التاسعة صباحاً من يوم الاثنين، وقد عاودت المدارس الثانوية في إنجلترا فتح أبوابها للطلاب في الصفوف 10 و12. وكنت أتطلع إلى هذه اللحظة على مدى 13 أسبوعًا طويلاً، منذ ذلك المساء المخيف في آذار (مارس) عندما اجتمعتُ أنا وزملائي حول جهاز حاسوب في غرفة الموظفين، وشاهدنا بوريس جونسون الذي استعاد صحته وهو يعلن عن إغلاق المدارس.
لكنني اليوم لستُ في المدرسة الشاملة في هاكني حيث أقوم بتدريس الاقتصاد لأرحّب بطلابي العائدين بدرس مثير عن الدمار المالي الناجم عن الأزمة. أنا فائضة عن المتطلبات في هذه المرحلة وما أزال في المنزل. وما تعنيه “إعادة فتح المدارس” في الحقيقة هو أن ربع طلبة السنة العاشرة فقط -حوالي 40 طالبًا- حضروا إلى المدرسة؛ حيث سيكون لديهم يوم دراسي قصير ويتعلمون بشكل أساسي الرياضيات واللغة الإنجليزية والعلوم.
اتبعَت مدرستي، مثل أي مدرسة أخرى في البلد، أوامر الحكومة، وأجرت تقييمًا للمخاطر مطليًا بالذهب لضمان سلامة هؤلاء الطلاب. ووضعت قواعد تغطي حركة لكل مراهق في كل ثانية من اليوم الدراسي المقتطع. ومع وجود 40 طالباً بالكاد في أي وقت مُعيّن، والذين يشغلون مساحة مخصصة أصلاً لـ75، يجب أن يكون خطر احتمال إصابة أي واحد منهم بالفيروس أصغر من احتمال السقوط وتحكم الرأس على الأرضية المبلطة للطابق السفلي. ويجب أن يكون أقل بكثير من احتمال التقاط عدوى “كوفيد-19” في مراكز تيسكو أو بريمارك للتسوُّق؛ وبمقدار مختلف عن خطر التقاطها في عطلة نهاية الأسبوع الماضي في “حقول لندن” القريبةظ حيث ذكّرتني حشود المتنزهين والآكلين والشاربين بغلاستونبري.
في حين أن الخطر الصحي على هؤلاء الطلاب القلائل الذين يعودون إلى المدرسة ضئيل، فإن الخطر على الآخرين من البقاء في المنزل في غرف نومهم؛ حيث تم حبسهم لمدة ثلاثة أشهر في “غرف غوغل الصفية” أو ما شابه، هائل.
اليوم، بدلاً من أن أتمكن من القيام بجزء من عملي الذي أحبه، وأن أكون في فصل دراسي حقيقي مع أولاد حقيقيين، أجلس في المنزل وأحدق في بعض الشرائح التي صنعتها للتو وأتحدث إلى جهاز حاسوبي. “أوقف الفيديو الآن” -أقول- “واكتب تعريف السياسة المالية”.
أحاول أن أجعل صوتي يبدو خفيفاً لكن قلبي ثقيل. هناك 25 طالبا في هذا الفصل بالذات. وسوف يستمع إليَّ ثمانية منهم بعناية ويتبعون تعليماتي بشكل كامل. وسوف ينجز ثمانية آخرون الواجب المطلوب بإهمال. والبقية لن يفعلوا أي شيء على الإطلاق.
كان هناك الكثير من الحديث حول كيف أدى إغلاق المدارس إلى توسيع الفجوة في التحصيل العلمي. الطلاب الثمانية الذين سيشاهدون مقطع الفيديو الذي أعرضه ويوقفونه مؤقتًا عند كل مرة أطلب منهم فيها إيقافه هم نفس الطلاب الثمانية الذين لم أكن قلقًة بشأنهم قبل أن يضرب الفيروس. البعض منهم من الطبقة المتوسطة ومعظمهم من الفتيات، لكن لديهم جميعاً أخلاقيات عمل دراسي صلبة ومدعومة بشكل جيد من قبل والديهم.
والطلاب الذين لا يفعلون شيئًا هم نفس أولئك الذين كنت أشعر بالقلق بشأنهم منذ اللحظة التي بدأت تدريسهم فيها. الكثير منهم فقراء. البعض يعانون من صعوبات سلوكية. والبعض لديهم احتياجات خاصة معقدة. وفي المعظم، ستكون مهمة جعلهم يعملون، في أفضل الأوقات، مهمة هرقلية شاقة -حتى مع الهيكلية الصارمة التي توفرها المدرسة. وهؤلاء لم ينجر أي واحد منهم واجباً مدرسياً واحداً منذ بدء هذا الكابوس.
في كل أسبوع من عمليات الإغلاق، يقوم جميع المعلمين في مدرستي بملء جدول بيانات لتتبع أداء الطلاب. وتوفر قائمة متسلسلة خيار “التخلف في العمل” -لكنه لا يغطي الحيثيات كلها. لا يقتصر الأمر على أن هؤلاء الطلبة متخلفون في تعلمُّ المحتوى الجديد، وإنما سيكونون بحلول شهر أيلول (سبتمبر) قد نسوا جميع الأشياء القديمة -والأهم من ذلك أنهم سيكونون قد فقدوا عادات العمل الدراسي التي غرستها المدرسة فيهم بشق الأنفس منذ يومهم الأول في الصف السابع.
وفقًا لـ”مؤسسة الوقف التعليمي”، فإن الضرر الذي لحق بالمساواة التعليمية من خلال إغلاق المدارس أدى إلى تقويض العمل التعليمي -ليس عمل فترة وإنما عمل عقد كامل. ولا يقتصر الأمر على أن الفجوة تتسع بين الطلاب في صفي -إنها تتسع بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، وبين المدارس الحكومية والخاصة. ويُظهر بحث أجراه معهد التعليم بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيلوس أن 28 في المائة من الأولاد في الجنوب الشرقي يعملون في الدراسة لأكثر من أربع ساعات في اليوم، مقارنة بأقل من 10 في المائة من نظرائهم في الشمال الشرقي. والأطفال الذين يتناولون وجبات مدرسية مجانية هم أقل احتمالاً بمعدل النصف للعمل على دروسهم بجد من الأطفال الأغنياء. وتقدم ثلث المدارس الخاصة أربع ساعات أو أكثر من الدروس في اليوم؛ أي خمسة أضعاف ما توفره المدارس الحكومية.
و”الحواسيب المحمولة”! الناس يبكون. “الأطفال الأكثر فقراً ليست لديهم حواسيب محمولة أو اتصال بإنترنت”! هذا صحيح، وتحاول الحكومة وبعض المدارس تصحيح هذا، لكن التدريس عبر الإنترنت ليس حلاً مثاليًا. حتى طلابي الذين لديهم أجهزة حاسوب محمولة يفقدون إرادة المواصلة مع استمرار هذا الوضع -ولا يمكنني إلقاء اللوم عليهم. في غرف نوم المراهقين في جميع أنحاء البلاد، ربما يعتقد الآباء أن أطفالهم يعكفون على عمل واجباتهم المدرسية في الاقتصاد عن عدم المساواة في الدخل. لكنهم لا يفعلون في الحقيقة. إنهم يعملون على لعبة “فورتنايت”.
الحديث عن الضرر الذي لحق بالصحة العقلية للطلاب أقل بكثير، ولكنه ليس أقل خطورة. أتحدث بالهاتف مع فتى في سن المراهقة لأعرف لماذا لم يقم بإنجاز أي عمل مدرسي. الساعة هي الثالثة بعد الظهر وما يزال في السرير. صوته الذي كان في يوم من الأيام مبهجاً أصبح مسطحاً وهو يتحدث ببطء بكلمات أحادية المقطع. والمراهقة شأن سخيف ومزعج في أفضل الأوقات. جرِّبها في شقة صغيرة فقيرة من دون مساحة خارجية، ولا مكان تذهب إليه، ولا أحد لتراه ولا شيء لتفعله، مع الشرائح المروعة بحق السماء في “صف غوغل” المعلق فوق رأسك. ويُبلغ جميع زملائي المعلمين عن محادثات مثل هذه، أو ما هو أسوأ.
بتوقي إلى عودة المدارس، أقف على خلاف مع بعض النقابات التعليمية وبعض المعلمين. وأنا لا ألومهم على تحفظهم -الخوف من الإصابة هو شيء نختبره جميعًا بشكل مختلف، وأنا في أقصى أحد طرفي الطيف. لطالما أردتُ أن تفتح المدارس في وقت مبكر -ليس لأنني متشككة في الإغلاق أو أنني أضع الاقتصاد فوق الأرواح، ولكن لأنني أدرك يوميًا نوع الضرر الذي يلحق ببعض الطلاب؛ بتعلُّمهم، وصحتهم العقلية، وفرصهم في حياة كريمة.
طوال الوقت، قام صانعو القرار في “داونينغ ستريت” بعمل فاسد في موازنة هذه المخاطر. وكانت رسائلهم شيطانية للغاية حتى أنني لا أجد فائدة من استعراضها هنا مرة أخرى هنا. وكان ما جذب انتباهاً أقل هو رسالتهم حول الغرض من التعليم. من خلال إعطاء الأولوية للطلاب الذين سيجلسون قريبًا لتقديم امتحانات الشهادة العامة البريطانية واختبارات “مستويات (أ)”، فإن هذا يعني ضمنيًا أن الامتحانات هي الغاية من التعليم. وهذا محبط وخاطئ على حد سواء. ليست الامتحانات هي الفكرة من التعليم: إنها دليل على أنك اكتسبت بعضًا منه فحسب. وسوف يتعلم الطلاب الذين يعودون إلى المدرسة هذا الأسبوع كيفية الإجابة عن سؤال في امتحان بتسع درجات بدلاً من تعليمهم أي شيء ذي أهمية. وكان ينبغي أن يكون فيروس كورونا فرصة للناس الذين يعملون في التعليم للتفكير في ما يهم حقاً؛ وقد فوَّتنا هذه الفرصة.
في حين كانت الحكومة تعاني من أزمة فاسدة، اختبر المعلمون أزمة جيدة، مهما يكن ما يزعمه النقاد. بين عشية وضحاها، ومن دون سابق إنذار أو تدريب، تحولت المهنة بأكملها من السبورة في الصف إلى مهنة لاسلكية. في حياتي القديمة كصحفية في صحيفة “فاينانشال تايمز”، استغرقني الأمر خمس سنوات حتى أعتاد على الانتقال من المطبوع إلى الرقمي، وعلى الرغم من قدر كبير من التدريب، ما أزال أتألم وأشكو. وعندما أصبحت مدرِّسة قبل ثلاث سنوات، كنت ديناصورًا متحجر العقلية وعانيت من رهاب التقنية، ولكن حتى أنا أتقنت تطبيقات “غرفة صف غوغل” تقريباً، و”موم” و”لووم” والتطبيق الخبيث بشكل خاص “نماذج غوغل”، مع القليل من التدريب وليس الكثير من الشكوى.
لقد أثبتنا جميعًا أنه من الممكن تقديم نوع من التعليم عبر الإنترنت. وتقوم بعض المدارس بذلك ببراعة، ولكن حتى تلك التي تمكنت من جرِّ التلاميذ إلى الجلوس لمدة خمس ساعات على “زوم” في اليوم لا تستطيع حتى أن تلامس أطراف الشيء الحقيقي. ثمة سحر لا غنى عنه في الدرس الحي المباشر، بقدرته على التحفيز والبهجة والإلهام. وتقوم صديقة لي، صانعة أفلام وثائقية تحولت إلى معلمة، بوضع خطة لحمل 100 مقعد مدرسي إلى متنزه عام، وفصلها عن بعضها بمسافة مترين وتعليم “ماكبث” من خلال مكبر للصوت. آمل أن تمضي قدُماً بخطتها.
في الأسبوع الماضي، وضع الاتحاد الوطني للتعليم، أكبر نقابة للمعلمين، خطة لسد الفجوة. وهي تحتوي على الكثير من الأفكار الجيدة، بما في ذلك فتح المكتبات والمسارح ومساحات أخرى للطلاب للتعلم فيها. ولكن، كانت في الخطة عبارة ملأتني بالخوف -“التعلم المُدمج”. وهكذا، بحلول شهر أيلول (سبتمبر)، قد نقوم بتدريس فصول صغيرة في المدرسة ونقوم بالتدريس عبر الإنترنت بالتزامن في وقت واحد. آمل أن لا تصل الأمور إلى هذا، من كل قلبي.
ولكن، ثمة شذرة واحدة من الراحة في كل ما يجري. قبل أربع سنوات، عندما قمت بإنشاء “الآن درِّس”، وهي مؤسسة خيرية تهدف إلى إقناع كبار السن بإعادة تدريب أنفسهم ليعملوا كمدرسين، لم أكن أعتقد أن الأمر سيتطلب وباءً لينجز عمل العلاقات العامة نيابة عني. ربما تكون تجربة تدريس الأطفال في المنزل، أو ربما هي الطريقة التي تبدو بها العديد من المهن الأخرى الآن غير مستقرة أو لا طائل من ورائها -ولكن، في كلتا الحالتين، يقف المحترفون الآن في طابور حول الزاوية ليصبحوا معلمين. في كل واحدة من أمسيات تبادل المعلومات الجديدة لدينا (اجتماعات مكتظة بواسطة “زوم”)، أخبرت المتدربين الآملين بأن يصبحوا معلمين بما علمني إياه الإغلاق. وهو لا يُقتصر على أن التعليم يهمُّ أكثر من أي شيء آخر -كنت أعرف ذلك مُسبقاً- وإنما أن ذلك التعليم المدرسي عتيق الطراز هو أفضل طريقة لتقديمه. وقد رأينا في الأشهر القليلة الماضية ما يحدث للطلاب، لا سيما الطلاب الضعفاء، عندما تسلبهم التواجد المادي للمعلمين، والروتين، والتفاعل الاجتماعي، والاحتجاز ووجبات الغداء المدرسية.
بالنسبة لي، لست فقيرة أو محرومة، وليست لدي احتياجات خاصة، ولدي جهاز حاسوب محمول متصل بالإنترنت، وأنا لست في الخامسة عشرة من عمري. لكنني أريد بشدة استعادة حياتي المدرسية أيضًا.
*صحفية بريطانية تحولت إلى معلمة. وما تزال مدرجة ككاتبة عمود في الإدارة في صحيفة “فاينانشيال تايمز”، لكنها أصبحت معلمة متدربًة في مدرسة ثانوية في العام 2017. وهي مؤسسة مشاركة للمؤسسة الخيرية التعليمية Now Teach.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: School’s out: the true cost of classroom closures: The gap between rich and poor pupils is widening
المصدر: (ذا سبيكتيتور) / الغد الأردنية