“نحن في حالة حرب، وليس في عملية ولا في جولة قتال، شنت حماس هذا الصباح هجومًا مفاجئًا ضد دولة إسرائيل ومواطنيها. منذ الصباح عقدت اجتماعًا مع قادة المؤسسة الأمنية، وأمرت بتطهير البلدات من المخربين. هذه العملية تنفذ في هذا الوقت وبموازاة ذلك، أمرت بتجنيد احتياط واسع، العدو سيدفع ثمنًا لا يتصوره”.
لقد كان نتنياهو محقاً تماماً بوصف طوفان الأقصى، بالحرب وليس مجرد عملية او جولة قتال. فهذه العملية شبيهة بحرب 6 أكتوبر /تشرين الأول عام 1973، التي أعلنت رئيسة الحكومة حينها كولدا مائير حالة الحرب. فاذا تمكن الجيش المصري من عبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف المشهور بقوته ومنعته، وتمكن الجيش السوري، من تحرير القسم الأكبر من الجولان، فان مقاتلي المقاومة تمكنوا، من عبور غلاف غزة وخرق السياجات الاسمنتية المسلحة، المحمية بمنظومة الكترونية، وصفت بانها ترى النملة في ثقب الأرض وتسمع دبيبها. واستطاعوا أيضا شل قدرة الفرقة العسكرية، المكلفة بالتصدي لاي هجوم، من قبل المقاومة الفلسطينية، وتعطيل وسائل الاتصال بين تشكيلاتها، واسر عدد من قادتها. وتوغلوا الى عمق 70 كيلومترا داخل الأراضي الواقعة تحت ادارة المحتل، والسيطرة على جميع المستوطنات المسلحة، وقتل واسر المئات من جنود الاحتلال ومن المستوطنين. اما استخدام الطائرات الشراعية في الهجوم، فكانت أكبر هذه المفاجآت. حيث لم تتمكن كل منظومة الرادارات المتطورة كشفها.
ليس هذا فحسب، فعملية طوفان الأقصى حققت نصرا، لم يتمكن الجيشان المصري والسوري من تحقيقه في حرب أكتوبر. ففي الوقت الذي عجز فيه جيش الكيان الصهيوني بكامله، عن احتواء الهجوم الفلسطيني، والقيام بهجوم معاكس، وتحقيق نصر ضد المقاومة الفلسطينية، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على بدء عملية الطوفان. فان هذا الجيش نفسه، تمكن بعد مرور أسبوع واحد على بدء حرب اكتوبر، من احتواء هجوم الجيشين المصري والسوري، ثم شن هجوم معاكس، وتحقيق انتصارات مذهلة على كلا الجبهتين، وبستة الوية مدرعة. هنا تكمن عظمة الشعوب، حين تلجا الى المقاومة الشعبية المسلحة لتحرير أراضيها، او انتزاع حقوقها المشروعة من سطوة الأنظمة العميلة او الدكتاتورية.
الأهم من ذلك، ان عملية طوفان الأقصى، لم تهز عرش الكيان الصهيوني وحده، وانما هزت عروش اصدقائها، من الحكام العرب والدول الاستعمارية، التي تحتل العديد من البلدان في مختلف انحاء العالم، وكذلك هزت عرش الولايات المتحدة الامريكية ونظام عالمها الجديد. فالحكام العرب، وخاصة الذين غاصوا في وحل الخيانة الوطنية، قد كشفت عملية الطوفان عورتهم، وأنهت المتاجرة بالقضية الفلسطينية، القضية المركزية الأولى، التي تتقدم على جميع القضايا الاخرى. حيث وقف هؤلاء الحكام الاشرار مكتوفي الايدي، وهم يشاهدون قوات الكيان الصهيوني، ترتكب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، خشية من غضب الكيان الصهيوني وحليفه الولايات المتحدة الامريكية. الامر الذي سيسهل مهمة الحركات الوطنية لأسقاط هذه الأنظمة. خاصة بعد ان اعادت لنا عملية طوفان الأقصى مبادئنا الوطنية، التي تربينا على هداها، بعد ان طمس الخوف معالمها، بسبب سياسية القمع التي مارسها الحكام الأشرار. فاذا كان بإمكان عدة مئات من المقاتلين، الوقوف بوجه كل هذه القوة العسكرية الغاشمة والمتوحشة، وإلحاق الهزائم بها، فمن الاجدر ان تتمكن الشعوب من اسقاط أنظمتها بسهولة.
اما الدول الاستعمارية التي تحكم البلدان، وتضطهد شعوبها وتسرق ثرواتها، فأنها ستواجه مقاومة شديدة، وتضطر للرحيل، تاركة عملاءها يواجهون مصيرهم الأسود، لتحل محلها حكومات وطنية تبني بلدانها، وتحقق لشعوبها الاستقلال والحرية والتقدم، وتساهم في نصرة الشعوب المظلومة. حيث لم تعد هذه الشعوب خائفة من المحتل مهما بلغ من قوة. فثقافة الهزيمة التي حاولت الدول الاستعمارية ترسيخها في عقول الشعوب الضعيفة الى الابد، قد سقطت وسيطويها النسيان، وستسري بدلا عنها ثقافة طوفان الأقصى، كما تسري النار في الهشيم. ومن اهم عناوينها، ان الشعوب المحتلة، مهما بلغت من ضعف، بإمكانها هزيمة المحتل مهما بلغ من قوة. وان بإمكان المقاومة في أي بلد، ان تخوض المعركة بالاعتماد على نفسها، دون مساعدة أطراف إقليمية او دولية، وان مشروعية المقاومة وايمان شعبها بها، قادرة على تشجيع الناس على الانخراط في صفوفها والالتفاف حولها، وان التضحيات الجسام لا تهز معنويات الشعب وارادة الصمود.
ان النظام العالمي الجديد، الذي تفردت الولايات المتحدة الامريكية بقيادته، لن ينجو هو الاخر من الانهيار. فهذه النتائج الإيجابية جدا، التي افرزتها عملية طوفان الأقصى، ستلقي بضلالها على الدول والشعوب، وتشجعها على التحرك لأنهاء هذا النظام، الذي يصب كليا في صالح أمريكا وحلفائها. وقد بدت بوادر هذا التحرك واضحة وجلية للعيان. فبعد ان تراجعت حركة الشعوب ضد الاستعمار والظلم والطغيان وانكفأت، او اكتفت بنشاطات محدود، اقتصرت على الإدانة والاستنكار، او الوقوف على التل، تحولت بعد الطوفان الى الانحياز الكامل للمقاومة الفلسطينية، وخرجت الى الشوارع بمئات الألوف، وأحيانا بالملايين، متحدية قرارات حكوماته، التي تعاقب كل من يقف الى جانب شعب غزة، او يرفع العلم الفلسطيني، او يعادي الكيان الصهيوني. وتجدر الإشارة هنا الى ان هذه الشعوب، ابتكرت وسائل لم تخطر على بال، للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. وحتى ملاعب كرة القدم لم تكن بعيدة عن ذلك. حيث رفع المشجعون لكلا الفريقين العلم الفلسطيني، ووضع اللاعبون على ملابسهم علامات التأييد لشعب غزة. اما الاشعار والاغاني والرسوم والموسيقى وغيرها، التي تعبر عن نصرتها لغزة، فحدث ولا حرج. في حين لم تنس هذه الجماهير، في الوقت نفسه، ادانة الكيان الصهيوني ووصفه بمجرم حرب ينبغي محاكمته. بل وإدانة حكوماتها التي وقفت الى جانب هذا الكيان.
لقد اثرت هذه التحركات الجماهيرية على عدد كبير من الحكومات، لتقف ضد الكيان الصهيوني، على رغم انف امريكا. فقطع بعضها العلاقة مع هذا الكيان، والبعض الاخر استدعى السفير ليبلغه احتجاجات حكومته، فيما قاطعت حكومات اخرى البضائع الصهيونية والأمريكية، كما ادان عدد كبير من اعضاء برلمانات دول العالم، شرقا وغربا، العدوان، وطالب اخرون بفتح تحقيق مع الكيان الصهيوني، حول الجرائم التي ارتكبها ضد المدنيين الأبرياء في قطاع غزة. في حين طالب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوى تريس، بعقد جلسة طارئة لمجلس الامن، لمناقشة تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، والتصويت على مشروع قرار يطالب “بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وبامتثال جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية”. وقد صوت لصالح القرار 13 عضو من أصل 15 وتحفظت بريطانيا، الامر الذي اضطر الولايات المتحدة الامريكية استخدام حق الفيتو، لأنها الوحيدة التي رفضت الموافقة على وقف الحرب ضد الشعب الفلسطيني. وفي الاجتماع العام للأمم لمناقشة مشروع قرار لوقف إطلاق النار، صوتت 153 دولة لصالح غزة من مجموع 193 دولة.
هناك سبب اخر يؤدي الى افول العصر الأمريكي، حتى إذا لم تتحقق أسباب اخرى، كالتي تطرقنا اليها. حالها حال بريطانيا العظمي، التي افل عالمها الجديد الذي قادته، بعد الحروب النابليونية، وتحديدا بعد مؤتمر فيينا الذي اعقبها عام 1814، وقام بموجبه الحلف المقدس. ليستمر حتى عام 1956. ومع ذلك، فان بريطانيا لم تحقق سيادتها على العالم دون ان تجد من يتحداها. وهذا ما حدث فعلا. إذا ظهر العديد من الدول العظمى المتحدية لبريطانيا، بعد الحرب العالمية الثانية. وفازت أمريكا في هذا التحدي على بقية الدول العظمى. حيث فرضت نفسها كقائد للعالم الجديد، سواء عن طريق القوة او الاقتصاد او السيطرة على مصادر الطاقة، او عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، او عبر توظيف الأمم المتحدة لصالحها. ولكي لا نطيل، فان أمريكا ستشرب من نفس الكاس، الذي شربت منه بريطانيا. حيث ظهرت قوى جديدة مثل الصين والهند واليابان وألمانيا وغيرها، وكلها تبحث عن موقع متقدم في العالم الجديد، او في الأقل لا تقبل ان تبقى خلف أمريكا الى ما لا نهاية. ناهيك عن عودة الدب الروسي من جديد. بمعنى اخر، زوال الامبراطوريات مسلمة من المسلمات، غير قابلة للتشكيك. فمن المستحيل ان يفرض طرف دولي، سيادته على العالم الى الابد.
لقد كان في مقدمة الذين شعروا بهذا المصير الذي ينتظر أمريكا، هم اقطاب الإدارة الامريكية أنفسهم، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن. حيث قال في أحد تصريحاته” بأنه يخشى من أن تتضرّر بلاده أخلاقيا بسبب تأييدها إسرائيل في حربها المجنونة”. في حين أشار اخرون، الى الغضب المتزايد في صفوف الطلاب والشباب والجامعيين والمثقفين والسينمائيين والفنانين والكتاب والصحفيين. حيث أعلنوا تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وادانوا في الوقت نفسه، معاقبة كل من يقف مع فلسطين حتى بكلمة واحدة، او اعتبار ذلك تهمة، قد تؤدي بقائلها إلى الطرد من عمله، وتجريده من جميع الامتيازات.
ان ما حدث، بكل تداعياته، يبشر بانبثاق جبهة عالمية، ينتج عنها عالم جديد مشرق، يضمن للشعوب استقلالها ويحقق لها الحرية والتقدم، لتنطوي صفحة النظام العالمي الأمريكي المتوحش، الذي ساد في اعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1989. وما زال موجودا حتى يومنا الحاضر، مع ملاحظة ان البساط يهتز تحت قدميه.