تمر هذه الذكرى في كل عام، لتذكرنا بمرارة الهزيمة للمشروع القومي الذي قاده عبد الناصر، ففي هذا اليوم من عام [1961م] , كانت ذكرى الانفصال ذكرى انفصام عرى أول وحدة بين قطرين عربيين في العصر الحديث, وهي الوحدة التي قامت بين مصر وسورية عام [ 1958م ] , وفي هذا اليوم أيضا من عام [ 1970م ] كان رحيل عبد الناصر قائد المشروع القومي بامتياز , ومنذ ذلك التاريخ وبمناسبة وبغير مناسبة يتجدد الهجوم على عبد الناصر الشخص والمشروع ,والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا كل هذا الهجوم رغم غياب قائده منذ ما يقرب النصف قرن؟ وهل يستحق هذا المشروع كل هذا الهجوم ؟ خاصة وأن [ 28/ أيلول , سبتمبر ] لهذا العام ليس أفضل حالا على الأمة من سابقيه , فالأمة تمر هذه الأيام في مأزق يتهدد وجودها , وليس هناك من مشروع للنهوض وللخروج من المأزق يلوح في الأفق , فأنا في هذه الذكرى لا أكتب دفاعا عن الماضي , لكني مدفوعا بضرورات الحاضر ودفاعا عن المستقبل:
وحتى نقول أن ما قام به عبد الناصر انعكس سلبا أم إيجابا على مصر وعلى المصريين , علينا أن نتذكر ما يلي :
أن مصر قبل ثورة ال52 كانت دولة محتلة احتلالا مزدوجا , الاحتلال الإنكليزي من ناحية , واحتلال الأسرة المالكة التي تتوارث حكم مصر , لأن محمد علي باشا هو ألباني الأصل أرسله السلطان العثماني إلى مصر على رأس حملة من الجيش الإنكشاري, لقمع المماليك في مصر , فذبحهم في القلعة واستأثر بحكم مصر لنفسه ولأسرته من بعده , وكان هو وعائلته يحكمون مصر في ظل الاحتلال البريطاني لها , وطبقة الإقطاع ورأس المال التي تشكلت في مصر قبل ثورة ال52 , تشكلت في ظل هذا الاحتلال المزدوج, وفي فهمكم كفاية , وهذه الطبقة لا تتجاوز نسبتها أكثر من [0,5%] من مجموع الشعب المصري , وهي وحدها من كان يتمتع بخيرات مصر ويترفه فيها , بينما يعيش أكثر من 99% من الشعب المصري حالة من الفقر والحرمان والجهل لا يعلمها إلا الله, وللعلم فقط , كانت العائلة المالكة تمتلك لوحدها أكثر من [ 20% ] من مساحة الأرض المزروعة في مصر .
من أهم سمات الدولة الحديثة ومن أهم وظائفها هو التنمية الاقتصادية, وللتنمية ثلاث طرق لا رابع لها :
أ – طريق التنمية الرأسمالي , والاقتصاد الحر, الذي يقوم على المنافسة دون تدخل من الدولة والبقاء فيه للأقوى, وهو الطريق الذي اختارته أمريكا وأوروبا بعد الثورة الصناعية , ثورة البرجوازية الأوروبية على الإقطاع وعلى الكنيسة , وهو طريق لا يمكن التعويل عليه في مجتمعاتنا النامية , وذلك لأن طبقة البرجوازية عندنا طبقة ضعيفة جدا بالمقارنة مع الطبقة الرأسمالية العالمية , فهي , من ناحية ,غير قادرة على منافستها في السوق العالمي , وهي في أحسن أحوالها ستعمل في إطار الهامش الذي تتركه لها تلك الرأسمالية الإمبريالية المتغولة , وستعمل في كنفها وتابعة لها , ومن ناحية أخرى وهو الأهم من وجهة نظري , أنه حتى الرأسمالية الأمريكية – الأوروبية , وبما تمتلكه من إمكانات اقتصادية هائلة , لم تستطع حتى هذه اللحظة أن تتخلى عن فكرة الاستعمار , وهي لم تستطع أن تحقق لشعوبها الاستقرار الاقتصادي والاكتفاء وعدم الحاجة , إلا على حساب نهب خيرات واستعمار دول وشعوب أخرى , وهذا ما يفسر تدخل تلك الدول في كل شاردة وواردة تجري في العالم, فاكتفاء شعوب الدول الرأسمالية يتم على حساب فقر وجوع وحاجة شعوب دول العالم الضعيفة والنامية , كدولنا طبعا ! ودولنا غير قادرة على المنافسة في هذا المجال , في الوقت الراهن على الأقل .
ب – طريق التنمية الاشتراكي بصيغته الشيوعية , وهو يقوم على الملكية العامة ( ملكية الدولة ) لوسائل الإنتاج , وأعتقد أن هذا الطريق سقط واقعيا من حساب الشعوب وذلك بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك دوله واتجاه هذه الدول باتجاه اقتصاد السوق , وسقط هذا الخيار ذهنيا من حسابات الشعوب التي تفكر بالتنمية , وذلك لأنه ارتبط بفكرة الديكتاتورية ( ديكتاتورية البروليتاريا ) وبفكرة الاستبداد ( استبداد الطبقة الحاكمة ).
ج – والطريق الثالث وهو الطريق المشترك , وهو يقوم على تحكم الدولة بالعملية الاقتصادية , وامتلاكها لقطاعات مهمة من وسائل الإنتاج , مع الإبقاء على هامش كبير للقطاع الخاص , للعمل في إطار خطة التنمية التي تضعها الدولة , وهو شكل يحافظ على الجهد الفردي ودوافعه للربح , ويحد من عملية الاستغلال التي يقوم عليها النظام الليبرالي الرأسمالي , وهو الطريق الذي اختارته معظم الدول التي تحررت من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وعلى رأسها الصين والهند ومصر , وفي مصر على سبيل المثال بقي أكثر من 66% من الاقتصاد الوطني بيد القطاع الخاص المصري , فالزراعة كانت كلها قطاع خاص و 79% من التجارة قطاع خاص , و 76% من شركات المقاولات قطاع خاص و 56% من الصناعة قطاع خاص , وقد حقق هذا الطريق نتائج مذهلة , سوف أترك للأرقام تتحدث عن نفسها :
1 – لقد أمم عبد الناصر قناة السويس , وهو أحد أمثلة التأميم الذي نتحدث عنه , لقد وصل دخل القناة عام [1955] , أي قبل عام التأميم , 35مليون جنيه مصري كان نصيب مصر منها مليون جنيه فقط والباقي يذهب إلى الشركة الأنجلو – فرنسية , وأصبحت مصر بعد تأميم القناة تحصل منه على عائد سنوي متزايد , حتى بلغ عام 2007 أكثر من [ 24 مليار جنيه مصري ] سنويا .
2 – لقد قام عبد الناصر ببناء السد العالي من عائدات القناة , فحمى أرض مصر من الفيضان وضاعف حجم الأرض المزروعة بمحاصيل رئيسية إستراتيجية من قطن طويل التيلة وقمح وأرز وقصب السكر والفول والعدس والبصل .
3- لقد بنا عبد الناصر [3600 مصنع ], وقد كانت مصر تصنع بدءا من الأسلحة والذخائر وانتهاء بالتلفزيون والمروحة والثلاجة والتكييف والغسالة ولعب الأطفال .
4 – والأهم من هذا كله , قام عبد الناصر بوضع خطة خمسية لمضاعفة الدخل القومي في عشرة سنوات , وقد حققت الخطة أهدافها وفق ما جاء في تقرير البنك الدولي رقم [ 870 أ ] الصادر في واشنطن بتاريخ [ 5/يناير/1975], وقد بلغت نسبة النمو الاقتصادي في مصر بين عامي [1960 – 1965], أي بعد عام التأميم , [6,6% ], في حين كانت نسبة النمو في الهند والصين لا تتعدى [2,5 % ], وقد استطاعت مصر عبد الناصر في عشر سنوات أن تقوم بتحقيق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه في ال 40 سنة السابقة على ثورة ال52 , ولأول مرة وربما لآخر مرة في تاريخ مصر أصبح الميزان التجاري في زمن عبد الناصر يميل لصالح مصر , بمعنى أن مصر كانت في زمن عبد الناصر تصدر أكثر مما تستورد , وفي عام ال65 كانت مصر تصدر أكثر بمرة ونصف من كوريا الجنوبية , وفي سنة 1970 كانت مصر مكتفية ذاتيا , لا تحتاج لأن تستورد من الخارج بجنيه واحد , هذا ما صرح به عزيز صدقي رئيس وزراء مصر في عهد السادات الذي انقلب على عبد الناصر وليس في زمن عبد الناصر .
كل هذا دفع بالسفير الأمريكي في القاهرة آنذاك الدكتور جون بادو لأن يرفع تقريرا إلى الرئيس الأمريكي جون كندي , جاء فيه : ( لم يكن أمام ناصر طريق آخر , أفضل من اتخاذ القرارات الاشتراكية , وأن حجم القطاع العام الجديد في مصر أقل منه في إسرائيل والهند وفرنسا , بل وفي بريطانيا وأمريكا نفسها ) , فهل هذا كافي لإقناع المشككين بأهمية المشروع الاقتصادي الذي انتهجته مصر عبد الناصر ؟!
5 – أما عن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص , فقد دخلت ابنة عبد الناصر الجامعة الأمريكية لأنها لم تحصل على المجموع الذي يؤهلها لدخول الجامعة المصرية , وذلك بقرض اقترضه عبد الناصر من البنك , بقي أولاده يسددونه بعد وفاته, ولم يستثن ابن كبير أو مسؤول في التعيينات أو شغل الوظائف العامة أو في الانتساب لأي كلية عسكرية أو غيرها , ولم يكن هناك شيء اسمه المستوى الاجتماعي , ولم يكن هناك واسطة ولا (( إنت عارف أنا ابن مين )) , ولقد حاول بعض الشباب في يوم من الأيام أن يتصرفوا وفق هذا المفهوم , فكانت النتيجة أنه تم تجنيدهم في اليوم نفسه , وأرسلوا للخدمة في منطقة صحراوية نائية .
6 – وقد كان التعليم المجاني مضمونا حتى التخرج من الجامعة , والكل بيتعلم ويتوظف وكله يقدر يتجوز ويقدر يسكن , وقد كانت مصر ترسل الأطباء والمهندسين والمعلمين إلى دول الخليج على حسابها, أي أن رواتبهم من بلدهم مصر وليس من دول الخليج , وقد ساهمت مصر جديا في تطور وتنمية دول الخليج , وهذا ما لا تستطيع دول الخليج إنكاره .
7 – أما عن الاستقرار والحسم , فقد أقيلت الوزارة بكاملها لأنها رفعت سعر كيلو الأرز قرش تعريفة , وكان رغيف الخبز بقرش تعريفة وكيلو اللحمة ب 25 قرش , والبطيخة بخمس قروش , والساندويتش بتعريفة .
أعتقد أن في هذا ما يكفي لمن يريد أن يسمع ويفهم , ولكن أعتقد أن الهجوم على عبد الناصر وطمس كل إيجابياته , الذي يتكرر بين الحين والحين , بدأ من عهد السادات وحتى أيامنا هذه , هو ليس هجوما على شخص , وليس محض آراء شخصية تبحث عن الحقيقة ولا تتفق مع جوهر المشروع الناصري , لكنه هجوم منظم ومدروس يشنه أعداء الأمة على مشروع قاده جمال عبد الناصر لنهوض الأمة , وهو مشروع يقوم على عدة أسس أهمها :
– التحرر الوطني وعدم التبعية .
– التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية .
– القومية والمشروع العروبي الذي لا بديل عنه للوقوف في وجه جميع المشاريع الإقليمية ( الإيراني والإسرائيلي وحتى التركي ) , التي تتغول على أمتنا وتتمدد على حساب دولنا وشعوبنا .
وأعداء الأمة لن يرضوا عن عبد الناصر ولو كان نبيا , لأن مشكلتهم معه ليس كشخص وإنما كمشروع لنهوض الأمة , وما يؤكد كلامي هذا , يذكر أن وزير خارجية فرنسا كريستيان بينو التقى في عام [1954 ] مع ديفيد بن غوريون أحد أهم رؤساء وزراء إسرائيل ومع ناحوم جولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية , وسألهما عن رأيهما في جمال عبد الناصر , فهو رجل يسعى لإصلاح شأن بلده , وينادي بالتنمية ويسعى إلى التوسع في إقامة المدارس والمستشفيات وإنشاء مجمع الحديد والصلب وتطوير صناعات الغزل والنسيج , فكان تعقيب بن جوريون : (( إن هذا أخطر ما في سياسة عبد الناصر , فالتنمية معناها القضاء على إسرائيل )) , وفي فهمكم كفاية , لهذا أنا أرى أن المشروع الناصري ليس مشروعا من الماضي وللماضي, بل هو المشروع الضرورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا من مأزق وجودي, ومن الضروري تحويل عبد الناصر من شخص إلى تيار لإحياء هذا المشروع الضرورة , لأن الأشخاص يموتون ولكن الأمة لا تموت .
المرحوم الدكتور عبد الكريم المويل