طرأ عدد من المستجدات على مسرح الحدث السوري في الفترة الأخيرة، ما يهدد استمرار حالة الاستقرار النسبي التي تسود منذ إبرام الاتفاق الروسي-التركي في آذار 2020، والقاضي بوقف إطلاق النار في منطقة إدلب. تشمل تلك المستجدات حملة القصف العشوائي التي تشنها قوات النظام ومعها الطيران الحربي الروسي، ضدّ مدن وقرى في إدلب وحلب وسهل الغاب، في أعقاب تفجير الكلية الحربية بحمص. كما تشمل التطورات مواجهات عنيفة جنوب جرابلس، بين فصائل موالية لهيئة تحرير الشام وأخرى تابعة للجيش الوطني، وجولة جديدة من القصف التركي لمنشآت اقتصادية ونقاط تمركز لقوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني شمال سورية. يحدث كل ذلك في أثناء استمرار الحراك الاحتجاجي في السويداء بنفس الزخم والاندفاع. فما هو مصير الاستقرار الهشّ في شمال غرب سورية الذي ساد منذ اتفاق آذار 2020؟
تبعًا لرواية النظام السوري، استهدفت طائرات مسيّرة محملة بذخائر متفجرة تجمّعًا للمحتفلين بتخريج دفعة طلاب ضباط في الكلية الحربية بحمص، الخميس 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فأودت بحياة عدد كبير من العسكريين والمدنيين بلغ عددهم، بحسب وزارة الصحة السورية، 89 قتيلًا، فضلًا عن مئات الجرحى[1]. ولم تتبن أي جهة العملية، لكن النظام سارع إلى اتهام الجماعات الإرهابية المسلحة المدعومة من “أطراف دولية معروفة”، وأعلن الحداد في عموم البلاد ثلاثة أيام وإقامة صلاة الغائب في المساجد.
استغلّ النظام السوري هجوم الكلية الحربية لشنّ حملة استهدفت عدة مناطق خارجة عن سيطرته في أرياف إدلب وحلب وحماة واللاذقية، فقصفت مدافعه أحياء سكنية في جسر الشغور وإدلب والدانا وترمانين وفي كثير من المناطق غيرها، بالتزامن مع غارات جوية قام بها الطيران الحربي الروسي في مناطق سهل الغاب التابعة لمحافظة حماة[2]. وبلغت الحصيلة الأولية لأعداد الوفيات نحو 50 قتيلًا من جراء نحو200 غارة جوية، وقصف مدفعي ورشقات راجمات الصواريخ[3]. يأتي رد النظام من دون أي دليل على تورط هيئة تحرير الشام أو غيرها من الفصائل في إدلب بتفجيرات حمص.
تتهم روسيا الحزب الإسلامي التركستاني، وكتيبة المهاجرين وجماعة أنصار التوحيد، بتطوير مسيّرات وأنظمة إطلاق صواريخ بعيدة المدى، والاستعداد لاستهداف قواعد عسكرية روسية وسورية[4]. لكن تلك الاتهامات جاهزة ولا يبدو أنها تستند إلى أدلة، ذلك أن أيًّا من تلك التنظيمات لم يعلن مسؤوليته عن التفجيرات، ولا توجد مؤشرات على قدرة أي منهم على تطوير مسيّرات تطير لمسافات بعيدة وتصل إلى أهدافها بدقة، فضلًا عن وجود الرادارات ووسائل الدفاع الجوي الروسية والسورية بكثافة على امتداد المسافة من الشمال الغربي إلى حمص. إلى جانب ذلك، لا يتمتع أي من تلك الجماعات الإسلامية المسلحة بحريّة حركة في مناطق وجودهم، بسبب التضييق الذي تمارسه هيئة تحرير الشام الساعية باستمرار لفرض سيطرتها على كامل مناطق انتشارها، وتوظيف التضييق على المقاتلين الأجانب كورقة في محاولاتها إثبات جدية تحولها إلى جماعة محلية لا ارتباط لها مع مجموعات جهادية عابرة للحدود[5]. لكن ما الذي دفع روسيا إلى اتهام الحزب الإسلامي التركستاني بالتحديد، بهذه السرعة، من دون الكشف عن أدلة؟ المفتاح هنا قد يكون الصين. فبالرغم من أن الصين لم تُلق ثقلها الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري في الصراع السوري كما فعلت روسيا، لكن للصين مصالح وأهداف محددة في سورية، أهمها معالجة ملف مواطنيها الذين قدموا للجهاد في سورية، ومعظمهم انضووا تحت جناح الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا الذي أسس باكرًا في الصراع السوري. وزيارة الأسد الأخيرة للصين تشي بأن الصين على استعداد للعب دور ملموس في سورية مستقبلًا، خاصة من الناحية الاقتصادية، لكن أبرز الأثمان التي تطلبها مقابل ذلك هو إنهاء ملف المقاتلين التركستان وعائلاتهم، لما يتسبب به من قلق أمني، ولحساسية ملف الصينيين الأويغور عمومًا.
محليًا، يأتي تفجير الكلية الحربية في ظلّ استمرار احتجاجات السويداء، وعجز النظام عن وقفها واستعادة سلطته على المحافظة الجنوبية[6]، حيث إن النظام لا ينظر إلى احتجاجات السويداء كحدث معزول ذي تداعيات محلية يمكن احتواؤها، لأنه يعلم أن جرأة أهالي السويداء على التعبير بوضوح عن رفضهم سلطة الأسد، وتحميله ونظامه مسؤولية التراجع المتواصل للوضع الاقتصادي والمعيشي والأمني في البلاد، قد تنتقل إلى باقي المحافظات، على الرغم من تنوّع السياقات واختلاف ظروف المناطق، ذلك بأن أسباب احتجاج أبناء وبنات السويداء تتقاطع مع أسباب تردّي الوضع في باقي المناطق. فعجز النظام عن الحفاظ على استقرار الليرة وضبط الأسعار، وتبنيه لصناعة المخدرات وانتشارها داخل سورية وتصديرها إلى الدول العربية والأجنبية، وتعثّر مسار التطبيع، والغرور والتعالي والتخوين الواضح في خطابات الأسد وعقيلته وباقي ممثلي النظام، وعدم حساسيتهم لمعاناة الغالبية الساحقة من السوريين، جميعها أسباب للأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستمرة التي ظهرت آثارها في جميع المناطق. وبالتالي، يعلم النظام أن أسباب الانفجار الاجتماعي حاضرة، فكان لا بد من العودة لاستراتيجيته المحلية المعروفة، أي “الحشد بالتخويف”؛ التخويف من الإرهاب المدعوم دوليًا، ثم التخويف من المعارضة المدعومة من تركيا و”القوى الإمبريالية”، وأخيرًا التخويف من أهالي إدلب. من جانبٍ آخر، قد يكون النظام نفسه، أو إيران، خلف تفجير الكلية الحربية، ولكن إثبات ذلك يحتاج إلى أدلة لا نملكها.. ما نملكه هو إدراكنا أن تداعيات التفجير تخدم النظام، مؤقتًا. فهي كما أسلفنا مناسبة لاستثارة الخوف وحشد المواطنين وإشغال بعضهم ببعض. وتأتي هنا تداعيات عملية طوفان الأقصى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتعيد للواجهة البعد الإقليمي للصراع في سورية. فمن المرجح أن يتضمن الرد الإسرائيلي تكثيفًا للضربات الجوية ضد أهداف إيرانية في سورية، وهو ما يراه النظام عادةً مناسبة لاستنهاض خطاب الممانعة ومواجهة المؤامرة الخارجية، مع ما يعنيه ذلك من تأجيل للتعامل مع المشاكل المحلية الحقيقية.
بناءً على ذلك، وجد النظام في الغضب الشعبي الذي أحدثته تفجيرات الكلية الحربية فرصةً لكسب الوقت وتفريغ الرغبة المتزايدة في الاحتجاج، وتوجيهها بعيدًا عن النظام. بالنتيجة، التفجيرات فرصة لتوظيف الملف العسكري بفتح جبهات إدلب وريف حلب جزئيًا، وذلك بالتأكيد يهدد الاستقرار الهش الذي ساد في الأعوام الثلاثة الماضية. لكن لا مصلحة لأحد بخلط جميع الأوراق وفتح الجبهات بشكل كامل. فمن ناحية، النظام ليس واثقًا من قدرته على إحراز نصر سهل يستعيد به السيطرة على إدلب وشمال حلب. كما أن حملة عسكرية واسعة يشنها النظام لن تمرّ دون تحصيل قبول أنقرة، وهو سيناريو بعيد الاحتمال، إن لم تضمن تركيا حصولها على ضمانات جدية بإضعاف سلطة (قسد) ومن خلفها حزب العمال الكردستاني، شمال وشمال شرق سورية، وهو ما لا قدرة للنظام على تأمينه، خاصة أن الولايات المتحدة تشرف مباشرة على الوضع شمال شرق سورية. في هذا السياق، أعلنت وزارة الدفاع التركية مقتل 58 من عناصر قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني، في استهداف الطائرات التركية المسيرة لمواقع عسكرية ومنشآت نفطية في شمال سورية والعراق، وذلك في أعقاب تفجير أنقرة الذي استهدف مبانٍ حكومية بداية تشرين الأول/ أكتوبر، وتبناه حزب العمال الكردستاني. وفي حدث غير مسبوق، قامت طائرة F-16 أميركية بإسقاط طائرة تركية من دون طيار، اقتربت من القواعد الأميركية شمال شرق سورية، الخميس 5 تشرين الأول/ أكتوبر[7]، وفي ذلك إشارة لاستعداد أميركا لفعل ما يلزم للحد من تدخل تركيا في مناطق سيطرة (قسد).
قد يُفهم من ذلك أن لا أهمية كبيرة لما يحدث، من الناحية العسكرية والاستراتيجية المجردة، ولكن هناك دلالات كبيرة لما يقترفه النظام من إجرام تحت ذريعة الانتقام. حيث فقَدَ النظام أي تمسك بالخطاب الوطني ولو حتى شكليًا، فبات عداؤه لمحافظات سورية كاملة واضحًا، ولا سيما إذا ما راقبنا خطاب الكراهية الذي بات مؤيدو النظام يجهرون به في الآونة الأخيرة، فلا يتوانون بإظهار العداء للسويداء ودرعا وإدلب، بعد أن أمِنوا الحساب والعقاب. حملة الانتقام المسعورة مظهر من مظاهر ورطة النظام وتخبطه، بعد عجزه أمام مشاهد الاحتجاج القادمة من الجنوب، وتزايد المؤشرات على استعداد مناطق الساحل والداخل للانفجار، في ظل استمرار التدهور الاقتصادي وتكميم الأفواه واتساع الفارق الطبقي بين عامة الناس وبطانة النظام. فلا يملك النظام اليوم سوى شراء بعض الوقت، أملًا بحدوث حدث ما أو صفقة إقليمية ما، تبقي على تماسكه، وصبر مؤيديه، وخوفهم.
من ناحية ثانية، هيئة تحرير الشام أيضًا غير مستعدّة للانخراط في مواجهة عسكرية مفتوحة، تعرّضها لخطر خسارة ما بنته طوال نحو ست سنوات من حكم وإدارة مناطقها، وترتيب صفوفها بعد سلسلة من الانشقاقات والمنازعات الداخلية. وإذا كان للهيئة من مصلحةٍ في تحريك الجبهات، فستكون في مناطق شمال حلب، الخاصرة الرخوة في المشهد العسكري السوري. فالهيئة لا تريد تعريض مشروعها الإداري للخطر، بل على العكس، إنها تسعى لتقوية حضورها الإداري والأمني واستغلال مؤسساتها للانتشار في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، على حساب فصائل الجيش الوطني. ذلك الانتشار سيزيد من مواردها الاقتصادية، ويعزز من مكانتها السياسية والعسكرية، ويجعل منها لاعبًا محليًا يصعب على الأطراف الإقليمية والدولية التخلي عنه وتجاوزه. فالهيئة تسعى لإقناع تركيا بقدرتها على ضبط الفوضى الأمنية والإدارية في الشمال، والتماهي مع المصالح التركية، سواء ما يتعلق منها بالحد من قوة الفصائل الكردية أو ضبط الحدود ومنع تدفق موجات هجرة كبيرة باتجاه تركيا، ومنع النظام من التقدّم شمالًا دون دفع أثمان ذلك في ملفات استراتيجية أخرى. في هذا السياق، أتت مواجهات معبر الحمران جنوب جرابلس، لتؤكد الشكوك حول مسعى الهيئة للانتشار شمالًا. وقد ازدادت الأهمية الاستراتيجية للمعبر في الآونة الأخيرة، ما فتح شهية عدة فصائل لمحاولة السيطرة عليه. فالمعبر يربط بين مناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني ومناطق سيطرة (قسد)، ويمرّ عبره الأفراد والبضائع، لكن أهميته الاستراتيجية تأتي بالأساس من كونه ممرًا لشحنات الوقود القادمة من مناطق شرق الفرات. تلك الأهمية الاستراتيجية للمعبر تفسّر إصرار الهيئة على الدفع بالفصائل المسلحة المتحالفة معها، مثل (أحرار الشام القاطع الشرقي) و(تجمّع الشهباء) و(أحرار عولان)، وعلى شنّ حملات متكررة لتمتين سلطتهم على المعبر وتوسيع انتشارهم في المناطق المحيطة به[8]. فتركيز الهيئة منصبٌّ على تلك الجبهة لكسب مزيد من الموارد، ولا مصلحة لها برد غير محسوب على الحملة العشوائية التي يشنها النظام في مناطق سيطرتها، ولن تتورط في مواجهة عسكرية، مع النظام وداعميه، تداعياتها غير معلومة.
تلك جميعها مؤشرات على عدم رغبة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية في قلب الطاولة وتغيير قواعد اللعبة كليّا، والاكتفاء بتبادل الرسائل وتعظيم المنافع والمكاسب، مع رغبتهم الضمنية في استمرار الوضع الحالي، من حيث حدود السيطرة المكانية وتوازن الردع القائم محليّا.
وبالرغم من شدة القصف، تكشف المعطيات الحالية أن النظام لا يسعى، وليس بقدرته، لشنّ حملة برية واسعة لاستعادة السيطرة على إدلب ومحيطها، بل يريد لها أن تبقى مسرحًا لانتقاماته وضرباته العسكرية العشوائية، وصندوق بريد لرسائل مكتوبة بدماء المدنيين. ويعلم النظام وضع هيئة تحرير الشام الحرج، ومسعاها المستمرّ لتثبيت حكمها واستقرار مناطقها، ورغبتها في كسب ثقة الجار التركي وشراء صمت المجتمع الدولي، وبالتالي رغبتها في احتواء الوضع، وشنّ هجمات محسوبة ومحدودة ضد قوات النظام. ويعلم النظام أيضًا أن لا مصلحة له بتحمّل أعباء إضافية، في ظل استمرار احتجاجات السويداء المطالبة برحيله، وفي وقت يسعى فيه للتخفُّف من التزاماته تجاه السكان في مناطقه، وتقليص حجم الدعم الحكومي نتيجة عجزه عن تأمين موارد إضافية، وفشل سياساته في عكس دوران عجلة التدهور الاقتصادي أو حتى إيقافها. فالمطلوب إذًا حملات انتقامية متكررة توحي بجاهزية النظام العسكرية، وتخدم هدفه الرئيس، أي ضمان حشد القاطنين في مناطقه باللعب على عواطفهم وتنفيس غضبهم، وتخويفهم من التبعات الأمنية لتغيّر الوضع الحالي وتراجع سطوة النظام وتحوّل احتجاجات السويداء إلى كرة ثلج. خلف النظام، لا يملك الروس رفاهية البدء بمفاوضات استراتيجية مع تركيا، في حال فُتحت جبهة إدلب، فلروسيا مصلحة في الإبقاء على اتفاقها مع تركيا النافذ منذ آذار 2020، فهو الضامن لتثبيت حدود السيطرة، والضابط لقواعد اللعبة في الشمال السوري، ريثما تتكشف نتائج مغامرتهم العسكرية في أوكرانيا؛ وهي الجبهة الأكثر أهمية لروسيا من الناحية الاستراتيجية.
[1] وزارة الصحة: ارتفاع عدد شهداء الاعتداء الإرهابي”، وكالة سانا، 06/10/2023. الرابط: https://sana.sy/?p=1975283
أما بحسب أرقام المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد وصل عدد الضحايا لنحو 130 قتيلًا ومئات الجرحى، 08/10/2023. الرابط: https://rb.gy/n1n72
[2] “النظام ينتقم لهجوم حمص بالتصعيد في الشمال السوري”، عنب بلدي، 06/10/2023. الرابط: https://www.enabbaladi.net/archives/664561
[3] “ارتفاع عدد الضحايا إلى 49.. إدلب تحت نيران النظام لليوم الخامس على التوالي”، تلفزيون سوريا، 08/10/2023. الرابط: https://rb.gy/avota
[4] “خبير يكشف عن الجهة الضالعة في الهجوم على الكلية الحربية في حمص”، وكالة سبوتنيك، 06/10/2023. الرابط: https://rb.gy/2gdem
[5] عزام القصير، “استراتيجيات البقاء لدى “هيئة تحرير الشام”: ثلاثية الإدارة والعسكرة والخطاب”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 21/06/2023. الرابط: https://rb.gy/srbxc
[6] عمر إدلبي، ” السويداء.. التجليات السياسية والأمنية والاجتماعية بعد 12 عامًا من الثورة السورية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 08/09/2023. الرابط: https://rb.gy/rn6af
[7]” مقاتلة أميركية تسقط طائرة تركية بدون طيار فوق سوريا”، الحرة، 05/10/2023. الرابط: https://shorturl.at/oLPY7
[8]” بعد أنباء عن “هدنة”.. تجدد الاشتباكات بين “تحرير الشام” والفيلق الثاني شرقي حلب”، تلفزيون سوريا، 27/09/2023. الرابط: https://tinyurl.com/yukw27bv
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة