قد لا توفق لجان مؤسسة نوبل السويدية والنرويجية في اختيار الفائزين سنويا , ولكنها حتما توفق دائما بمفاجأة الرأي العام في اختياراتها , فتنأى بعيدا جدا عن التوقعات والمراهنات المسبقة , ما يعزز تفوقها المطلق بتحصين قراراتها إلى اللحظة الأخيرة ضد الاختراق والاستراق . وهي هذا العام لم تشذ عن القاعدة , إذ فاجأت الجميع باختيار الفائزين , ولا سيما بجائزتي الآداب والسلام الأكثر جاذبية وشعبية بين الجوائز كافة . الأولى تختارها لجنة سويدية , والثانية تختارها لجنة نرويجية . بالنسبة للأولى ( نوبل للآداب) منحت للقاصة الكندية اليس مونرو , ولم يكن اسمها مطروحا بقوة على قوائم التوقعات الاعلامية أو مواقع المراهنات المالية المتخصصة مثل( لادبروكس ) الذي اصاب سابقا في بعض توقعاته . بلغ عدد المرشحين المتوقعين أكثر من مائتي اسم , على رأسهم الروائي الياباني هاروكي موراكامي الذي يحظى باجماع عالمي على أنه الافضل روائيا . لكن الجميع يعلم أن لجنة نوبل يمكن أن تمنح بركتها عشرين مرة متتالية لأوروبيين وغربيين ولكنها لا يمكن أن تمنحها مرتين متتاليتين لكاتبين آسيويين , وهي في العام السابق منحتها للصيني مويان مما يحول تلقائيا دون اعطائها هذا العام لياباني ولو كان من عيار موراكامي . وكان هناك مرشح قوي من كوريا الجنوبية هو الشاعر كو أون . وكان هناك مرشحون من افريقيا , أهمهم الكيني نغوجي واثيونغو , وتشينوا أتشيبي والصومالي- الكيني نور الدين فرح ، ومن أوروبا القاص الإرلندي وليام تريفور ، والمسرحي البريطاني توم ستوبارد ، والروائي الالباني الاشهر اسماعيل قادريه والاسباني خوان غويتسولو . ومن امريكا الروائي المعتزل فيليب روث، وكورماك ماكارثي , والكاتبة جويس كارول أوتس . ومن إسرائيل ديفيد غروسمان وعاموس عوز وأ. ب. يهوشواع . أما العرب الذين كانوا مرشحين فهم الشاعر السوري ادونيس المرشح منذ ربع قرن , والروائية السورية غادة السمان , والشاعر الفلسطيني غسان زقطان , والكاتبة الجزائرية بالفرنسية آسيا جبار , والروائي اللبناني الياس خوري . لكن اللجنة الفاحصة تجاهلت هؤلاء جميعا وقررت منح الجائزة الأولى والأغلى عالميا للقاصة الكندية أليس مونرو ( 1931 – ..) وهي المرة الأولى التي تحل فيها هذه الجائزة في كندا منذ انطلاقها عام 1901 . وربما كانت هذه النقطة بالذات من دواعي القرار المنطقية وتوخيا للانصاف في توزيعها عالميا , والفائزة هي الأديبة المرأة الثالثة عشر فقط التي تحصل على الجائزة , والأولى ككاتبة قصة قصيرة , أما ما عدا ذلك فثمة كثير مما يمكن أن يقال في صددها , فالكاتبة ( المجهولة للقارىء العربي تماما) غير معروفة إلا في نطاق كندا وأميركا والعالم الانجلوساكسوني . عاشت جلّ حياتها وسط بيئة ريفية نائية بعيدا عن المدن الكبرى وكونت فضاءها الروائي ضمنها , وخلقت شخصياتها من محيطها , عالم ريفي بسيط , خال من تعقيدات المدن الكبرى الكوزموبوليتية وإشكالياتها , وبعيد عن القضايا الدولية الثقيلة كالحرب والسلام والصراعات والاضطرابات السياسية والاقتصادية وعالم الجريمة ..إلخ , إلا أنها بشهادة النقاد غاصت عميقا في النفس البشرية وصورت أزماتها وصراعاتها الداخلية والنفسية الخاصة حتى شبهت بالكاتب الروسي الشهير انظون تشيخوف , وركزت أقاصيصها على المرأة , وبخاصة على الفتيات في سن البلوغ والشباب . ويمكن اعتبار أدبها محاولة لتأريخ تحولات الانثى الاجتماعية بين عصر التزمت ما قبل الستينيات من القرن العشرين , وموجات التحرر التي سادت بعدها , وقد عاشت الكاتبة هذه الحقبة من داخلها لا من خارجها وشاركت في تطوراتها . مونرو كاتبة مشهورة في الغرب , ونالت جوائز عالمية عديدة , ومنحها نوبل أيضا ينطوي على ترسيخ وتكريس لهوية الجائزة الغربية , واهتماماتها الفنية , والقيم الانسانية والثقافية التي تريد تسليط الضوء عليها والدفاع عنها وتعميمها في عصر العولمة . إنها تبدو للمتأمل محاولة للانعزال عن الصراعات الدموية التي تعصف بأفريقيا والشرق الاوسط ومناطق واسعة من آسيا . ولو منحت الجائزة لأي أديب عربي من المرشحين لاكتسى القرار طابعا سياسيا أو ثوريا أو دينيا أو اديولوجيا , والأمر نفسه يمكن ان يقال لو أن الجائزة وهبت لكاتب من كوريا الجنوبية أو من الهند أوسط آسيا أو من أفريقيا … إلخ أما إعطاؤها لأليس مونرو فهو نأي بالنفس , وهروب إلى بيئة محافظة ومحايدة ونظيفة وآمنة بالنسبة لأصحاب القرار في الاكاديمية السويدية , ويمكن القول أخيرا إنه هروب ناجح وموفق مدعم بعوامل أمان عديدة .! أما بالنسبة للثانية ( نوبل للسلام ) فالأمر أكثر إثارة للجدل ومدعاة للارتياب . منحت اللجنة النرويجية الجائزة هذا العام للمنظمة الدولية لحظر الاسلحة الكيماوية , وهو قرار لا يمكن فصله بحال من الأحوال عن بروز اسم هذه المنظمة الدولية في الأيام الأخيرة مقترنا بدورها ومهمتها حاليا في نزع سلاح سوريا الكيماوي وتدميره . مما يعني مباركة أخلاقية قوية للمهمة والعملية , لأن المنظمة موجودة منذ سنوات طويلة فلماذا لم تمنح الجائزة إلا الآن ..؟ لهذه المنظمة مهمة انسانية ونبيلة تدخل في صميم رسالة الجائزة , ولا شك أن تخليص كوكب الارض من الأسلحة الكيماوية هو عمل يخدم السلام العالمي ويحمي البشرية , بيد أن المنظمة لم تبذل أي جهد يذكر لنزع ترسانات الاسلحة الكيماوية لدى روسيا وأمريكا وكوريا والصين واسرائيل وايران … فلماذا تقتصر المباركة على تدمير الترسانة السورية ..؟ وهل في الأمر شيء من الغمز الايجابي تجاه الشعب السوري في محنته الحالية , وخاصة ضحايا وشهداء العدوان الكيماوي الوحشي لنظام الاسد على الغوطتين في 21 / اب – اغسطس الماضي والمرات الاخرى التي ظلت طي الكتمان ..؟ لو كان إعطاء الجائزة للمنظمة ينطوي على شيء من الايحاء الايجابي للشعب السوري لنص القرار على إشارة ما من هذا القبيل , حيث لا يتهدده هنا فيتو روسي ولا صيني , ولا يخضع القرار لأي توازنات ومعادلات بين القوى العظمى . للأسف يندرج الاختيار هنا في سلسلة اختيارات غير موفقة جنحت اليها اللجنة المعنية في الاعوام القليلة الأخيرة , بمنحها مرة لمنظمة دولية , ومرة لرئيس دولة في بداية حكمه قبل أن يرى العالم خيره من شره . في العام الماضي ذهبت الجائزة للاتحاد الاوروبي .. فما هو المغزى ..؟ وهل هو منظمة تعمل من اجل السلام فقط ..أم اتحاد دول تسعى لتحقيق مصالحها المادية بكل قوة وشراسة بما فيها الحروب..؟! وقبل أربع سنوات منحت الجائزة للرئيس الأمريكي باراك أوباما كما لو أنها شيك على بياض , وها نحن نرى مع أكثرية عالمية أنه لا يستحقها بعد خمس سنوات من الادارة الفاشلة لأمريكا وللعالم , ولم ينفذ الكثير من وعوده لخدمة السلام العالمي ونرى ان سياسته ساعدت على التمكين للقوى الشريرة والمارقة وغض النظر عن جرائمها ضد الشعوب وضد المدنيين العزل واشاعة الحروب كما هو في سوريا والعراق وشبه القارة الكورية .. إلخ . وتمكن ملاحظة أن منح الجائزة لمنظمة حظر الاسلحة الكيماوية في هذا الوقت بالذات كتزكية لمهمتها في سوريا ان كان ينطوي على غمزة ايجابية ما لطرف آخر فلا يستبعد أن تكون الغمزة هنا لصالح روسيا بقرنيها الكبيرين بوتين ولافروف اللذين يعزى الفضل لهما في تصميم العملية الديبلوماسية التي قادت لتجريد سوريا من ترسانتها الكيماوية , واذا صح ذلك فلا بد أن نفحة من نفحات التزكية يصيب بشار الاسد ونظامه الذي يجري تعويمه حاليا وإعادة تأهيله والاشادة بإيجابيته وتعاونه مع خبراء المنظمة الاممية في عملية تسليم الترسانة بكل هوان واستسلام !! مالذي كان يمنع لجنة نوبل للسلام منح الجائزة هذا العام لأحد المناضلين السوريين أو المصريين على غرار ما فعلته حين قدمت ثلث الجائزة عام 2011 للناشطة اليمنية توكل كرمان ..؟ أم أن الثورة السورية بخاصة والمصرية والتونسية والليبية بعامة مصنفة كثورات متطرفة وغير ديمقراطية ..؟! ولماذا لم تمنح لأي منظمة انسانية تحاول تخفيف معاناة اللاجئين والنازحين السوريين هنا وهناك …؟؟! أم أن ثورات شعوبنا ليس فيها ما يستحق التزكية والمباركة على الإطلاق اتساقا مع الحكم الدولي المبرم عليها بالحرمان والعزل والتشويه ..؟؟؟ . نوبل للسلام جائزة سياسية بامتياز وهي لا تقوم برسالتها التي أرادها لها مؤسسها الفريد نوبل بل تكرس خطيئته بصنع مادة التي ان تي .! من ناحية ثالثة واخيرة , ربما لم يكترث القارىء السوري أو العربي بمتابعة من فاز بالجوائز الأخرى , ولم يلفت انتباهه أن إثنين من الثلاثة الذين حصلوا على جائزة نوبل للكيمياء هذا العام هما يهوديان يحملان الجنسية الاسرائيلية( البروفيسور لويت والبروفيسور فيرشل)ويعملان في امريكا ويحملان جنسيتها أيضا .. الأمر الذي أسعد اسرائيل دولة ومجتمعا , وجعل رئيس وزرائها نتنياهو يطير فرحا ويدفعه لتذكير العالم بأن إسرائيل صارت أكثر دولة في العالم تحصد جوائز نوبل مقارنة بعدد السكان , وهذا يؤكد – كما يزعم هو وأمثاله من العنصريين اليهود – أن (العقل ) اليهودي متفوق على غيره ! عنصرية صريحة وفاقعة , هي نفس اطروحة النازيين الالمان قبل 80 سنة مقلوبة على قفاها ! ونتنياهو وأمثاله يعلمون أن الأمر لا يعود لتفوق عقلي , بل لتفوق في الامكانيات والظروف , وتفوق سياسي ونفوذ في العالم له عوامله ومبرراته بما في ذلك التواطؤ والانحياز والسطوة والنفاق العالمي . ونوبل بالذات ليست مقياسا ولا معيارا لقياس التفوق العقلي على فرض أن الشعوب تتمايز في الخلقة والمقدرة العقلية والذكاء , فهي جائزة مشبعة بروحية ( المركزية الأوروبية ) وهناك عشرات الأمثلة , فألمانيا وحدها نالت أكثر من ثلاثين نوبل في كل الاختصاصات , بينما لم تحصل الهند والصين واليابان وعموم اسيا إلا على حفنة جوائز منها لا تزيد على اصابع الكف الواحدة , وايطاليا حصدت عددا منها يزيد عشر مرات على عدد ما حصلت عليه القارة الافريقية , واليونان أقل دول أوروبا نهضة ولغتها التي لا يزيد عدد من يتكلمها عن عشرة ملايين في العالم كله حصلت على ثلاث جوائز في الآداب بينما لم يحصل العرب حتى الآن إلا على واحدة رغم أن لغتهم ينطق بها ستمائة مليون شخص في العالم ويملكون انتاجا ادبيا لا يقل مضاهاة للأدب اليوناني المعاصر , وكذلك تركيا التي لم تحصل عليها الا مرة واحدة .. وهكذا دواليكم . جائزة نوبل ليست محايدة ولا نزيهة بدليل أن بعض من حصلوا عليها رفضوا استلامها بسبب ما تنطوي عليها من شبهات اديولوجية غير نزيهة كالاديب والفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر , والكاتب الروسي بوريس باسترناك , والاديب البريطاني برنارد شو الذي قرر رفضها ثم أذعن لضغوط زوجته فاستلمها . في القرن التاسع عشر عصر الاستعمار الاوروبي اعتاد الرسامون والفنانون الاوروبيون على رسم قارتهم في صورة امرأة شقراء فاتنة تضع على رأسها تاجا ذهبيا ومن حولها وصيفات وخادمات سمراوات وسوداوات ملامحهن افريقية وآسيوية , وهكذا كان المفكرون يرون أوروبا مركزا للعالم والحضارة ومتفوقة على جميع الامم والشعوب , وفي هذا العصر عاش نوبل , وأوصى بثروته لتنفق على الجائزة , ووضع فلسفتها . جائزة أوروبية الهوية والروحية بالكامل , تمنح للأوروبيين والغربيين بشكل خاص ولا تعطى لغيرهم الا استثناء , ولتأكيد طابع عالميتها الذي تفتقده فعليا وموضوعيا ..
==============
المصدر: صحيفة الأيام الالكترونية
15_ 09_ 2013