حنين الصايغ كاتبة لبنانية واعدة، روايتها ميثاق النساء هي العمل الأدبي الأول الذي اقرأه لها. تعتمد الرواية في سردها على لغة المتكلم من بطلتها الرئيسية امل، بحيث تظهر الرواية وكأنها سيرة ذاتية لها. يتداخل في الرواية عوالم ما تعيشه امل بين ما تعيشه في نفسها و عقلها ووجدانها. وما تعايشه في واقعها الاجتماعي فهي فتاة من قرية درزية في جبل لبنان وهي محكومة بكل الضوابط والاجتماعية والدينية لكونها امرأة ودرزية في ذات الوقت في هذه البيئة المحددة والدقيقة والصارمة. كما تتابع الرواية تطور حياة أمل التي لم تتقبل ظروف حياتها التي اعتبرتها قيدا على حريتها وحقوقها و حياتها وكانت أولى خطواتها العملية خروجها من قريتها الى بيروت حتى تسجّل في الجامعة الأمريكية حيث تكون قد كسرت حاجز يمنع الفتاة الدرزية من أن تتابع دراستها الجامعية بسبب انها ستتزوج في وقت ما و تتفرغ لعائلتها فلا وقت لها للدراسة الجامعية ولا للاستفادة بعد ذلك من حصولها على شهادتها الجامعية…
تبدأ الرواية من لحظة ذهاب امل الى الجامعة الامريكية للتسجيل فيها، كانت مرتبكة، وتحس انها تخطو خطوة صعبة وان طريقا طويلة مضنية قد قطعته حتى وصلت الى هنا…
أمل ابنة عائلة درزية في قرية درزية في جبل لبنان. الدروز مجتمع مغلق على أهله. وعقائده تكاد تكون غير معروفة إلا لمن أُعطي دينه من قبل المشايخ. يقسم الدروز الى متدينون وجسمانيون وهم الذين لم يحصاوا على دينهم. لكنهم ملتزمون كلهم بما تتطلبه البنية الاجتماعية لهم كدروز. فهم عصبة واحدة متماسكة بغض النظر عن درجة تمسك البعض منهم بالدين. وهم طائفة لا تتوسع بالتبشير، تؤمن بالتقمص. وان عددهم ثابت حيث تحل أرواح الميتين في الولادات الجديدة حيث تركت أجساد “قمصان” الميتين. يؤمنون بالحاكم بأمر الله الفاطمي بكونه إلاها لهم. لهم رموزهم الدينية وكتب الحكمة. التي يقرؤنها في عباداتهم…
في ذاكرتها قصة جدها الذي عاش حياته شيخا. وكيف اصر على أولاده ان يصبحوا شيوخا. أحدهم والد امل والآخر الذي قتل ايام الحرب الاهلية في لبنان. اضطر الاولاد للعمل لأجل معيشتهم ومعيشة والدهم ووالدتهم واختهم العانس. لكن الوالد اصر على تمشيخهم. وقفت الام معهم طلقها زوجها بسبب ذلك عاشا مع بعضهما في غرفة مقسمة بحائط لعقود لا يرون بعضهم ولا يسمعون صوت بعضهم. وعند وفاة الجد تحولت غرفته لمزار ونصّب ولي صالح…
يتعبدون في أماكن خاصة لخلوتهم عن طريق قراءة كتب الحكمة والتفكر، يقودهم شيوخ العقل في شؤونهم الحياتية كاملة الدينية والحياتية…
المرأة عند الدروز كما الرجل لها الحق في أخذ دينها وتصبح شيخة مثل الرجل. كما أن جميع أمور المرأة محكومة بتبعيتها الى الاهل اولا ثم للزوج. وظيفتها الاولى والاساسية أن تكون زوجة صالحة وام تربي أولادها وترعى امور بيتها بأحسن حال…
وعت امل نفسها ضمن هذه البيئة هي واخواتها البنات الاربعة معها، الأب من المشايخ يعمل في مهنة حرة. وأم تعمل في صناعة الخبز وبيعه إضافة لشؤون منزلها بحيث تؤمن لنفسها موردا ماليا بسيطا تلبي به بعض حاجاتها وحاجات بناتها.
امل تتعلم في مدرسة البلدة لفت نظر مدرسها وجود موهبة شعرية لديها. شجعها على الاهتمام بها. امل تدرك أن الطريق أمامها صعب وان الظروف الاجتماعية والدينية تمنع عليها أن تتجاوز التعليم الثانوي. وأنها ستكون جاهزة دائما لأن تتزوج وتدخل في دوامة الحياة العائلية. كان الطموح لتكمل دراستها الجامعية اقرب للخيال الذي يصعب تحقيقه…
حاول والدها إخراجها من المدرسة وعدم إكمال دراستها الثانوية، توفير مصاريفها وأنها ستتزوج ولا فائدة لتعلمها. لكن والدتها اصرت على متابعة دراستها وقررت دفع المصاريف منها شخصيا وذلك من أجر عملها في صناعة الخبز وبيعه …
جاء احدهم الى والدها يتابع شأنا عنده وشاهدها كانت في السادسة عشر من عمرها. اول نضوجها. لفتت نظره. ثم عاد ثانية طالبا لها زوجة. وصل الخبر لها. لا يحق لها الرفض دون سبب ولا يحق لها التعلل بمتابعة دراستها. كما يحق لها أن تختلي بمن طلبها وتداول معه في شؤونهم المستقبلية قبل رفض طلبه او قبوله. كان من ميسوري البلدة وهي ابنة مشايخ.
التقت امل بالزوج الموعود واشترطت حتى تقبل الزواج منه ان تكمل دراستها. وهو رضي وحصل الزواج…
تتابع امل تحدثها عن حياتها الزوجية. زوجها يريد منها الاشباع الجنسي والقيام بواجبات البيت. وهي كانت تتابع دراستها وتفكر كيف ستقنع زوجها متابعة دراستها الجامعية. لم تكنّ لزوجها أي عاطفة. كانت حقيقة مشاعرها غير معروفة، لكن زوجها بقي مركب لا بد من الركوب به لعبور هذه المرحلة من الحياة…
بدأت أمل تعتمد على المساومات مع زوجها لتحصل على مكتسبات لها اول بأول. رضي ان تذهب الى الجامعة وان تكمل دراستها. بشرط ان يرافقها في ذهابها وايابها. ثم اوكل امرها لسائق وزوجته من اجل منع الخلوة بينها وبين السائق. كذلك ساوم الزوج امل على ضرورة اجراء تلقيح اصطناعي في الرحم للانجاب حيث مضت سنوات على الزواج ولم تنجب. وهكذا حصل…
في الجامعة قدمت امل طلبها وهي مرتبكة. نعم في ذاتها خوف واحساس بالدونية وان الفشل سيكون نصيبها كل الوقت. لكن امل تتقن ان تظهر نفسها قوية متماسكة تعرف ما تريد عكس ما تعيش في اعماقها. قُبلت في الجامعة. ساعدها احدهم كان رمزا للمعاملة الجيدة. كان قد مر بظروف تشبه ظروف امل وتحول لرمز يساعد كل متعثر في الجامعة. اجتهدت امل كثيرا وتفوقت بحيث استطاعت أن تحصل على منحة مجانية من الجامعة. بعدما كانت تستعين باختها المتزوجة بامريكا لتدفع تكاليف الجامعة.
لم تنجح عمليات التلقيح الاصطناعي لانجاب طفل لاكثر من مرة. كان ذلك مؤلما على الزوج ومريحا لأمل التي لم تتقبل حياتها الزوجية وتبعاتها. الا كمرحلة إلى أفق آخر…
لكن أمل سوف تحمل بشكل طبيعي وتنجب طفلتها اسمها رحمة. تفرغت لها لفترة من الزمن ثم كلفت امها وام زوجها برعايتها لمتابعة دراستها. لم تتقبل الطفلة بداية. عاشت مشاعر سيئة وفكرت كثيرا بالانتحار. تعالجت عند طبيب نفسي من عوارض اكتئاب شديد مزمن. اخذت الحبوب لفترة. استراحت من مرضها، وبدأت تتحسن مشاعرها تجاه طفلتها، تتعايش هي واياها، تكبر مشاعرهم المتبادلة معا…
لم تكن تدرك امل حقيقة ما تحتاجه، لكنها تدرك تماما ما تعيشه وما تعاني منه. دونية المرأة المتمثلة بحياة والدتها رغم القبول والقناعة عندها. كذلك هي حيث وجدت موانع أمامها لمجرد كونها امرأة حتى تصنع مستقبلها، عانت من صفقة زواجها، وأنها لم تكن تحب زوجها في أي وقت. بدأت تفكر جديا بالانفصال عنه، طلبت الطلاق منه، كانت العقبة الوحيدة تفهّم والدها ووالدتها مطلبها. لكن مرضها وخوف أهلها عليها. وإصرارها على متابعة علمها. وشبه تخليها عن طفلتها. جعل والدها ووالدتها يتقبلون كل مطالبها بما فيها الطلاق، خوفا وحرصا عليها…
لقد تخرجت في الجامعة وحصلت على منحة ماجستير. واصبح الطلاق بحكم الأمر الواقع. لقد خرج زوجها من حياتها. بالتوافق، لم يبق بينهم سوى الطفلة حيث تقاسموا أيام الأسبوع والعطلة بينهما…
سكنت امل بجوار الجامعة في بيروت، مررت الموضوع مع اهلها بقليل من التحايل. بدأت أمل تراجع نفسها وتتساءل لماذا تعيش ؟ وما الذي تريده ؟. والى أين ستصل في دراستها وعملها؟.
تتواصل مع اختها الكبرى التي كانت قد تزوجت من شاب ولد و يعيش في أمريكا اهله هاجروا الى هناك منذ عقود وهو من أصول درزية، زوجوه بعد أن تأكدوا من نسبه الدرزي. استمرت اختها بالعيش مع زوجها لسنوات طويلة في حب وتوافق لكنها رفضت الحمل من زوجها كل الوقت. وعندما حملت أصيبت بهستيريا وكادت تجن. عادت الى اهلها مع زوجها. تريد الإجهاض والسبب الذي أخبرت أختها به أن زوجها ليس درزيا وانها ان انجبت منه ستدخل النار. لذلك قررت أن تجهض وتتطلق من زوجها وتعود الى بيت والدها وتصبح شيخة وتطلب العفو من الله. وهكذا حصل بمفارقة عجيبة…
لكن أمل كانت مستمرة في تكسير القيود العقائدية التي توارثتها واطلعت عليها من اهلها او من النت واعتبرت نفسها غير مضطرة أن تعتبر نفسها مؤمنة بهذا الدين الدرزي. خاصة انها وجدته لا يعطي المرأة حقها الكامل، غير أن أغلب اعتقاداته بحاجة لمراجعة خارج إطار التسليم الفطري في البيئة الدرزية…
عندما تطلقت امل وعاشت في غرفة مستقلة لوحدها في بيروت تدرس وتعمل، وجدت الوقت لديها لتتابع معرفتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتتعرف على أحد الناشطين الذي ينتصر للمرأة وحقوقها وضرورة تجاوز التعامل معها بدونية وان تكون ندا للرجل في كل شيء. ومن ترتيبات القدر فقد جاء هذا الشخص حامد إلى الجامعة وكان له محاضرة مع توقيع كتاب له. حضرت امل محاضرته. وجدته قريبا منها نفسيا وعقليا. تجنبته. لكن حصل تواصل سببه أنه يود الحصول على مزيد من المعلومات عن الدروز وكانت هي المؤهلة لذلك.
حصل اللقاء بينهما مرة أخرى. اكتشفت هي وهو ان كل طرف وجد نصفه الذي ينقصه. لقد اكتشفت انها تفتقد لاعتبارها الإنساني كامرأة ووجدتها عند حامد فكرا وسلوكا. وأنها تفتقد الحب ووجدته مع حامد وعاشا اياما سعيدة.
وعند التفكير ماذا بعد ؟. قرار حامد المصري الغير درزي الذي يعيش ويعمل في ألمانيا. ان يستقر في بيروت بجوار امل حبيبته. وقررا الزواج واستطاعوا ذلك بزواج مدني في بلد اوروبي، عاشا في بيروت هي تعمل في جامعتها وتدرس وهو يرسل ما يكتبه إلى حيث ينتشر في أوروبا. فلا مشكلة مادية لديه فحيث هو يأتيه مردود ما يكتب اضافة لثمن كتبه التي نشرها سابقا…
استمرت حياة امل وحامد لسنوات في بيروت. كبرت ابنتها وصار عمرها فوق العشر سنوات. واصبحت تفهم بُعد امها عنها وتفهمها لذلك. كانت حياة امل السرية مع حامد كزوجين ناجحة، لكن التفجير الذي حصل في ميناء بيروت عام ٢٠١٨م. وما حصل بعده من أزمات اقتصادية وحياتية في لبنان. حول الحياة في بيروت إلى شبه مستحيلة على أمل و حامد. لذلك قررا أن ينتقلا إلى ألمانيا للعيش هناك. حيث استطاعت أمل الحصول على منحة دراسة الدكتوراه هناك، وكان لا بد من إقناع الابنة التي تفهمت ذلك وان امها ستزورها وتأخذها إليها في عطلها وعندما تكبر ستذهب إليها وتعيش معها دائما. كما تفهم والد أمل ووالدتها ذلك وتمنوا لها التوفيق والسلامة. خاصة وان الام فهمت ان حامد هو ليس مجرد صديق لابنتها بل حبيب وزوج. باركت لهم ضمنا وتمنت لهم الخير والتوفيق…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
اننا أما رواية تكاد تكون مرآة صادقة عن الدروز وحياتهم ومعتقداتهم وسلوكهم الاجتماعي في لبنان. بحيث جعلهم في حالة مكاشفة بشفافية عالية تجعل أغلب القارئين يدخلون عوالم لم تكن متاحة لهم من قبل إلا فيما ندر من اعمال روائية او كتب ترصد الدروز وواقعهم…
كما أن الرواية نسوية بامتياز . هي انتصار للمرأة الانسان الكامل الحقوق والواجبات. في أي مكان وزمان و بالعلاقة مع أي معتقد ودين. وهي انتصار للحق في بناء الحياة الذاتية لاي انسان وان لا يمنعه عن تحقيق طموحاته الإنسانية وبناء حياته الافضل أي مانع من أي نوع. لا الجنس ولا الإمكانات المادية ولا اي مظلومية مجتمعية…
الرواية انتصار للحب بصفته صنو الإنسان متماهية مع آخر يجعلهما صانعان للخلود عبر عيش حبهما وانجاب الابناء للوجود لتستمر الحياة…
الرواية رفض لكل أنواع المظالم. وان تستر بعضها في معتقدات دينية ترسخت في وجدان أصحابها وأصبحت أساس سلوكهم دون أي مراجعة أو مناقشة. خاصة عندما تتحول الى يقين راسخ غير قابل للمناقشة. بحيث تقرن ذلك بالكفر والإيمان. والحياة الهنية في الدنيا والآخرة أو العيش في عذاب الدنيا وفي تكرار حياة الروح في قمصان الحياة كما يرى الدروز في عقيدة التقمص المؤمنين بها…
بالنهاية نحن في عجالة قراءة الرواية لا نستطيع أن نحقق تنوير ديني درزي او اسلامي عموما. أو تجاه كل الأفكار والعقائد والاديان الاخرى. فهذا يحتاج لبحث موسع. لكن المهم ان نعترف ان كل عقائدنا بحاجة لتنوير وأن توضع في ميزان العلم والعقل وإن تساعد على بناء الحياة الأفضل لمعتنقيها وأن تؤدي لتحقيق السعادة والرضى والامتلاء النفسي والعقلي وان يعيش الإنسان مقتنعا في حياته و متأملا بالمطلوب بعد مماته. سواء الجنة أو ما يعتقد…
المهم ان ينصف إنساننا في دنياه هذه وأن يأخذ حقوقه ويحقق مطالبه وان لا يَظلم ولا يُظلم وأن يعيش في مجتمع يحترم كرامته الإنسانية وفي أجواء الحرية وضمن مجتمع عادل وديمقراطي…