شوق الدرويش رواية متميزة جدا. وهي تتحدث عن السودان في عهد المهدي في القرن التاسع عشر. تستحضر عالما كاملا بكل تفاعلاته. عبر شخوص يعيدون سرد حياتهم فيصبح الحدث وكأنه وثيقة تاريخية. وهذا لا يؤثر على البعد الفردي والشخصي لابطال الرواية.. بل من خلالهم نعيش العصر وما حصل
نتعرف على الخرطوم المدينة التي يحكمها الإنجليز والمصريين مشتركين. وعلى السودان التي ضمها محمد علي الى حكمه في مصر.. السودان الذي يعيش في عصر شبه بدائي على المستوى الحياتي المباشر. فالعبودية ما زالت حاضرة وأكثر من نصف السكان عبيد وجواري. وواقع عبوديتهم طبيعي مثل مياه النيل. و كالفقر والجوع والمجاعات والأمراض وظلم الحكام وقهرهم
.تبدأ الرواية من بطلها بخيت منديل المسجون في سجن سلا منذ سبعة سنوات. منديل عبد اسود يتذكر طفولته في قريته في جنوب السودان. وكيف هاجم تجار العبيد قريته وكيف أخذوه الى الخرطوم واسترقّوة وباعوه لاوربي استغل شبابه. وكانت خدمته له عبر أربع سنوات من خلال مضاجعته جنسيا رغما عنه كعبد
فقد منديل سيده في أحدث هجوم جماعة المهدي على الخرطوم وفتحها واخراج المصريين والانكليز منها . وحصل على حريته في الفوضى التي حصلت… حاول التعود على الحرية وبدأ يتردد على مشرب المريسة (خمر). وقبض عليه.. لأنها كانت محرمة. وأودع السجن ونسي هناك لسنوات.. كان قد التقى صدفة في أيام بحثه عن الرزق بحواء الفتاة البيضاء التي سكنت قلبه ولم تغادره أبدا.. وكان يتردد على مكان تواجدها عند سيدها. وهي أيضا جارية، يلقاها ويحادثها. وكانت تتجاوب احيانا وتصده احيانا. لكنه أقرّ في نفسه انها هي مبرر وجوده في الحياة. وهي حبه الذي يجب أن يحصله ولو بعد حين… لكن الواقع كان أقسى
حواء هي ثيودورا المصرية من أصل يوناني. كان ابوها وامها وعائلتها قد هاجروا لمصر معها. وعندما كبرت خاف أباها عليها من الخطيئة. فقدمها للكنيسة في الاسكندريه. وهناك كبرت وترعرعت في أجواء ايمان وتعبد واحساس بالرساليه. وأنها منتدبة لعلاج خطايا البشر.. وعندما قررت الكنيسة أن ترسل بعثة الى الخرطوم كانت منها. وجاءت من بعض القسس والمرافقات. كانت رحلة شاقة استغرقت حوالي الشهر. تعرفت على السودان بكل فقره واجوائه صحرائه ومياهه وبشره.. كانت تحمل جذوة دورها الرسالي لهداية البشر الى السيد المسيح. في الخرطوم كانت جزء من المجتمع المسيطر على مفاصل الحياة كاملة. فهي وكنيستها قريبة من الحكام والتجار.. تجار عبيد وآثار واستثمار في كل شيء. يعيشون حياة أقرب لحياة الملوك والعبيد والجواري يحفون بهم من كل جانب. والسودان كان يعيش أجواء الفقر والتخلف والمرض والمجاعات. ولم يكن للناس من مخرج إلا الله كقدر يغير حالهم لاحسن.. وانتظار المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا بعد ان ملئت جورا. كانت الأرض حبلى والناس تنتظر. والمصريين كحكام والانكليز والاوربيين عموما. ينعمون بعبودية وفقر وتخلف اهل السودان
تختمر فكرة الثورة المهدية. ويلتحق بها الأنصار وتتحرك لتصل للخرطوم وتسقط حكم المصريين والأوروبيين معهم. تحاصر الخرطوم لوقت طويل وينتظر الحكام المدد من مصر لإنقاذهم.. يموت الناس من الجوع والمرض والحصار.. وتسقط الخرطوم بيد المهدية. وتستباح لأيام كثيرة ولا منجى لأحد. تجمع الرجال والنساء ممن بقين على قيد الحياة. ومنهم ثيودورا التي هوجمت كنيستهم وقتل كهنتهم وتحولوا بين يوم وليلة إلى عبيد ينتظرون قدرهم.. ثيودورا ستكون من نصيب تاجر كان قد تحالف مع المهدية أثناء حصارهم للخرطوم. ستكون جاريته ويسميها حواء . ترفض ان يجامعها. ولا يغفر لها ذلك فيذلها دائما. وكان آخر عقاب لها. هو أن ختنها وأساء لأنوثتها.. وهذا كان شائعا وطبيعيا وقتها.. في هذه الفترة تعرف عليها بخيت واحبها ولاحقها. وطلب منها أن يبني حياة مشتركة معها. لكنها لم تكن تؤمن بأن خلاصها ممكن معه. وكانت تعتبره وصنفه الاسود عبيدا. وهي البيضاء المسيحية. وهم المسلمين الكفار. لكنها كانت تتقبل اهتمامه وحنوه عليها… كان يفكر بها ليل نهار. وهي كانت تفكر بأن تهرب من هذا العالم كله راجعة إلى مصر واليونان وأوروبا.. فلا عائلة لها الان في مصر. فقد ذبح ابوها أمام بيته ايام هوجة (ثورة) احمدعرابي وامها واخوتها عادوا لليونان.. هي تدون كل ما يحصل معها وستنشر ماكتبت. البعض ذاتي انساني. والبعض وصف لما حصل معها في رحلتها في بلاد العبيد هذه.. لكن المقادير تسير بغير ما أرادت.. فالرجل الذي وثقت به على أن يهربها. سلمها لسيدها الذي عذبها حتى ماتت… بخيت كان قد افتقدها وكانت قد جاءت اليه واعطته دفترها التي كتبته. وطلبت لقاءه. لكنه لم يذهب كانت سوف تودعه. وستقول له انها تحبه وانه الوحيد في هذه البلاد من يستحق أن يعتبر إنسانا عندها. و تخبره انها مشوهة جسديا. وانها لا تستطيع ان تبقى هنا و انها ستهرب تاركة له ومعه ذكرى طيبة.. لكنه لا يأتي ولا يسمعها.. في الحانة يعرف حقيقة ما حصل وأن الرجل الذي كانت تلتقي به لم يكن غريمه بحبها، بل مهربها. وانهم ستة أشخاص تعاونوا عليها ليقتلوها بعد محاولة هربها.. ووطن نفسه أنه سيقتلهم جميعا. ثأرا لحبه ومبرر وجوده في الحياة. لكن العسس يقبضون عليه ويودعونه السجن لسبع سنوات.. وفي السجن تتعتق فيه جذوة الانتقام.. في السجن حياة أخرى لا اكل ولا كساء. والسجين عليه أن يعمل ليعيش. مقيدا دوما. يخرج يوميا برعاية الحراس مع غيره حيث يجد من يحتاج عملا ما. ويعمل ويعود كل يوم ليعيش حياة أقرب للعدم.. في السجن حياة كامله فيه الخمر وزوجة السجان تقوم بكل الخدمات. فيه الصحبة وتبادل الحكايا. والاعتراف السهل بعدمية الحياة المعاشة وقسوتها.. الظلم يخيم كالسماء على كل البشر هنا… في السجن سيتعرف على مريسيله الطفلة التي رعاها أحد السجناء. والتي انتقلت رعايتها له والتي كبرت واتقنت كل فنون الحياة. تساعد في كل شيء ولكل شيء ثمنه. لكن بخيت بالنسبة لها حاميها. تحبه لكنها تخفي ما بنفسها. لأنها تدرك جنون حبه لحواء البيضاء ثيودورا. وأن رسالته الان فقط ان يخرج من السجن لينتقم لها. هو عاش لذلك وإن مات بعدها فلاجل لقائها عند الرب. هو يوقن في ذلك
وتمر السنين وتتهاوى المهدية حيث يموت المهدي ويأتي خليفته ويفكر بتولية ولده. ما زالت المظالم نفسها ولم يتغير من واقع حياة الناس شيئا. وتعود القوى الغازية مجددا. وتسقط الخرطوم… ويخرج من السجن بخيت .. ليكمل رسالة الانتقام … يستعين بمريسيله. وهي تقدم له كل العون ويبدأ بقتل من كان سببا بقتل حبيبته. قتل خمسه. وقبض عليه قبل أن يصل للسادس… من قبض عليه حسن أحد أتباع المهدية المخلصين… قبل سنوات عندما أتاه داعي الجهاد لنصرة المهدي. جلس الى زوجته فاطمة وتحدثا أن داعي الجهاد جاء واتفقا على الانفصال فطلقها ورحل. فطريق الجهاد لا رجعة فيه. وينطلق مع الأنصار في معارك فتوحاتهم في كل مكان. المهدي مبعوث من الله. ومبشر بفتح السودان ومصر ومكة والدنيا… وهو يدخل من قرية لقرية. يستبيح مع الأنصار البلاد والعباد. الناس في ضلال وعلينا هدايتهم.. كان مسكونا بجهاديته. لكنه مع الزمن أدرك أن واقع الحال لا يتغير. فالظلم والجوع والمجاعة والقتل قبل المهدية كما في وجودها وقد تكون اسوأ.. اين الحق في استباحة بلاد لمجرد انهم ليسوا مهديه. واتباع طرق صوفية أخرى. يقتل من يقتل ويستعبد الباقي ويستباح كل شيء.. بعد مضي سنين. ومحاولات الجهاد في مصر وغيرها. كلها تبوء بالفشل والضحايا الناس. الذين اعتبروا كفار. والاسوأ ان الانصار ومهديهم ايضا. معتبرون كفار واتباع متنبئ. كذب عن الله واشتغل بساطة الناس وحاجتهم للخلاص. وفهمهم البسيط و المتخلف للإسلام.. حسن يلاحق بخيت للقبض عليه بعد قتله لمعلمه وتسليمه لأولي الأمر للبت في امره.. سيكتشف بعد القبض عليه. إنهما ضحيتا ايمان مطلق بخيت ايمان بحبه. والانتقام له.. وحسن ضحية ايمان انقطع عن أسبابه الحقيقية. من حق وعدل وحياة انسانية افضل.. فلم يتغير شيء، الظلم والتخلف والمجاعة و العبودية والقتل المجاني والحياة المأساوية ما زالت قبل المهدية التي لم تحمي الناس ولم تحمي نفسها.. وبعدها.. سيعرض حسن على بخيت أن يهرب قبل تسليمه لأن مصيره القتل. ولانه تعاطف معه. لكن بخيت رفض ذلك. فقد اعتقد أنه قام بالمطلوب منه وقتل الذين قتلوا حبيته. وهو الآن يستعجل الموت ليلتقي بها في ملكوت الله
.هم الان في طريقهم ليسلم حسن بخيت لولي الأمر
.هنا تنتهي الرواية
.وفي قراءتها.. نقول: إنها رواية ناجحة بكل المعايير فهي تنسج كقطعة قماش بخيوطها أول بأول. وتكتمل كلوحة ترسم ببراعة ودقة تكتمل في آخرها وتصنع روعتها.. وهي أيضا مثل طبقات الارض لكل مستوى مافيه وما يحوي. الابطال يعيشون حياتهم بامتلاء كامل. هم بشر حقيقيون تلمسهم بنفسك وتتعاطف او تستنكر افعالهم وتصبح جزء من حكايتهم.. بخيت وحبه المهيمن عليه .. ثيودورا وإيمانها الراسخ برساليتها ودورها في هداية البشر العبيد. في بلاد نسيها الله.. حسن وايمانيته التي جعلته يترك كل شيء وراءه ليذهب ملبيا نداء الله.. وما كانت مصائرهم.؟!!. بخيت. عبد منذ البدء عاش كذلك ومات ممرغا بجرائم قتل بالجملة. ثيودورا استخدمت هي وكنيستها في خدمة المستعمر والمحتل سواء كان أجنبيا. او ابن البلد المستعمر الذي اهتم بمصالح افراده ودوله. واستمرت حياة شعب السودان جحيم من الفقر والتخلف والمجاعات والظلم والمرض.. وصارت ضحية أفكار عنصرية اهتمت بالسود بصفتهم عبيد وليسوا بشرا تتساوى انسانيا معهم.. اما حسن الذي تبع دينه وربه واصبح قاتلا ولم يستوعب أصل الدين (كل دين). وهو حماية الإنسان وإكرامه وعيشه في احسن حال وليس ظلمه وقهرة وقتله واستمرار حياته بأسوأ مما كان
.ونحن الآن وبعد مضي ما يزيد على قرن ونصف من عصر المهدي والعبودية.. ما زال استغلال العقائد من كل البشر وخاصة الحكام والدول مستمرا. تشرعن استغلالها وقهرها لشعوبها والدول الأخرى. باسم رسالات السماء او الارض. المسيحية والإسلام والاشتراكية والقومية والرأسمالية والليبرالية والعلمانية والديمقراطية.. الخ .. كلها أفكار وشعارات غطت وتغطي على استغلال البشر وظلمهم واستعبادهم
.في ربيعنا العربي كل العقائد في سوق التداول وكلها مغمسة بدمنا
.نحن بامس الحاجة الان للاحتكام إلى واقع الحرية والعدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية والتشاركية والحياة الأفضل
.هي في الممارسة معيارا اوْحد لصدق كل العقائد أو كذبها او استغلالها
14.5.2016
نسيت اسم المؤلف ياسيدي المحترم !؟
رواية “شوق الدرويش” للكاتب “حمور زيادة” قراءة جميلة وتعقيب من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن السودان في عهد المهدي في القرن التاسع عشر. تستحضر عالما كاملا بكل تفاعلاته، وبعد مضي ما يزيد على قرن ونصف من عصر المهدي والعبودية..ما زال استغلال العقائد من كل البشر وخاصة الحكام والدول مستمرا .