هذا يصح عن أطراف المعارضة. أما النظام فإن البنية العقائدية عنده وعند منتسبيه حزب البعث القومي ليس أكثر من مجرد غطاء كاذب يغطي البنية الطائفية الاستبدادية القمعية المستغلة المتوحشة لبنية النظام في جيشه وأمنه…
المهم خرج ولات من المعتقل وكان أكثر سوداوية ويأسا من إمكانية وجود أي عمل سياسي ممكن.
كان قد ظهر منذ سنوات الثمانينات حزب العمال الكردستاني يحمل حلما تم تسويقه على الاكراد في سوريا وتركيا وايران والعراق، وهو تحرير كردستان وتوحيدها، كان حزبا عقائديا من جهة وله بنية مسلحة. والاهم انه صناعة النظام السوري ، حيث اعطى حافظ عبد الله اوجلان الاذن في اجتذاب الشباب الكردي السوري وسمح لهم النظان ببناء معسكرات تدريب عسكري في سوريا ولبنان، ومن ثم توجهوا ليقوموا بعمليات عسكرية ارهابية في تركيا، خدمة لمصالح النظام السوري. كان في سوريا الكثير من الأحزاب الكردية الأخرى ينشط بين الأكراد غير حزب العمال الكردستاني، كانوا محظورين وملاحقين امنيا…
خرج ولات من سجن النظام السوري كافرا به بالمطلق. ولذلك عندما توافق النظام مع الأتراك على إنهاء الصراع بينهم في نهايات الالفية الثانية، كان الثمن المقابل هو اعتقال أوجلان نفسه من قبل الاتراك، وإنهاء الحزب في سوريا وانتقاله الى جبال قنديل. ولكن النظام أعاد إحياء العلاقة مع حزب العمال الكردستاني بعد الثورة السورية عام ٢٠١١م. وأمدهم بالسلاح والمال والسلطة في مناطق التواجد الكردي في سوريا، الحسكة والقامشلي..الخ. وقاموا بدور النظام في بقية سوريا وهو القضاء على الثورة السورية الوليدة، قتلوا مشعل تمو القائد الكردي ابن الثورة السورية وأدوا الحراك الثوري وسيطروا بالمطلق على تلك المناطق والبلدات…
كان قد التحق ولات بحزب العمال الكردستاني قبل سنوات عندما حصلت الثورة وأصبح حزب العمال الكردستاني وأداته الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في سوريا ال ب ي د . قرر ولات التخلي عن حزب العمال الكردستاني واكتشف انه جزء من بنية النظام القمعية القاتلة و يخدم أجندته كل الوقت…
لقد كان لبداية الربيع العربي من حرق البوعزيزي لنفسه في تونس ومن ثم خروج المظلومين في تونس واسقاطهم النظام، دون التقيد بقواعد ومساطر العقائديين من كل الانواع وكذلك انتقال الثورة الى مصر وليبيا واليمن ثم سوريا الأمل الذي أحيا روح صاحبنا ولات…
كانت الثورة هي الأمل الذي انتظره ولات وكثير من الشباب السوري. لذلك خرج من حزب العمال الكردستاني وقرر الذهاب الى اوروبا لاجئا مثل الكثير من أبناء تلك المناطق و من السوريين. قبل الثورة وبعدها خاصة أن أبواب الحياة سدت وأصبحت الهجرة واللجوء الحل الوحيد للخروج من واقع المأساة السورية…
وصل ولات إلى بلجيكا وهناك تم إلحاقه في سكن خاص باللاجئين يعيشوا به ولهم مبلغ مالي للعيش شهريا. ويتم دراسة ملفاتهم ليتم البت بحصولهم أو عدم حصولهم على حق اللجوء. وفي هذه الفترة التي تمتد لسنوات احيانا. يعيش ولات وغيره في حياة الانتظار ويتفاعل مع الكثيرين القادمين لاجئين أيضا من بلدانهم. هناك العراقيين والفلسطينيين ومن دول شمال افريقيا العربية وأفريقيا نفسها…
يدخلنا ولات في حياته هنا مع اللاجئين القادمين من هذه الدول وايضا في علاقته مع بعض أهل البلاد نفسها. نتعرف عبره على كاترين بلجيكية عمرها ٧٧ عاما. كانت قد عايشت أحداث الحرب العالمية الثانية وهي طفلة، حدثته عن طفولتها تلك وعن الحياة القاسية التي مرت عليهم حيث كانت في ألمانيا ذاتها وقتها. وكيف انتقلت إلى بلجيكا وتنقلت بعدها في كثير من الدول الأوروبية ملاحقة عملها. حدثته عن زواجها وعدم استمراره لانها اكتشفت انها عاقر لا تستطيع الانجاب لذلك اكتفت بعلاقات حب ومساكنة امتد بعضها لسنوات وأنها تعرفت على شاب مصري وعاشت معه علاقة جسدية كاملة لفترة من الوقت. وأنها تخلت عنه بعد ذلك بسبب هوسه الجنسي والسادي. ثم أحبت شابا تونسيا كان يدرس الطب لصالح الدولة التونسية. وتعلقت به وتعلق بها. لكن الزواج بينهما كان مستحيلا. لان الدولة التونسية تحظر عليه الزواج من اجنبية بحكم عمله، بقي حبهما حيا ويتجدد ولو بعد مضي سنين. وحتى بعد زواج ذلك الحبيب وانجابه للاطفال…
كما حدثته عن ذهابها الى “اسرائيل” في شبابها حيث كانت مسكونة في هاجس المساعدة والعمل في المزارع الصهيونية ، وهناك اكتشفت واقع الحال الحقيقي، ان هناك شعب فلسطيني مظلوم، وان الصهاينة يعاملونهم بعنصرية وقسوة، وقد يقتلونهم لأسباب واهية. عادت من “اسرائيل” وقد كفرت بها واعتبرتها كذبة كبيرة استخدم بها الغرب اليهود لخدمة أهدافهم الاستعمارية. وكان الكثير منهم صهاينة متشبعين بالروح الاستعمارية…
كما حدثته عن لقائها بابو عمار ياسر عرفات اثناء عيشها في أمريكا وذلك عندما ذهب ابو عمار الى مجلس الامن الدولي والقى كلمته المشهورة. وأنه يحمل غصن الزيتون تعبيرا عن السلام بيد والبندقية تعبيرا عن المقاومة بيد أخرى… وكيف تم اخراج ابو عمار من بيروت الى تونس وكيف قصدوا قتله هناك لكنه نجى وقتها ليعود بعد الانتفاضة الفلسطينية ويصنع شبه دولة لم يراد لها الحياة ليقتل بالسم هناك… أيام شارون…
حدثته عن انتقالها للعمل والعيش في امريكا لسنوات وانها اعجبت بامريكا ونمط التعامل المجتمعي فيها لكنها تفاجأت بالتمييز العنصري رغم تجريمه قانونا لكنه حاضر مجتمعيا وعادت أخيرا إلى بلجيكا.
تحن كثيرا الى سوريا التي عاشت فيها خمس سنوات والى مدنها كلها وخاصة دمشق. وانها احبت سوريا اكثر من اي بلد في العالم. وأنها تعلمت العربية فيها. وانها ارادت الاستقرار فيها. لكن السلطة السورية طردتها منها نهائيا ومنعتها من الدخول اليها ثانية. لقد وجدوا فيها خطرا على الأمن القومي لسوريا؟!!…
تحولت هذه العجوز الى صديقة وحاضن لصاحبنا ولات في بلجيكا…
في المجمع حيث يسكن اللاجئين تعرف ولات على ذلك الشاب الافريقي من الكونغو، تلك الدولة التي كانت مستعمرة بلجيكية سابقة، حيث حدثه عن استمرار المظالم الاجتماعية والسياسية والتخلف والفساد. وكان حلم أي إنسان في بلاده ان يهرب الى اوربا ليعيش حياة تليق بإنسانيته…
كما ادخلتنا الرواية عبر ولات في البحث عن مصادر اعضاء الجسد التي كانت تعطى لمحتاجيها في مستشفيات بلجيكية. لنكتشف مع المجموعة التي قررت أن تبحث عن مصدر هذه الأعضاء تابعوا طبيبا اصبح مليارديرا من وراء تجارة الاعضاء، و ليصلوا بعد تقصي ومتابعة الى ان النظام السوري عبر أحد قادته الأمنيين كان يؤمّن الأعضاء لهذا الطبيب عبر شبكة سرية. أعضاء يسرقوها من الموقوفين والمصابين والمعتقلين في كل مناطق صراع النظام مع الشعب السوري في حرب إبادة مستمرة منذ سنين…
كما دخلنا عبر ولات في متابعة أصول الدعوة العلوية في سوريا عبر متابعة حلم احد اصدقائه. وأراد القول من خلال هذا المدخل أن العلويين في سوريا ليسوا كلهم مع النظام وأدوات له في معركته مع الشعب السوري. وإن منهم الكثيرين الذين اعتقلوا وقتلوا وهربوا من بطش النظام الذين رفضوا وحشيته في تعاطيه مع قضية الشعب السوري ومطالبته بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…
تنتهي الرواية عندما يلتقي مجموعة الاصدقاء السنجاري العلوي الذي قدم لهم اوراق تتحدث عن بعض أصول العلوية، وأنهم سيقومون بكتابة رواية توثق كل ما علموه لكن شاحنة تدخل في سيارتهم…
لا نعلم مصرهم…
في التعقيب على الرواية اقول:
إنني ممتن لذلك الصديق الجزائري الذي قال لي تقرأ كل هذه الروايات ولم تقرأ بعد هوشنك أوسي السوري…
قرأت واكتشفت كم تأخرت بقراءة إنتاجه المتميز الثري…
على مستوى التقنية الفنية والأدبية في تناول أحداث الرواية اجد انني امام تمكن بالتعامل مع الموضوعات المطروحة وخلق علاقة وجدانية عميقة بين النص “روح الكاتب” وبيني كقارئ، و اكتشفت ان هناك الكثير من المشتركات بيننا، فليس سهلا أن تجد ذاتك في بعض أوجهها يصوغها روائي تتعرف عليه حديثا…
نكهة الصدق وعمق الطرح في المراجعة السياسية والفكرية لتجربة العمل السياسي السوري والعربي وخاصة في موضوع اليقينيات العقائدية المغلقة وكهنوت التشكيلات السياسية التي عفى عليها الزمن وأصبحت “آثار” سياسية…
هل يصح ان نقول ان هوشنك اوسي أراد أن يكتب روايات عدة في روايته. هو غاص ملحميا في موضوعاته. توسع وتعمق في تناوله للكثير من القضايا العالمية التي عشناها كلنا في العقود الأخيرة…
الرواية هنا تقدم المتعة والفائدة والمعلومة. وتجعلك في كثير من الاحيان مشروع مثقف يطلع على كثير من المواضيع وبحرفية عالية مع مصداقية. ومن باب الرواية ايضا…
الاهم هو هذا الولاء المطلق للثورة السورية. وللحراك الشعبي الذي حصل بكل مصداقية وتضحية ودفع الثمن الاغلى…
لقد أصبحت الثورة وحراك الشعب: اسقاط النظام وبناء دولة الحرية والعدالة والديمقراطية واسترداد الكرامة الانسانية، الثابت الأوحد الذي يراجع فيه كاتبنا كل المتغيرات حوله…
كشف زيف ادعاءات حزب الله وانه اصبح احد اركان القمع والقتل عند النظام السوري، كذلك الموقف من حزب العمال الكردستاني وال ب ي د ومنتجها قسد قوات سوريا الديمقراطية وأنهم ادوات ضد الشعب السوري واداة بيد النظام وامريكا وكل مستغل لهم “كبندقية للايجار”…
وعندما تحدث عن الذين وصلوا إلى الغرب الأوربي واصبحوا جزء من بنيته وكيف أنهم وهم هناك مازالوا يعيشون هواجس بلادهم ومحنها. وأنهم وهم هناك مازالوا على كف عفريت في موضوع اللجوء والقبول وصعوبة الانغراس في تلك المجتمعات…
شكرا هوشنك اوسي على روايتك وطأة اليقين.