يشير الإرث التاريخي لمصطلح “العمالة” إلى أن الأنظمة الحاكمة الشمولية المستبدة في الشرق أكثر من يستعمله كأداة قمعية واستبدادية تجاه من يقف ضدها أو يعارض سياساتها وكذلك أداة إرهاب لمناصريه، وتتبعه بمصطلح الخيانة لتجريد ذلك المعارض أخلاقياً. بل قد يستعمل لتوصيف دولة ما أو نظامها السياسي ممن يختلف معهم.
الدلالة اللغوية للمصطلح، أو محاولة وضع معايير لمن ينطبق عليه أو لا ينطبق في حالة سيولة، لأنه ليس مقياساً أخلاقياً أو حالة تنظيمية أو توصيفية موضوعية. لذلك غدا كلمة مفضلة في خطاب “الممانعين العرب” لوصف من يحاول الخروج عن عباءة الحاكم، أو التفكير خارج الصندوق، أو البحث عن آفاق إنسانية أو حلول واقعية أو تفاوضية لمشاكل كبرى استنزفت البلاد وأهلها عبر عقود طويلة. وتسرب “الخطاب العمالاتي” إلى الساحة اللبنانية ليغدو جزءاً رئيسياً من خطاب حزب الله تجاه التيارات اللبنانية الأخرى، وأولاً بأول بات لبنان من أكثر الدول استعمالاً لمصطلح العمالة، حيث توجهه طوائف لطوائف كاملة: هذا عميل لفرنسا وهذا عميل للسعودية وهذا عميل لإيران وهذا عميل لسوريا وهذا عميل لروسيا.
غير أنه، سورياً، له خلفيات تاريخية إضافية، منذ أيام الاحتلال الفرنسي ومفاوضات الاستقلال والعلاقة مع لبنان وتبعات الحرب العالمية الثانية وحلف بغداد والهلال الخصيب، حيث كان كل من المتهمِين والمتهَمين يتفاوضان مع قوى داعمة دولية؛ لعل أحداً منهم يحصل على مكاسب تبقيه في الحكم أو تساعده على استلام الحكم. مع أن من يطلقه في وجه الآخر يدرك أن الدول ليست جزراً منفصلة وأن مراعاة المصالح الدولية والتواصل معها ضرورة، شرط أن تبقى مصلحة بلدك هي الأولوية!
سورياً؛ دخل المصطلح مرحلة جديدة مع حافظ الأسد بحيث أضفى عليه دلالات شاسعة، مفادها: كل من ليس معنا أو مع طروحاتنا هو عميل. وما دام عميلاً فهذا يقتضي وجود طرف آخر، إنه الاستعمار وأميركا والدول الغربية والصهيونية أو أي نظام يكشف شيئاً من دجلنا وكذبنا! وفيما كان حافظ الأسد يخطب عن العمالة ويتهم بها الجميع عبر استعمال مصطلحات فضفاضة، لا أحد يستطيع التدقيق فيها أو تحري دقتها كان هو وجهاز مخابراته في الغرف المغلقة يتفاوضان مع ذلك الطرف الآخر (العدو). خاصة إن كان ذلك العدو يسهم في توطيد أركان الحكم ولا مانع من عقد صفقات معه، في أميركا وإسرائيل، لذلك فإن استعمال مصطلح العمالة، حافظياً، ما هو إلا أداة بطش جديدة ضد من لا يصفق لطروحاته ويدبك وينخّ في الساحات!
على المستوى الواقعي لا يعني أنه لا يوجد عملاء لدول أخرى على أرض هذه الدولة أو تلك ينفذون سياسات تلك الدول أو يكونون مصدر معلومات لها، وهذا ما تحدثت عنه السينما والدراما وعدد من الكتب والروايات، بل إن هناك عملاء صار لهم شهرة دولية، وتعد الأفلام التي تتحدث عن هذا العميل أو ذاك من الأفلام ذات المشاهدة العالية نظراً للجانب الجاسوسي والأمني والصراعي.
استعاد مصطلح العمالة وهجه سورياً مع بداية ثورة عام 2011 حيث كانت هذه التهمة بإسقاطاتها الأخلاقية أداة رئيسية وجهها النظام السوري لمن اختاروا خيار الثورة متناسياً أنه هو نفسه باع البلد ورهن مقدراته لعقود طويلة لمن وقف معه (إيران وروسيا)، ولم يستطع تجاوز تاريخه الإقصائي ليكون مرجعية للسوريين، بل اختار خيار كل من هو ليس معنا بالضرورة ضدنا، والأسد أو نحرق البلد، فاحترق هو وحرق البلد معه، وبات عميلاً علنياً أو سرياً لكل من يساعد في عدم سقوطه!
العمالة اليوم في المشهد السوري المعارض تعني تبني طروحات أو أفكار لجهة خارجية وتقديمها على مصلحة البلد، وكذلك تعني تزويد جهات خارجية بمعلومات عن الداخل السوري مقابل التمويل، وكذلك أن تكون جزءاً من أجندة دول خارجية في الداخل السوري، أو أن تكون اتجاهات قراراتك في الهيئات المعارضة ذات مصدر خارجي، بحيث تكون أداة لهذه الجهة أو تلك وتستمد طروحاتك منها وليس من مصلحة بلدك أو قيم ثورتك ومعارضتك، أو ما يمليه عليك ضميرك الأخلاقي، بمعنى من المعاني تقديم خيارات الآخر “الممول” والارتهان لوجهات نظره على مصلحة البلد الذي تحمل هويته والتخلي عن أخلاقيات العمل بالشأن العام مقابل الحصول على جنسية أو مكاسب ما!
وإمكانية حصول “العمالة” في المشهد المعارضاتي السوري اليوم واردة جداً نتيجة أسباب عدة منها:
- اهتزاز القيم والثوابت والمفاهيم لدى معظم السوريين وهذه من سمات مراحل الحروب في تاريخ البشرية، بل إن كثيرين باتوا يقولون: أتحالف مع الشيطان من أجل إسقاط النظام، المهم وأنت في طريقك إلى تحقيق هدفك ألا تفقد منظومتك الأخلاقية والقيمية.
- شيوع حالة ثقافية مفادها: إن لم نقم بهذا العمل فإن هناك من سيقوم به بدلاً منا، وقد يؤدي إلى ضررنا إن قام به على طريقته!
- المقارنة بالأسوأ، وحضور فكرة أن النظام يقوم بهذا وأكثر مع دول عدة؛ خاصة روسيا وإيران وهو تشبيه غير مقبول لأنك إن شابهت من ثرت ضده أخلاقياً فهذا انحطاط جديد!
- الرغبة بحجز دور مستقبلي ومكانة، في ظل قناعة كثيرين أن هذا الدور من الصعب الحصول عليه عبر جهات سورية، بل من خلال دبابات الآخر أو أسلحته أو سفاراته كما حصل مع المعارضة العراقية ذات يوم، دون الانتباه إلى اختلاف السياقات والأزمنة.
- ضياع الحدود بين العمل المدني والمخابراتي أوروبياً وسورياً، بحيث إن الكثير من المنظمات التي تدعمها تلك الدول، وهي بدورها تدعم منظمات سورية، هي بطريقة أو بأخرى مخابراتية أو مدنية، نظراً لأن تلك البلدان تفكر بالمصلحة العليا لمواطنيها، من دون الاهتمام بفكرة من يقوم بالمهمة جهاز مخابراتي أو مدني، خاصة أن المخابرات والأجهزة الأمنية في تلك البلدان هي بخدمة المواطنين وليس لإرهابهم أو قمعهم أو أداة بطش بين يدي الحاكم فتضيع الطاسة بين المدني والمخابراتي!
- تخلي كثير من الفاعلين الدوليين عن السوريين وطول أزمة السوريين وعدم وجود أي آفاق حل، وبالتالي اعتقاد سوريين كثيرين أنه لا بد من اللجوء إلى حلول بديلة، متكئين على مصطلحات مغرية وشائعة وترندية من مثل: حماية الضحايا أو التخفيف من العنف والبحث عن المعتقلين أو البناء في مرحلة ما بعد النزاع أو حقوق الإنسان كمداخل للعمل في الداخل السوري.
السؤال: هل يعمل سوريون معارضون مباشرة، أو من خلال منظمات يديرونها تقوم بأعمال على الأرض في المناطق التي تديرها المعارضة السورية كعملاء لجهات خارجية دولية أو إقليمية أو عربية؟
الإجابة لا تكون بـ (نعم أو لا)!
بل تقتضي الحديث عن مفهوم جمع “المعلومات في العالم” أو “العينات” من الأرض، وتبادل ذلك مع جهات دولية أو مراكز أبحاث أو ممولين يدعمون مشاريع وبرامج في مناطق المعارضة أو النظام.
أولُ منجم سوري يكمن في اللاجئين السوريين في أوروبا، هؤلاء حتى يدعموا سرديتهم إبان طلب اللجوء، لا يتركون سردية إلا ويذكرونها، وينصحهم من سبقهم بشهور أو سنوات بوضع المزيد من البهارات على سرديتهم كي يمر طلب اللجوء بسرعة ودون تعقيدات، وفيما يقولونه الكثير من الصحيح والكثير من الخطأ!
المنجم الثاني كما يرى متابعون يكمن في تلك المنظمات التي تتزيا بزي هيئات بحثية وعلمية وحقوقية وإنسانية وتطوعية، حيث إن حصولها على تلك الملايين من الدولارات ليس إكراماً لعيون سوريا، بل بهدف الحصول على معلومات أو (تبادلها) لسبب بسيط أن هذا السخاء الأوروبي والعربي والإقليمي أحياناً غير معتاد، ويعلم كثيرون أن أوروبا بخيلة جداً في تقديم الدعم “لأجل العيون” بل هو جزء من برامج مخابراتية غالباً يقدم عن طريق وزارات وهيئات ومنظمات مدنية، لنكن صريحين، لا يوجد تمويل ليس خلفه أجندة ما، ولا توجد دولة تمول شيئاً في سبيل الله، والسلوفان جاهز: حقوق المهمشين أو الأقليات أو العابرين جنسياً أو الضحايا!
لا تزال “العمالة” مفردة مغرية لدى كثيرين للإلقاء بها في وجه آخرين أو خلف ظهورهم، ولا بد لمن يستمع إلى تلك التهمة أن يبدي طهارته وإدانته، وأن يدين العمالة الضارة والنافعة!
منذ أن كنا في سوريا؛ كانت تهمة العمالة توجه لكل من يزور السفارات الغربية أو يحضر حفل استقبالها أو يدعوه هذا السفير أو ذاك، أو يحصل على فيزا (شنغن)!
اليوم باتت تهمة العمالة والتخابر تستعملها دول مجاورة لسوريا بحق شخصيات حاولت المطالبة بحقوق السوريين، أو تسعى للجوء إلى هنا أو هناك، وهم يعلمون أن أي ملف لجوء سياسي عبر السفارات الغربية (الفرنسية خاصة) لا بد أن يكون فيه أسباب موجبة لكي يقبل طلب اللجوء ولعل أحدها الشعور باضطهاد ما وتقديم أدلة عليه، لكن لا غرابة في أن يحدث ذلك وقد وجهت تهمة التخابر قبل سنوات لرئيس دولة عربية بكل رمزية الرئيس السياسية والسيادية!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا