يقال؛ إن المدن كالنساء بعضها يسحرك فلا تستطيع على فراقه صبرًا فكيف بمن ملكت من الجمال أكثره وحازت على البهاء وجمعت الدر بين أحجارها البيضاء؛ تلك الأحجار التي تزينت بقصص الحب وتوشّت بعبق التاريخ…
حلب التي برر الرائع نزار قباني تأخره بزيارتها قائلًا:
ربما لم أضع حلب على خريطتي الشعرية
وهذه إحدى أكبر خطاياي ولكن حلب كانت دائما
على خريطة عواطفي وكانت تختبيء في شراييني
كما يختبئ الكحل في العين السوداء
إلا أني لا أؤمن بقول نزار: “الصمت في حرم الجمال جمال” بل أؤمن بأن الحروف خلقت لتنقش أعظم قصائد الحب والغزل ولا تموت أبدًا حين تقال لأجل هذا كله ولأني ابنتها أطلقت قلمي في وصف الجميلة…
حلب؛ المدينة التي تغنى بها كبار الشعراء وكتب عنها عظماء الأدب وقصدها الرحالون ودونوا عنها في كتبهم ومذكراتهم وتصدرت صفحات المجلات والكتب على مر التاريخ..
حلب التي احتلت موقع الصدارة لأكثر من مرة في صفحات مجلة العربي (المجلة الأكثر شهرة في القرن الماضي)
واليوم! ستصطحبكم مجلة الوعي السوري في رحلة عبر أبجدية تليق بأم المدن لعل أقلامنا تفيها بعضًا من حقها.
تقع المدينة الأكبر مساحة وعددًا للسكان في الشمال السوري بين واديين يضمهما نهر الفرات والعاصي حيث يقف التاريخ شامخًا متأملًا ليروي لنا حكاية الجميلة..
فهل رأيت إن أعانك خيالك على الوقوف أمام امرأة بهية بلغت من الحسن قدرًا يجعلها ملكة الجمال والحكمة والعلم والعبق؟
لا شك بأنك ستبات منتشيًا في حب صعب أن يعاد مرتين وستغرق حتمًا في قارورة عطر معتق تحمله لك جدرانها البيضاء التي تشهد على قصص العشق السرمدي فمن زخرفات بيوتها يفوح عبق الغار والزعتر ومن شرفاتها وفي حدائق منازلها ينتشر شذى الياسمين ليمتد إلى شوارعها أما بساتينها المزينة بالفستق الحلبي والموشاة بحبات الزيتون فهي ترسم للزائر لوحة فسيفسائية بديعة الصنع…
تتميز حلب بموقعها الجغرافي القريب من تركيا ما جعلها نافذة الوطن العربي البرية والوحيدة إلى أوربا بالإضافة إلى وقوعها على طريق الحرير الذي كان يعتبر عصب التجارة العالمية قبل الاعتماد على الطرق البحرية…
فتحت حلب أبوابها أمام الفاتحين ووقفت بالمرصاد في وجه الغزاة والمعتدين وبين الفاتح والمعتدي خُلق التنوع الثقافي الذي لا تجده في مكان آخر في العالم..
في عهد الحمدانيين تبوأت المدينة مكان الصدارة حيث اتخذ سيف الدولة الحمدانية منها عاصمة لإمارته وجعل منها محجًا لرواد العلم والأدب والشعر والفن فكان للمتنبي إمام الشعراء وسيدهم ولأبي فراس الحمداني صولات وجولات في قصورها العتيقة…
خلق الحمدانيون تناغمًا بين الثقافتين الموصلية والحلبية فكانت مخارج الحروف المتشابهة والمواويل والأغاني والأطعمة التي لا تكاد تميز بين الحلبي والموصلي منها…
لقد مرت حلب بعهود بيزنطينية وفاطمية وسلجوقية ودخلها الصليبيون إلا أن الزنكية كانوا لهم بالمرصاد وعملوا على ازدهارها اقتصاديًّا وعمرانيًّا إلى أن جاء غازي بن صلاح الدين الأيوبي الذي عمل على تجديد الأسوار وتحصينها وأعاد بناء القلعة ووسع الأسواق وشبكات المياه وقد اتخذ العموريون من حلب عاصمة لبلادهم وجعلوا منها مركزًا اقتصاديًا عالميًّا ثم اجتاحها المغول والتتار وتيمورلنك ثم جاء العثمانيون ثم الفرنسيون كل هذه الأحداث وحلب القابعة في حضن التاريخ تثبت للعالم بأنها قد تمرض ولكنها لا تموت..
تعتبر حلب الشهباء أيقونة تاريخية نادرة حيث تتربع قلعتها التي بنيت في العصور الوسطى والتي أصبحت رمزًا عالميًّا للمدينة على تل مرتفع فاردةً عباءتها لتحتضن المدينة القديمة وأهلها ولحلب أبواب سبعة هي باب الحديد والنصروالجنان والمقام وقنسرين وانطاكية وباب المقام.
أما السوق القديمة (المدِينه) فهي تمتد على طول 1 كم وهي أكبر سوق مسقوفة في ذلك الحين تتفرع عنه أسواق كثيرة تؤمّن للناس كل احتياجاتهم كسوق الصاغة والعطارين والحدادين والنحاسين والحبال والعباءات.. ولو جمعت كل هذه الأسواق على استقامة واحدة لكان طول السوق 12 كم ولا أبالغ إن قلت بأن هذه السوق تعتبر أكبر مجمع تجاري (مول) عرفه التاريخ.. عداك عن الخانات التي هي بمثابة فنادق ضخمة للتجار والصناعيين وخيولهم كخان القاضي والبنادق والقصابين والوزير والشونة والجمرك أكبرها حيث تبلغ مساحته نصف هكتار وكان فيه 52 مخزنا أرضيًّا و77 غرفة وجامع وأسبلة مياه وخدمات… أما الحمامات فأشهرها حمام يلبغا الناصري وحمام باب الأحمر وحمام الألمجي…
من هنا اعتبرت منظمة اليونسكو هذه البقعة المنيرة الغارقة في القِدم مدينة تاريخية مهمة لمكانتها التاريخية والعمرانية ولاحتوائها على تراث إنساني عظيم يجب حمايته وقد سُجلت المدينة في السجلات الأثرية الرسمية، وفي عام 2013 أصدرت الأمم المتحدة واليونسكو جدولًا لأقدم المدن المأهولة فجاءت المدينة في المركز الأول لعمر يصل إلى 12 ألف عام قبل الميلاد و في عام 2004 اعتبرت منظمة الأيسسكو حلب ثاني أهم مدينة في العالم الإسلامي وفي عام 2006 توجت حلب كعاصمة للثقافة الإسلامية كما احتلت المدينة المرتبة الثالثة من حيث الأهمية بعد القسطنطينيّة والقاهرة في القرن السادس عشر قبل الميلاد وقد أدرجت اليونسكو قلعة حلب في لائحة التراث العالمي..
وتعتبر المدينة العاصمة الاقتصادية للبلاد وحسب قناة الجزيرة إن حلب تعتبر بيضة القبان كناية عن الثقل الاقتصادي الذي تملكه المدينة
أما دور العبادة فأشهرها؛ الجامع الأموي (الجامع الكبير) وجامع الرحمن الذي يعتبر تحفة معمارية لا نظير لها وكنيسة الملاك ميخائيل والقديس ديمتريوس بالإضافة إلى المعابد اليهودية…
ولا تنسى الجميلة دائمًا أماكن الراحة والمتعة حيث تنتشر فيها الحدائق كالحديقة العامة (المشتل) المستوحاة من حدائق فرساي الباريسية والتي يستقبلك عند مدخلها تمثال أبيض لأبي فراس الحمداني وأيضًا هناك حديقة السبيل التي تقع في أحد أحياء حلب الراقية..
أما ساحات حلب فأشهرها ساحة سعد الله الجابري وساحة الكرة الأرضية وأشهر مدارسها؛ مدرسة الأميركان والفرانسسكان ومعاوية والمأمون وثانوية نابلس للبنات..ولم تهمل حلب المكتبات العامة ففي باب الفرج تقع “دار الكتب الوطنية” تلك المكتبة الضخمة التي تحتوي على أمهات الكتب والتي أعانتني في دراستي في المرحلة الثانوية في عهد لم يكن فيه الانترنت على قيد الوجود، وصولًا إلى الأسواق فبعد السوق القديمة يأتي سوق “العزيزية” و”التلل” و”الصليبة” و”الجديدة”… ومن أهم شوارع المدينة؛ شارع فيصل وشارع النيل وشارع سيف الدولة…
حافظ الحلبيون على الأبنية والبيوت القديمة التي يفوح منها عبق القِدم وحولوا بعضها إلى مطاعم وفنادق كـدار الياسمين ودار زمريا ولم يتأثروا كثيرًا بالحداثة ولم يغيروا طريقة البناء بل ما زالوا ينحتون ويزخرفون حتى أن الزائر لحي الشهباء أو الفرقان يظن أنه دخل معرضًا للنحت الدقيق لدرجة أن الحجر يشبه “الدانتيل” برقته واللوحات العالمية بدقته …
هذا عن موسيقى الحجر؛ فماذا عن موسيقى البشر؟
يعيش أهل المدينة تحت مظلة التآلف الديني، فالزائر إلى مدينة الحب يرى في شوارعها الكنائس والمساجد جنبًا إلى جنب ويرى الجيران متآخين والأصدقاء متحابين دون النظر إلى اختلاف ديني طائفي أو عرقي لغوي ففي حلب لغات متعددة إلى جانب العربية هنالك اللغة التركية والكردية والأرمنية.
ويمتاز الحلبيون بعشقهم للطرب الأصيل فلا يكاد بيت أو شارع يخلو من صوت جميل وإن أردت المسير ليلًا ستسمع من شوارعها الغارقة بشذى الياسمين وعبق الغار أجمل الأصوات بين مغنٍ وعازف..
يعتبر الحلبيون أئمة القدود والموشحات في العالم العربي فقلعة الفن الأصيل صباح فخري احتل مكانًا عليًّا في عالم الفن عالميًّا؛ بالإضافة إلى مطربي حلب الذين انطلقوا يغردون ويملؤن سماءها بأجمل الموشحات والقصائد كـ “شادي جميل وحمام خيري وصبري مدلل وذكية حمدان ومها الجابري” إضافة إلى المنشدين الذين كانوا يدمجون بين الإنشاد والطرب الأصيل بحرفية عالية المستوى كالجميل “أديب الدايخ والبديع حسن الحفار…
لم تتوقف حلب يومًا عن تصدير أجمل الأصوات ففي كل يوم تنجب أمنا عمالقة وتهديهم للعالم ليحملوا على عاتقهم مهمة نشر الفن الأصيل كـ “أحمد بدوي” الذي شق جدار الصمت وحطم برودة الغربة بصوته الصداح و”أحمد شكري” الذي قدم الطرب والإنشاد في تناغم مبهر ومنهم من جعل صوته هوية أصيلة تعبر عنه في بلاد المهجر كـ”نور مهنا” و”بدر رامي زيتوني” الذي يعتبر خليفة لصباح فخري دون منازع ومن المعروف لأهل الفن بأن حلب لا تملك أصواتًا ساحرة فقط بل تحتضن أفضل السميعة حسب ما جاء على لسان الموسيقار “عبد الوهاب”وأساطين الطرب الأصيل…
يفخر الحلبيون بأصولهم وانتمائهم للحارات التراثية القديمة رغم أن البعض اتخذ من المناطق الحديثة مسكنًا إلا أن فؤاده يبقى معلقًا في المنزل الأول..
كما تفخر حلب بأعلامها ففي علوم الدين كان العلماء منارة تستنير بها الأجيال في العالم الإسلامي وقد أغنوا المكتبات بمؤلفات نقف لها احترامًا وتقديرًا كـ”الشماع والكردي والأيوبي والعبجي والمكتبي والناشد والشيخ السنجقدار” وفي الرياضة صدرت للعالم أبطالًا في ألعاب القوى جلجلت أسماؤهم الملاعب وفي الشعر هناك العبقري “عمر أبو ريشة” وفي النحت هناك “وحيد استانبولي الذي نحت تمثال الخصب الذي يستقبلك عند أحد مداخل حلب و”فاتح المدرس” الذي وصل بلوحاته إلى العالمية وفي الدراما “عمر حجو” والجوكر “بسام كوسا” والفنان الشامل “محمد خير جراح” أما الوصول للعالمية؛ هناك فخر حلب وأهلها “مصطفى العقاد” الذي أثبت من خلال فلمي الرسالة وعمر المختار مستوى الإبداع الذي فاق حدود التصور في فلميه الخالدين.
عرف الحلبيون بإكرامهم وقرهم للضيف وطيبتهم وجسارتهم وحنان نسائهم ونشاطهن وتفوقهن في الأعمال الفنية والمنزلية ووقوفهن إلى جانب الرجل في دور العلم والعمل.
عذرًا حلب فأنا أعترف بأني لم أفيك حقك فمن المستحيل اختصار الجمال المطلق في مفردات أو قواميس اللغات وهل من لغة تصف عظمة مدينة بحجم الكون ضاربة الجذور في عمق التاريخ..؟
وعذرًا نزار واسمح لي أن أعارضك بقولي:
أنا الحلبي لو شرحتم جسدي لسال منه عطر الغار فواح.
حلب العظيمة ستبقين قصدنا وإليك السبيل؟
المصدر: الوعي السوري