اولا: لم يكن غريبا أن تبدأ أفواج النزوح بالآلاف من الغوطة الشرقية؛ فنحن أخيرا أمام حرب محكومة بموازين القوى الغير متكافئة بشكل مطلق على الأرض، ولم يكن غريبا أيضا أن تتقلص مناطق الثوار المحررة، ليعود إليها النظام الاستبدادي المجرم، وآلة التدمير والقتل بهمجيتهم التي دمرت أغلب البلدات والقرى التي تقدمت فيها، هذا غير الشهداء من شعبنا مدنيين وأطفال ونساء وكبار السن، ونزوح جماعي خارج هذه البلدات، فقط للحفاظ على الحياة ولو برمي أنفسهم في جحيم النظام القاتل.
ثانيا: نعترف أن ما يحصل في الغوطة الشرقية الآن ، هو عملية إبادة جماعية لبعض الشعب السوري الذي لم يستسلم بعد للنظام القاتل، وأن ذلك يحصل بمعرفة دولية وإقليمية كاملة، فما يحصل في سوريا يتابع مباشرة عبر أجهزة الاستخبارات للعالم كله، ووسائل الإعلام وتوثيق الناشطين على الأرض، لا سر في ما يحصل في سوريا والغوطة الشرقية، كله تحت الضوء وبمعرفة دولية وإقليمية، ونعترف أن الثوار والسياسيين المنتمين للثورة السورية، أدركوا مبكرا ومنذ ٢٠١٥ ان الثورة السورية تركت لمصير أقرب للهزيمة. فعندما واجه النظام الثورة بالعنف العسكري، واستجاب الثوار للعنف بالعنف، وتطور التدخل الدولي والإقليمي في سوريا كساحة صراع مصالح ونفوذ، واردات دول عدة كل منها وجد له استراتيجيته التي عليه أن ينفذها ليحصل على حصته من الكعكة السورية ، او المأساة السورية؛ كما حصل فعلا على الأرض.
ثالثا: كان رد النظام العالمي على الربيع العربي بالرفض، بداية كان الاستيعاب، ومن ثم كان إسقاط هذا الربيع واحتمالاته الإيجابية على شعوب دوله جميعها، وكون انتصار الربيع العربي ينعكس بالضرر- بالضرورة – على دول النظام العالمي المسيطرة ومصالحها، وكان لكل بلد طريقة خاصة في إسقاط ثورته ، وكان لسوريا مسار مختلف في ذلك؛ فسوريا تتناقض فيها مصالح دولية واقليمية، و لأن هذه الدول لم تشأ ان تخوض صراعا بينيا مباشرا في سوريا، فقد اختارت أن يكون هذا الصراع بالواسطة وعبر الشعب السوري نفسه، ومن خلال استجلاب مرتزقة دوليين للمساعدة بالقيام بهذه المهمة على الأرض.
رابعا: في الحالة السورية ؛ سمح للنظام الاستبدادي السوري أن يستعمل العنف بكل درجاته لمواجهة مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، وانعكس ذلك على الثوار بعدم قبول الانكسار والانهزام ، لذلك لجؤوا للسلاح لمواجهة عنف النظام. و لأن للنظام حلفاء أهمهم روسيا وإيران بشكل أساسي، فقد اوحوا إليه بدعمه المطلق من قبلهم، وهو كنظام مستبد قمعي مستعد لأي عمل ضد الشعب السوري ليستمر في الحكم، وهكذا بدأ النظام القاتل دورته الدموية بحق الشعب السوري للان؛ ونحن على أبواب العام الثامن للثورة السورية. روسيا اعتبرت سوريا آخر قلاعها في الشرق الأوسط بعد سقوط العراق عبر احتلاله من الولايات المتحدة الامريكية، ومن ثم تسلم حكمه لسلطة تابعة للإرادة الامريكية، وكذلك سقوط القذافي في ليبيا، لذلك تدخلت في مجلس الأمن الدولي وعطلت أي ادانة جدية للنظام، وفتحت مخازن السلاح والخبراء، واعتبارا من ٢٠١٥، شاركت مع النظام حربا على الشعب السوري وثورته بقوة جوا وعلى الأرض ، بحيث عدلت – مع عوامل اخرى – ميزان الصراع لصالح النظام السوري، وكذلك إيران التي ومنذ السبعينيات ووصول الخميني للسلطة في إيران، تحالفت استراتيجيا مع النظام السوري أيام حافظ الأسد وابنه بعده، وكانت لهم استراتيجيتهم المتوافقة في كل الملفات، الخليج والعراق ولبنان.. الخ ، لذلك اعتبرت أن إسقاط النظام السوري هو إسقاط أهم داعمي مشروعها التوسعي الإيراني بثوبه الإسلامي الشيعي الطائفي، ووضعت كل ثقلها المادي والعسكري لمنع سقوط النظام ، وإسقاط الثورة السورية، وكان من أساليب الدعم ضخ المرتزقة الطائفيين لمساعدة النظام في حربه ضد شعبه وعلى رأسهم حزب الله اللبناني والمرتزقة العراقيين والافغان وغيرهم كثير.
خامسا: بالمقابل ظهر الغرب الأمريكي والأوروبي متعاطفا مع مطالب الشعب السوري وحقه ببناء دولته الديمقراطية، ولكن ذلك لم يتعد الدور الإعلامي وبعض الدعم العسكري عبر غرف الموم والموك التي ضبطت حدود الدعم ومداه، بحيث لا يتجاوز حالة الدفاع عن النفس في مواجهة النظام، ووضعت حدود عسكرية أهمها منع السلاح النوعي وخاصة مضاد الطيران لأسباب واهية، وحدودا سياسية أهمها الإعلان الدائم عن عدم حل المشكلة السورية عسكريا، وأن الحل سياسي بتوافق الأطراف السورية وعبر الرعاية الدولية، وولد عبر ذلك بيان جنيف ١ وبعده القرار الدولي ٢٢٥٤ وما تلاه وكلها تؤدي – أن حصلت – على إعادة إنتاج النظام السوري الاستبدادي نفسه دون تغيير حقيقي. وتوقف الدور الأوروبي على حدود الدعم الإنساني الإغاثي للمنكوبين السوريين، وحماية بلادهم من طوفان الهجرة السورية إليهم ؛ واستثماره لمصالحهم ان امكن.
سادسا: الوضع على الأرض كان أسوأ من ذلك، فتدخل (اسرائيل) لدى أمريكا وروسيا، ودعمها لرفض إسقاط النظام السوري، وتحويل الواقع السوري لمقتلة دائمة للشعب ، ومزيد من الاصطفاف الطائفي للصراع ، وتبلوره صراع “علوي شيعي في مواجهة السنة”، وهذا حرف بوصلة الثورة لتأخذ الطابع الإسلامي الذي أصبح أكثر حضورا، وتحول عند البعض ليكون امتدادا للقاعدة ، وتبلورت بعدها جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، مما أعطى مبررا للغرب ان يتنصل من دعم الثورة، على ندرته، ويلتفت لمحاربة الإرهاب الداعشي، وترك النظام وحلفائه يدمرون سوريا ويقتلون ويشردون شعبها .
سابعا: لم تستطع الدول التي دعمت الثورة السورية بالسلاح أو سياسيا، وبالأخص دول الخليج وتركيا، أن تتجاوز ما وضع لها من خطوط حمر. تركيا التي التفتت لمصلحتها القومية ؛ حيث هادنت كل الأطراف لأجل منع تشكيل كيان كردي جوارها في سوريا، واقتصر دورها مع الثورة السورية عبر رعاية حلول ومنطق خفض تصعيد ترعاها هي وروسيا وايران، ورضى أمريكي ، يراد منها إعادة ترتيب الأوضاع على الأرض بما يخدم كل الأطراف إلا الشعب السوري وثورته. أما دول الخليج فهي بالأصل لم تكن تؤمن بقضية الشعب السوري وحقه ببناء دولته الديمقراطية العادلة، فالسعودية كانت تنطلق من خلفية تحجيم الامتداد الايراني في سوريا ولبنان والمنطقة عموما، وهذا له حدوده وعقباته، وفتح الجرح اليمني مثال ذلك، وبقية دول الخليج هي أضعف من أن يكون لها دور فاعل إيجابي في الثورة السورية أو حتى دول الربيع العربي، بل دورها هناك سلبي وضد الثورة، سواء في مصر أو ليبيا، وحتى اليمن إلى حد ما . لذلك لم تستطع كل الدول التي تحدثت عن حق الشعب السوري بالحرية والدولة الديمقراطية ان تؤكد ذلك كفعل حقيقي الا التصريح اللفظي الضار في أغلب الأحيان.
ثامنا: إننا وعبر نظرة استراتيجية لما حصل في سوريا عبر سنوات الثورة السبعة؛ كانت إعطاء فرصة لكل الأطراف أن تقوم بأدوارها لتنتقل سوريا إلى الدمار والتشريد والتقسيم وتحويلها لدولة فاشلة، فتحت دعوى محاربة الإرهاب -داعش والنصرة – دمر الكثير من سوريا وشرد الكثير من شعبها، وعبر ادعاء صراع النظام مع “المجموعات المسلحة الإرهابية الخارجة عن الدولة” دمرت أغلب سوريا وشرد شعبها، ولم تكن المناطق المحررة بأحسن حال فقد تورط الكثير من الثوار بالكثير من الأخطاء، بحيث حولت الثورة لحلم مجهض في أعين كثير من الشعب السوري، ولم يسلم من هذه النتيجة المؤلمة إلا القليل من الثوار، وزاد على ذلك تحول سوريا لمناطق نفوذ حقيقية لدول أصبحت محتلة لها واقعيا ؛ روسيا وإيران والمرتزقة الطائفيين، أصبحوا هم سلطة الأمر الواقع في أغلب مناطق سيطرة النظام، وما تصدر روسيا لأغلب “المصالحات والهدن” الا دليل على ذلك، وكذلك التواجد الأمريكي في مناطق شرق الفرات، والقواعد الكثيرة لها ورعايتها لل ب ي د الكردية الانفصالية، واستخدامها كرأس حربة لتنفيذ مخططاتها في سوريا إلا دليل على ذلك، وكذلك الجنوب السوري الداخل ضمن توافق روسي أردني أمريكي برضى (إسرائيل) ، منطقة خفض تصعيد واحتمال حكم ذاتي ، وتداول مقولة الفيدرالية السورية، وما دخول تركيا إلى سوريا لإجهاض مشروع ال ب ي د الانفصالي – على ايجابياته- الا جزء من التقسيم الواقعي لسوريا ، عبر تقاسم مناطق نفوذ الدول المسيطرة عليها كل حيث هو موجود. نحن أمام تقسيم واقعي لسوريا .
تاسعا: عود على بدء : الغوطة وصمود ثوارها ومستقبل الوضع فيها، نريد القول أن التوافقات الدولية بين أمريكا وروسيا وضمنا (إسرائيل)؛ قسمت مناطق نفوذ كل طرف ، وتركت المصارعين على الأرض أن يواجهوا مصيرهم العسكري، والشعب السوري الضحية الاولى، حيث منطقة نفوذ النظام السوري وهي ما سميت سوريا المفيدة، مدن الساحل السوري وحلب وحماه وحمص ودمشق الكبرى ( دمشق وريفها)، هذه المناطق التي استعادها النظام تباعا وكان الثمن غاليا جدا، لا نجادل حول بطولة الثوار وتضحياتهم، لكن الحساب الختامي شعبيا وعمرانيا كان غاليا جدا، أكثر من مليون شهيد ومثلهم من المصابين وأكثر من ثلاثة عشر مليون مشرد ولاجئ سوري داخل سوريا وخارجها، أكثر من نصف سوريا مدمر ويحتاج آلاف المليارات من الدولارات لإعادة بنائه، والأهم الشرخ الشعبي والإنساني بين أبناء الشعب السوري ؛ الذي لم يعد يثق أغلبه انهم شعب سوري واحد له مصالح واحدة ومستقبله واحد، لقد أصبحنا أديان و طوائف واثنيات متحاربة متصارعة، لا رابط وجداني يجمعنا، واغلبنا صار يفكر بتقسيم البلاد كحل أخير. وهذا ما أراده اعداء الشعب السوري منذ البداية.
اخيرا: أصبح واضحا أن صمود ثوار الغوطة الشرقية هو صمود الابطال لكن في معركة عسكرية خاسرة، فلا الثوار قادرين على صد الهجوم المتتابع، ولن يتداعى لمساعدتهم احد وكل الوقت يتوعد الغرب بالرد على النظام ان ضرب بالكيماوي، واجتمع مجلس الأمن وقرر هدنة ولم تنفذ ، يوميا يقتل اهلنا هناك ويوميا تدمر البيوت على رؤوسهم، هذا مع الظروف الغير إنسانية لحياة حصار استمر لسنوات، والتشريد اليومي بالآلاف الآن.
مزيد من القتل من النظام السوري وحلفائه، ومزيد من التنديد اللفظي والوعيد الكاذب من الغرب لما يفعل النظام وحلفائه، الحقيقة الوحيدة المتواجدة على الأرض في الغوطة: صمود شعبنا ، بطولة الثوار ، ودمار البلاد، وتشريد اهلنا من بيوتهم وقراهم وبلداتهم ، ولن يرحمهم النظام من التنكيل والاساءة والاعتقال والقتل وسلب ما تبقى من أسباب العيش.
وبعد…
ليس ما يحصل في الغوطة الآن ، وما حصل قبله في داريا والمعضمية وريف دمشق عموما وحمص وحلب وغيرهم ، الا سلسلة من أعمال إنهاء الثورة السورية، لكن الثورة السورية يزيد شرعيتها ما يفعله النظام ؛ فحق الشعب السوري بالحرية والكرامة والعدالة والدولة الديمقراطية ، حق وجودي انساني، قد ينهزم الثوار والشعب السوري الان ، لكن بالمعنى التاريخي هو نصر المظلوم على الظالم، وخطوة على طريق إسقاط الظالم وكل ما يمت به من صلة، ولو بعد حين؛ هذه سنن الله في خلقه، وقوانين الحياة الإنسانية.
…١٩ /٣ /٢٠١٨…
إنه نظام الإجرام الأسدي الذي بدأ ممنهج لتحقيق سورية المفيدة ، مواطنيها منسجمين مع طاغية مستبد ، الغوطة الشرقية وقبلها داريا وحلب و.. نظام طاغية جلب محتلين مستبدين وديكتاتوريين مجرمين من مدرسته ليحتلوا الوطن ويحمو الطاغية من شعبه مقابل سرقتهم ثروات الوطن .