عبد الله خليفة روائي بحريني متميز، يكتب منذ سبعينيات القرن الماضي، له العديد من الروايات والمجموعات القصصية، هذا اول عمل نقرأه له.
الاقلف، رواية كُتبت في عام ١٩٨٨م، ونشرت في عام ٢٠٠٢م.
تبدأ الرواية من وصف حياة الطفل الصغير يحيى، الذي يعيش في عشّة صغيرة في مزابل المدينة، تحتضنه الجدة، تلك المرأة العجوز الخرساء، التي وعى يحيى نفسه على الدنيا وهو يعيش في المزابل بصحبة الجدة وحمايتها، ينبش واياها في المزابل باحثا عن بقايا طعام وملابس واشياء ينتفع بها، ليعيشا عليها، يتصارع مع الكلاب الشاردة والاطفال الآخرين أمثاله من لقطاء المدينة وفقرائها وأيتامها. كان للآخرين دور في قدرته على تعلم النطق والتحدث، كان أقرب للخرس كما الجدة، بقي كل عمره ضنين الكلام، يعيش مشاعره موّارة في نفسه. استجد على حياة يحيى حضور شاب يكبره الى المزابل ومعه عربة يجمع عليها بقايا الانقاض وبعض ما يباع لاعادة تدويره. تبادل الشاب مع يحيى الرصد المتبادل، سرعان ما اندفع الشاب اتجاه يحيى وعرفّه بنفسه، اسمه اسحاق، من اسرة ثرية وله عدد كبير من الاخوة والاخوات، كبر بينهم، ومع كبره ونضجه أصبحوا يعاملونه بطريقة تمييزية، لم يسمحوا له بإكمال تعليمه، وبدؤوا يوكلون إليه الأعمال القاسية والخدمية للعائلة، لقد أحس بدونية بينهم لم يفهم سببها، وعندما واجههم بتلك المعاملة، اخبروه انه ليس ابنهم انه مجرد لقيط وجدوه على باب الجامع. فُجع إسحاق بمعرفة حقيقة حاله، غادرهم غير آسف وبدأ يعمل في جمع الأنقاض من المزابل وبيعها ويعيش حياة شقاء وفقر. أما يحيى فقد اخبره انه لا يعرف عن نفسه إلا أنه ابن هذه المزابل وجدته الخرساء، وانه لقيط رمته امه هنا لتحمي نفسها من عار او انتقام، أدرك يحيى انه بلون عيونه الزرقاء وبشرته البيضاء، قد يكون ابنا لأحد هؤلاء الجند الانكليز الذين يحتلون البحرين ويعيثون فيها فسادا. تصاحب يحيى وإسحاق وبدءا العمل على عربة إسحاق، يجمعان ما يتوفر لهما، ويذهبان به للسوق ويبيعانه بدراهم قليلة تفيد بطعام نظيف واحساس بالانسانية اكثر من النبش بالمزابل والعيش على فضلاتها. استمر الحال على حاله ذلك الى أن جُرح يحيى ذات مرة أثناء النبش في المزابل، وأخذه اسحاق الى المشفى الأمريكي في المدينة، المشفى الذي يعالج بالمجّان وتديرة ارسالية تبشيرية مسيحية، استقبلتهم الممرضة ايمي وهي ايضا راهبة. وقعت ايمي منذ اللحظة الاولى في غرام يحيى، واهتمت به كثيرا. أطالت فترة علاجه، حاولت أن تستميله وإسحاق للالتحاق بالمشفى يقومون ببعض الخدمات، وتهتم بهم تخضعهم للتعليم والتأثير الديني ليكونوا مسيحيين، كانت ايمي جزء من ارسالية دينية تتغطى مع غيرها بالعمل الصحي لتنصير هؤلاء “الوثنيين” على حد تعبيرها. رفض يحيى وإسحاق ذلك، وتركاها مع الفرصة التي قدمتها لهم، طعام لذيذ ومأوى مناسب وعمل محترم وتعليم وتلقي مبادئ الدين المسيحي. يحيى احسّ اتجاه ايمي مشاعر خاصة لعله الحب، يحيى لا مشكلة عنده في موضوع الدين، فهو ابن المزابل وجدته الخرساء، لم يلقنه احد يوما دينا معينا، علاقته مع الله والدين ضبابية، مسكون بهاجس المظلومية التي أوجدته لقيطا في مزابل المدينة، لكن اسحاق كان مدركا لحقيقة ما تريد منهما ايمي وبقية فريقها الطبي. لكن الحاجة للمشفى استمرت، عاد يحيى وإسحاق يحملان على عربتهم الجدة التي مرضت واحتاجت للعلاج. وكان تأثر يحيى بإيمي هذه المرة أكثر، رضي أن يلتحق بالعمل بالمشفى و تعلم القراءة والكتابة والدين المسيحي، وجد ذاته باللغة التي امتلك ناصية حروفها، وبالاله المسيح المصلوب لأجل خلاص البشرية من الذنوب. ابتعد إسحاق عن يحيى وهو يعاديه، اعتبره خائنا لدينه الإسلام ولشعبه في البحرين. تعلق يحيى وإيمي ببعضهم في حب قوي، لكنهما بقيا على مسافة جسدية عن بعضهم. كانت ايمي ابنة لعائلة ثرية امريكية، عاشت طفولتها وبداية نضجها بسعادة بين أهلها، لكن والدها بدأ التحرش الجنسي بها، فما كان منها الا أن قررت الالتحاق بالكنيسة، ترهبنت وجاءت إلى البحرين مع فريق طبعي تبشيري، كان الاتفاق معها على أن تلغي عواطفها الذاتية و حاجاتها الجسدية وتعطي نفسها للتبشير المسيحي. لكن يحيى أيقظ فيها مشاعر الحب، والحاجة للجنس مع الآخر رغم عقدتها من والدها، راقب مديرها رئيس البعثة تحولات إيمي وطلب منها أن تبتعد عن يحيى وأن تستمر مخلصة لدورها وتعهدها، صحيح انها دفعت يحيى للتعليم، وأن يعلن انتماؤه للدين المسيحي، ويعّمد في الكنيسة التابعة للارسالية، لقد اخبرها مسؤولها ان هذا كافي، لكن يحيى وإيمي وصلا بعلاقتهما إلى مرحلة اللاعودة واقتنعا ببعضهما وعاشا علاقة جسدية كاملة كزوجين. اما إسحاق فقد حمّل نفسه مسؤولية معاقبة يحيى عن تنصره وخيانة اهله وناسه، واجهه في احدى المرات وطلب منه العودة عن تنصره وأن يتوب الى الله، لم يستجب يحيى للطلب، طعنه اسحاق في صدره وهرب، تم اسعاف يحيى وانقاذه من الموت المحقق، مما ضاعف العلاقة والحاجة بين إيمي ويحيى. طُردت ايمي من العمل، ذهبت الى بيت يحيى الذي كان قد استأجره بعد عمله في المشفى، وعاشا سويا وسط أجواء عداء عامة. لم تكن الحالة في البحرين مقبولة على مستوى شعبها، لقد كان المستعمر الانكليزي وجنده مسيطرا على البلد ومقدراته، والشعب يعيش الفقر والفاقة. بدأ بعض الشباب بالعمل للثورة على هذا الوجود المستعمر، كان إسحاق على رأسهم، بدؤوا بأعمال عنف بحق الانكليز ومن والاهم، كان لليهود أبناء البلاد نصيب من التنكيل، قتل ونهب وإحراق بيوت، كان انتقاما اعمى. حاول يحيى ان يصل لصديقه القديم حتى يوضح له أنه وإيمي لم يعودوا مع الارسالية وطردوا من المشفى. لم يتمكن من ذلك. كان رد المستعمر الانكليزي قاسيا فقد بدء في ضرب الاحياء وحرقها ردا على ثورة الناس. كان يحيى يحتمي في بيته مع إيمي التي حملت وأنجبت له طفلة اسمها عائشة. هجمات الانكليز واحراقهم البيوت وصل لبيته، احترقت زوجته إيمي وانقذت الطفلة، احسّ يحيى بالكارثة التي احاقت به، احس انه مسكون بالظلم منذ مجيئه الى الدنيا لقيطا. وان زوجته أيمي وابنته عائشة هما النور الوحيد في حياته، لكنه خسره. احتضن طفلته بعد احتراق زوجته، لكن قائد الجند الإنكليزي اختطف الطفلة وطلب منه ان يأخذهم إلى حيث يعيش صديقه القديم إسحاق، الذي أصبح زعيما للمتمردين الثوار. كان يحيى جاهلا بمكان إسحاق، ولم يقبل ان يخون صديقه ومطالبه المحقة، أخذهم في متاهات المدينة ولم يوصلهم الى شيء، أطلق الانكليز عليه النار، ادموه ثم شنقوه.
هنا تنتهي الرواية
في تحليلها نقول:
.بداية أن لغة الرواية واسلوبها جميل جدا، جزل، مليء بالصور والتشابيه، يومئ لما يريد الوصول اليه، يبتعد عن المباشرة والتبشيرية والتعابير الكبيرة، يجعلك كقارئ تصل للمعلومة ضمنيا، بكثير من السلاسة والراحة.
.الرواية مكتوبة بلغة السرد عن واقع تغوص فيه بذاتيات شخوصه، بعمق وشفافية، لكنها تمر على الجانب العام المجتمعي للبحرين المحتل من الانكليز، بمقدار مايمس ذلك الواقع هؤلاء الأشخاص، راسمة أقدارهم بكل دقة وحرفية. المجتمع البحريني الفارق بالفقر والامية والفاقة، مجتمع قائم بذاته في المزابل، قاع قاع المجتمع، حياة البشر الكثر الذين يعيشون على النبش في الفضلات، وجزء آخر من المجتمع يتمثل بيهود البحرين على علاقة مع المستعمر والإرساليات التبشيرية ممتلئ بالمال والالتحاق بالانكليزي والغرب ومصالحهم، حضور الانكليز الطاغي بصفتهم حكام القلعة، عسكر وقتل واعتقال وبطش. شعب بدأ رحلة النضال لتحقيق الحرية عبر عمليات عنف طالت الانكليز واذنابهم من اليهود وغيرهم. وسط كل هذا تنشأ حالات انسانية من حب الأضداد يحيى اللقيط الفقير وإيمي ابنة التبشير، لا يخفى استحالة هذا الحب، رغم كون ايمي هربت من تحرش والدها الى الرهبنة والتبشير والتمريض، وان يحيى وكونه ابنا للمزابل ولا وطن له. مع ذلك حاسبه المستعمر بكونه صديقا لزعيم الثوار. نعم لا يستطيع أي أحد أن يخرج او يهرب من شروطه الحياتية العامة والخاصة. لذلك حُرقت أيمي مع الحي الثائر من قبل المستعمر واعدم يحيى صديق الثوار.
اخيرا نقول ان الحياة المعاشة في أي مجتمع في أي وقت طالما أنها ملوثة بالمظلومية و اللاعدالة و وجود المستعمر والحاكم الظالم المستبد ستبقى دائما حياة لا انسانية. وتبقى الثورة على المستعمر و الفقر واللامساواة والاستبداد قانون يحرك البشر في كل زمان ومكان. هذا ما قاله الواقع العربي بعد عقود من زمن كتابة الرواية. حيث حصلت الثورة لتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل لكل الناس في بلدان عربية كثيرة.
19-9-2019
رواية “الاقلف” للروائي البحريني “عبد الله خليفة” قراءة جميل وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب “احمد العربي” تتحدث الرواية عن مسير الطفل يحيى الذي احتضنته الجدة المرأة العجوز الخرساء ويعيش معها بالمزابل وتعود به الى البحرين ليقدم الجانب العام المجتمعي للبحرين المحتل من الإنكليز ولمظلومية و اللاعدالة و وجود المستعمر والحاكم الظالم المستبد .