كانت مصر في الخمسينات والستينات تمتلك مشروعاً عروبياً جامعاً سياسياً وثقافياً وتحررياً..
كان الفنانون العرب يعلمون أن شرعيتهم الجماهيرية تأتي من مصر .. فنجاح أي فنان عربي في مصر .. وقبوله مصرياً يعني نجاحه عربياً وجواز مروره لكل الأقطار العربية .. مهما كانت شهرته في بلده الأصلي .. فالجمهور المصري هو الأوسع عددا .. تقريبا ثلث الوطن العربي في كل الأزمان .. وهي لذلك وغيره .. نهر لا ينضب من الموسيقيين والملحنين والشعراء والسينمائيين والتقنيين ..
ولم تكن مصر تبخل على أي فنان عربي أصيل بالشهرة والدعم .. فقد استقبلت مصر فريد الأطرش وأسمهان ونور الهدى ومحمد سلمان ونجاح سلام وصباح ووردة الجزائرية وطروب وجمال من لبنان وعبد الوهاب الدوكالي المغربي ثم فهد بلان السوري وعليا التونسية .. وعشرات وعشرات غيرهم.. في السبعينات والثمانينات .. أتوا من مختلف الأقطار العربية وحازوا شهرتهم العربية بعد جواز مرور من الجمهور المصري ( وذلك ليس إمتيازا للمصريين كجينات ممتازة عن الأخرين لا سمح الله بقدر كونها إمتيازاً للتاريخ والجغرافية والديموغرافية ) .
وربما لا يعرف الكثيرون أن اول مرة نشاهد المطرب السعودي محمد عبده كان في الستينات من خلال التليفزيون العربي من القاهرة من خلال مسلسل كوميدي خفيف باللهجة السعودية ..يلعب فيه التيمة التقليدية السائدة آنذاك في السينما العربية .. تيمة المطرب الفقير الموهوب الذي يشق طريقه بصعوبة وبموهبته ..
وشاهدنا في نفس الفترة في تليفزيونا العربي من القاهرة مسلسل مقالب غوار .. وتعرفنا على الممثل القدير دريد لحام ومقالبه .. باللهجة الشامية الشامية لهجة أحياء دمشق الاصلية في الشغور والصالحية وغيرها من أحياء دمشق الشعبية ..
كان ذلك كله ضمن مشروع عروبي كامل تقوده القاهرة وتقف السيدة أم كلثوم قائدة لكتيبة العروبة والتعريب بأغانيها وقصائدها الفصيحة .. وكانت الإذاعة المصرية هي سلاح مصر لكل الأقطار العربية .. فنياً وسياسياً..
وأتذكر جيدا ان بداية معرفتنا لطلال مداح كان في النصف الأول من السبعينات .. والذي انتشرت اغانيه في مصر مع ثورة الكاسيت .. والحفلات التي كان يقدمها في مصر .. ومن ثم انطلق طلال مداح عروبيا وإلى كل الأقطار العربية ..
وإذا خرجنا من مجال الفن والغناء إلى مجال الثقافة فسنعرف أن صحافتنا ومجلاتنا كانت مصدر الثقافة الأكثر انتشاراً في المشرق العربي خصوصا .. فكانت الطليعة المصرية والكاتب والفكر العربي .. المجلات الأكثر تداولاً وانتشاراً.. وينافسها بدرجات متفاوتة مجلة العربي الكويتية والمجلات الثقافية والفنية اللبنانية كالآداب والطليعة العربية البيروتية ..
وكان جواز مرور تلك المجلات هو كتابات المثقفين المصريين ..ودخولها للسوق المصري بأسعار خاصة لمصر .. فهي السوق الأوسع المستهلك للثقافة في الوطن العربي ..
وكان معرض الكتاب في القاهرة هو جواز مرور كل دور النشر العربية للسوق الأوسع استهلاكا للكتب أي مصر ..
الخلاصة : مصر ليست إمتيازا للمصريين .. مصر إمتيازا لدورها ووفاءها لهذا الدور الذي كانت الضرورة تجبرها على القيام به مهما كانت الظروف ..
منافسة مصر على دورها التاريخ ممكن ومرحب به مادام في إطار المصلحة العربية .. والمصلحة العربية فقط ..
أما وراثة الدور المصري وعلى حسابه فهو وهم استعماري فاشل .. سقط سقوطا متكرراً مع سياسة الأحلاف الإستعمارية كحلف بغداد والحلف المركزي والحلف الإسلامي .. الخ .. الخ ..
ولديّ يقين لا يتزعزع أن المخزون الحضاري لدى المصريين قد يخبو .. قد يضعف .. لكنه يظهر في اللحظات الحاسمة لينقذ مصر .. وينقذ معها أمتها العربية ..
( هذا البوست أكتبه كقومي عربي قبل أن أكون مصريا .. واثق أن كثير من القوميين العرب من خارج مصر يشاركونني نفس المفاهيم ).وصباح الخير يا عرب ..
المصدر: صفحة صفوت حاتم
عندما تملك الأمة والدولة مشروعاً عروبياً جامعاً سياسياً وثقافياً وتحررياً يكون يعمل لبناء أمة متحضرة متطورة وهكذا كانت مصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لذلك كانت قبلة الفنانين لينطلقوا منها بإلتزامهم الوطني والعروبي والثقافي ، ولكن عندما يكون الغاية الترفيه وتحويل الشعب لعالم التفاهة يسقط الفن والقيم والمجتمع ، رؤية دقيقة .