يجيّر النظام السوري كل ما في وسعه من أحداثٍ في البلاد ضمن أجندةٍ تبرّر حملته العسكرية في الشمال السوري، وجديده أخيراً الاعتداء الإسرائيلي على مطاري دمشق وحلب؛ حيث عبّرت تصريحات رسمية من مصادر عسكرية عن أنّ الاعتداء “جزء من المنهج المستمر في دعم الجماعات الإرهابية المتطرّفة التي يحاربها الجيش العربي السوري في شمال البلاد، والتي تشكّل ذراعاً مسلحاً للكيان الإسرائيلي”، وأن هذا الجيش سيستمر في ملاحقتها وتطهير البلاد منها. وجاءت الحملة العسكرية التي يقوم بها النظام السوري على إدلب، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، خيارا وحيدا متبقيا أمام النظام نفسه وداعميه الروس والإيرانيين، لقلب الطاولة ضمن الجغرافيا السورية، وإنهاء حالة الستاتيكو العسكرية التي بدأت في اتفاق آذار 2020، ورسّخت مناطق النفوذ، بتوافقاتٍ روسية تركية ورضى أميركي. وأصعب ما يواجهه النظام اليوم هو انفضاض الحاضنة الطائفية عن دعمه، وقد استفاد من حادثة استهداف حفل تخريج ضباط في الكلية الحربية في حمص بطائرة مسيرة، راح نتيجتها عشرات الضحايا، والذي يغيُّب النظام أية تحقيقاتٍ بشأن هوية الفاعل، ويكتفي برمي التهمة على “الإرهاب” وأطراف خارجية. وترجم هذا الاتهام بهجومٍ عنيفٍ على المدنيين في مناطق إدلب وريفها.
يركّز النظام في دمشق على الخروج من الزاوية الضيقة التي حُشر فيها خلال الشهرين الأخيرين، خصوصاً بعد أن أعلن العرب فشل المبادرة العربية لعودة النظام إلى الحضن العربي، بدلاً من “الأحضان الإيرانية”، نتيجة عدم استجابة دمشق لأي خطوة مقابلة لخطوة الانفتاح العربي؛ فيما لم تدُم الضجّة الإعلامية، سواء بوسائل إعلام النظام، أو وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للرئاسة، المرافقة لزيارة عائلة الأسد إلى الصين واقتراب الانفراج الاقتصادي، وانتهت بانتهاء تلك الزيارة. أما الاحتجاجات اليومية في السويداء، فتكاد تكمل شهرها الثاني، وهي تزدادُ زخماً وثباتاً وتنظيماً مع مرور الوقت؛ ويعجز النظام عن الرد عليها بالعنف المعتاد استخدامه في احتجاجات 2011، في مناطق سورية أخرى، لأنه لا يملك أن ينعت السويداء بصفة الإرهاب، فيما أسقَطت إبداعات الناشطين في المحافظة في كتابة اللافتات المرفوعة في الاحتجاجات اليومية كل حججه عن المؤامرة الخارجية والمشاريع الانفصالية والحكم الذاتي، إضافة إلى أن خروج الغالبية العظمى لأبناء المحافظة، وانضمام مشايخ عقل الطائفة الدرزية إلى الحراك، زاد من ورطة النظام في كيفية الردّ، ولم تنجح محاولاته في شقّ الصف الدرزي، عبر الاستعانة بمشايخ ووجهاء نافذين من دروز لبنان، وموالين له ولحزب الله، أو بعض المنتفعين في محيط العاصمة دمشق.
يتحدّث إعلام النظام عن “انتصارٍ” مرتقب يحقّقه جيشُه في إدلب، وواقع الحال أن كل “الانتصارات” السابقة بسيطرته على مناطق سورية واسعة، بدءاً من 2013، في القصير وحلب وحمص وريفها الشمالي، والغوطة وكذلك في حماة وإدلب، كانت بتوافقاتٍ روسيةٍ تركيةٍ وفق مسار أستانة، وإنْ كانت مسبوقةً بتصعيد واقتتال. الآن جيش النظام، ومليشياته، في أضعف حالاته العسكرية والمعنوية. وإلى اللحظة، تتمثل الحملة العسكرية بقصف جوي ومدفعي على مناطق المدنيين حول طرفي الطريق الدولي حلب – اللاذقية، من دون محاولاتٍ للاقتحام. ما يحصل في الشمال السوري هو بموافقة روسية، لاستئناف الضغوط السابقة على تركيا واستكمال تطبيق التوافقات حول إبعاد تحرير الشام وبقية الفصائل الجهادية وحصرها في جيب أصغر شمالاً، وسيطرة النظام على جبل الزاوية ومجمل المنطقة جنوب الطريق الدولي M4، وتسيير دورياتٍ مشتركةٍ لفتحه وتحت خدمة الروس. ولا يبدو أن هناك توافقات روسية تركية جديدة، بل دلت المؤشّرات السابقة، ومنذ فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، على ابتعاد أنقرة عن موسكو، وتقاربها أكثر مع الولايات المتحدة والغرب، في هذا الظرف العالمي الصعب، بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد أعطيت أنقرة الضوء الأخضر، من الغرب، أو نوعاً من غضّ النظر، عما تقوم به في مناطق شمال شرق سورية، حيث حكومة الإدارة الذاتية، من قصف على المدنيين، في محاولة منها لاستكمال إنشاء منطقة حدودية عريضة، وإعادة اللاجئين السوريين إليها.
ما زالت روسيا تراهن على بقاء النظام في دمشق، رغم بلوغه أشدّ درجات الضعف، ورغم فشل مساعيها لإعادته إلى الحضن العربي، وفشل مخطّطاتها للمصالحة بين أردوغان والرئيس السوري، بشّار الأسد. ورغم تصاعد الاحتجاجات ضد الأخير مجدّداً، في السويداء، واحتمال اندلاعها في مناطق أخرى، بسبب تردّي الوضع المعيشي؛ باتت موسكو منبوذة من الغرب، وتسعى واشنطن إلى التضييق عليها في منطقة الشرق الأوسط، ومن ضمنها سورية. هذا يعني أن التوافقات بين الروس والأميركان بشأن الحل السوري صعبة في هذا التوقيت، وليس أمام روسيا سوى تدعيم بقاء النظام بكل السبل. من هنا يأتي دعم روسيا للقصف الهمجي الذي يقوم به النظام ضد الشمال السوري، إما لحفظ ماء وجه النظام، والقول إنه يملك من عناصر القوة والضغط على معارضيه المحليين، والقدرة على حشد الجيش والمليشيات والدول الداعمة له، خصوصا بعد أن استُقبِل بحفاوة في الصين؛ أو للضغط على تركيا لتقديم تنازلاتٍ بالانسحاب من بعض المناطق، مقابل تحقيق المصافحة المرجوّة بين الأسد وأردوغان، وإعادة قسم من اللاجئين، وهذا احتمالٌ صعب التحقق.
خلاصة القول إن النظام السوري بات في أشد حالات ضعفه، وليست حملته العسكرية الهمجية على إدلب وريفها سوى هروب من مأزقه، في السويداء، وفي تخلّي مؤيديه في الداخل عن دعمه، ومأزقه في فشل مسارات التطبيع العربي، والتركي، وتجدّد رفض الغرب تعويمه، ومأزق داعمه الروسي في أوكرانيا، فيما باتت التحرّكات الإيرانية مستهدفة أكثر في سورية، خصوصا بعد الاعتداء الإسرائيلي على غزّة أخيراً. ولا يحتاج تغيير النظام في دمشق إلا إلى دور مفقود في الوضع السوري، كان من المفترض أن تقوم بها بدائل سياسية سورية، غير موجودة، في ظل ارتهان أطياف المعارضة السورية كلياً إلى أجنداتٍ دوليةٍ وإقليمية متصارعة.
المصدر: العربي الجديد