تواجه مصر خطر انهيار شامل، تحت وطأة أزمة مالية مستفحلة، تسبّبت بأزمات معيشية وخدمية خانقة. تعاني من مديونية كبيرة، بلغت 172.9 مليار دولار، تمثل حوالى 140% من الناتج الوطني، علماً أنّ الحدود الآمنة لنسبة الديْن العام إلى الناتج الوطني للدول بين 30% و50%، وفقاً لتقديرات صندوق النقد والبنك الدوليين، و60%، وفقاً لتقديرات الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أنّ الديْن العام في مصر تجاوز الحدود الآمنة بمعدلات فلكية. وقد ترتّبت على هذه المديونية الكبيرة خدمة ديْن تستنزف السيولة من العملات الأجنبية المتاحة. وهذا قاد إلى تضخّم فاق 36.8%، وإلى تآكل قيمة الجنيه المصري في سوق العملات، بلغ سعر الدولار في السوق الموازية قرابة 40 جنيهاً، وإلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية التي يعتمد عليها المواطن المصري في حياته اليومية، وتسبّب ارتفاع الأسعار في خفض حصّة الفرد من البروتين في السنوات الثلاث الماضية بنسبة 200%، فقد انخفضت من 95.3 غراما إلى 30.5 غراما في اليوم، كما أدّى إلى تراجع الخدمات العامة بمستوييها الكمّي والنوعي.
ارتبط ارتفاع المديونية باعتماد النظام المصري سياسة الاقتراض لتمويل مشاريع عملاقة غير ذات أولوية، العاصمة الإدارية وحدها استنزفت 58 مليار دولار، وشبكة سكك حديد للقطارات عالية السرعة بطول ألفي كيلومتر، ستكون سادس أكبر شبكة في العالم، ستكلّف 23 مليار دولار، وفق الرئاسة المصرية، ومحطة للطاقة النووية كلفتها 25 مليار دولار، إذ ارتفعت المديونية من 40 مليار دولار عام 2015 إلى 172.9 مليارا عام 2023، ما حمّل خزينة الدولة عبئاً مالياً كبيراً، فوائد ضخمة لخدمة هذا الديْن الكبير من دون وجود مصادر وازنة وثابتة للعملة الصعبة لتسديد الدفعات. استحقّت دفعات لخدمة الديْن مقدارها 2.49 مليار دولار من الديون قصيرة الأجل في يونيو/ حزيران الماضي، فيما ستستحقّ دفعات في النصف الثاني من 2023 مقدارها 3.86 مليارات دولار من الديون قصيرة الأجل و11.38 مليار دولار من الديون طويلة الأجل، وفق بيانات البنك المركزي المصري، ما دفع النظام إلى التفاوض مع البنك الدولي حول قرض جديد لتوفير سيولة لدفع هذه المستحقّات؛ وإلى بيع شركات ومصانع ومصارف وفنادق من القطاع العام؛ وتخفيض إنتاج الكهرباء وتقنينها لتوفير كمّيات من الغاز وتصديرها لجلب عملةٍ صعبة، ما ترك المواطنين يعانون من انقطاع التيار في أشهر الصيف الملتهبة.
سياسة الاقتراض لتمويل المشاريع العملاقة، التي لا تتمتّع بأولوية ضاغطة، أو لمعالجة عجز الميزانية أو لتمويل البرامج الاجتماعية والإنمائية، بالإضافة إلى حاجة مصر إلى استيراد موادّ غذائية، خصوصا القمح والذّرة، حيث تنتج أقل من 50% من حاجتها من القمح والذرة؛ مع ضعف فرصها في زيادة إنتاجها من الحبوب؛ حيث ترتبط فرصها بشكل رئيس بتوفر المياه، فهطول الأمطار السنوي فيها لا يتجاوز الـ 33.3 ملم، ما جعل أكثر من 99% من زراعتها تعتمد على الري؛ وجعل اعتمادها على نهر النيل مصيريا؛ فالنيل يوفر 65 مليار متر مكعّب من المياه العذبة، أي ما يقارب الـ 90% من استهلاكها، يُستخدم أكثر من 80% منها في الزراعة، فلزيادة الإنتاج تحتاج توفير كمية إضافية من المياه. جاء بناء سد النهضة الإثيوبي ليجعل حصولها على حصّتها من مياه النيل تحت رحمة دولةٍ أخرى، علما أنها تواجه عجزا مائيا سنويا يتراوح بين 30 و35 مليار متر مكعب، وفقا لوزير الموارد المائية والري، هاني سويلم. وقد توقع البنك الدولي أن تؤدّي ندرة المياه الناتجة عن تغير المناخ والضغط الحراري إلى خفض إنتاج مصر من القمح والذّرة بنسبة تتراوح بين 10% و20%، وزاد موقفها صعوبة بارتفاع أسعار الحبوب بسبب العدوان الروسي على أوكرانيا، حيث كانت معظم وارداتها من الحبوب من أوكرانيا، وتعد واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، وقد شهدت أسعار الحبوب بعد إعلان روسيا الانسحاب من اتفاق الحبوب مع أوكرانيا في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) ارتفاعا بنسبة 58.9%، قاد إلى ارتفاع تكلفة المواد الأساسية من الخبز إلى زيت الطهي. وكان ارتفاع سعر الذرة، المكوّن الرئيسي لتغذية المواشي والدواجن والأسماك، قد أدّى إلى ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن في يونيو/ حزيران 2023 بنسبة 92.1%، في دولة عدد سكانها 105 ملايين نسمة يعيش حوالى 60% منهم تحت خطّ الفقر، ما اضطر النظام إلى إنفاق 4.14 مليارات دولار على دعم المواد الغذائية المستوردة لكي تصبح في متناول قطاعاتٍ من المواطنين.
لقد دخل النظام المصري في حلقةٍ مفرغة: قروض، وقروض لخدمة القروض، وقروض لإيفاء القروض، من أجل الانخراط في مشاريع عملاقة للتباهي، أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأعلى برج في أفريقيا وأعلى سارية علم، مدن وطرق معلقة وطرق سريعة، وكلها ليست لها عوائد حقيقية، من دون أن يُنسى شراء الأسلحة إذ احتلت مصر المركز الثالث على مستوى العالم، تعاقدت على 54 صفقة أسلحة من 2015 إلى 2019.
يكشف ما ذُكر أعلاه أن إدارة النظام المصري الدولة فاشلة، حيث لم يكتف بالانخراط في مشاريع مظهرية، وتحميل الدولة قروضا بمليارات الدولارات، بل زاد الأوضاع سوءاً برشوة الجيش، حامي النظام، بمنحه شيكاً على بياض للتصرّف بأراضي الدولة واحتكار تنفيذ المشاريع العمرانية والصناعات الغذائية، بما في ذلك تسويقها في مراكز بيع بالمفرّق، والخدمية ومنح الضباط علاوات كبيرة في الرواتب والمتقاعدين منهم مراكز إدارية في مؤسّسات القطاع العام برواتب فلكية، وقمع المواطنين بوحشية ومطاردة أبسط مظاهر الاعتراض وتقييد عمل النقابات والصحافة… نظام محسوبية وزبائنية وفساد وقمع معمم.
تكمن خطورة الموقف في تأثير انهيار مصر المتوقّع على محيطها العربي والأفريقي والمتوسطي، فالهشاشة وضعف قدرة النظام على مواجهة الأزمات سوف يتسبّبان بمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، وبتداعيات إقليمية ودولية ثقيلة ومربكة، تبدأ بوضع النظام المصري في مواجهة سخطٍ اجتماعي. ويتوقع معلقون أن يواجه النظام أعمال شغب كبيرة وواسعة وعنفا اجتماعيا مدمّرا، تتمدّد ارتداداته في الجوار القريب أولاً، وتتسع عبر موجات هجرة ضخمة إلى دول الجوار العربي والأوروبي وبقية الدول.
صحيح أنّ سياسات النظام المصري المالية والإنمائية لعبت الدور الرئيس في التسبّب بنشوء (وتفجّر) الأزمة المالية وارتداداتها، لكن هذا لا ينفي وجود أدوار لقوى إقليمية ودولية في إغراق مصر في الأزمات، من أجل استنزاف قدراتها وتقييد حركتها. لما يحصل فيها وفي جوارها القريب، ليبيا والسودان، علاقة بمواقف ومصالح عربية وإقليمية ودولية لإضعافها. واضحٌ أنّ ثمة توجّهاً عربياً، خليجياً، إلى شلّ مصر لمنعها من استعادة دورها المركزي في النظام الإقليمي العربي، بعض دوافعه تصفية حسابات معها على دورها طوال خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته في قيادة النظام الإقليمي العربي، وسعيها إلى تغيير الأنظمة على خلفية توجّهها القومي الاشتراكي، وبعضها السعي إلى تولي دورٍ قياديٍ في النظام الإقليمي العربي، عبر استثمار القدرات المالية الضخمة، وتوظيفها في برامج وخطط إعلامية وسياسية للتأثير في المعادلات السياسية والاجتماعية في الدول العربية الفقيرة، لكسب النفوذ والهيمنة وتحقيق مكاسب جيوسياسية على حساب دولٍ لها ثقل بشري وموقع جيوسياسي هام، وجيوش كبيرة، لكنها تفتقر إلى الأموال لحلّ مشكلات الغذاء والخدمات لشعوبها ولتمويل مشاريع تنموية وخدمية. وقد كان ذا دلالةٍ أن تحجم هذه الدول عن الاستثمار في مشاريع تنموية في مصر تدرّ عوائد ربحية مناسبة وتتيح فرص عمل، حيث كانت معظم استثماراتها فيها محصورةً في بعض مشاريع الإسكان. وقد تأكد ذلك في توجّهها إلى شراء أصول مصريةٍ عرضت للبيع، حيث ركّزت على شراء الفنادق والبنوك، ووضعت شرطا في عروضها يقضي بتسعير الدولار أكثر من سعره في السوق المصرية الموازية بستة جنيهات. هذا بالإضافة إلى موقفها الغامض من الخلاف المصري الإثيوبي على خطط بناء سدّ النهضة وتشغيله، من دون أن ننسى مساهمة بعضها في تمويله. وقد جاء موقفها أخيراً بعدم إقراض النظام المصري أيّ مبالغ جديدة، كانت الدول الخليجية قد وضعت 28 مليار دولار ودائع في البنك المركزي المصري دعما لانقلاب العام 2013 وتثبيته، وهي معظم الموجود حاليا في هذا البنك، بعدما باتت مطمئنة إلى أن حالة العجز التي بلغتها مصر أخرجتها من المنافسة على قيادة النظام الإقليمي العربي.
لم يشفع للنظام المصري تبنّيه رؤى خليجية في منع ثورات الربيع العربي من تحقيق أهدافها في الحرية والكرامة وإقامة نظم ديمقراطية عبر تنفيذ انقلابه في مصر عام 2013، وتنسيقه معها في خططها لإجهاض الهبّة الشعبية من أجل الحرية والكرامة في بقية الدول العربية، وعملها على تشكيل المجال العربي وفق هذه الرؤى بإعادة صياغة توازناته ونشر ثقافة سياسية تعارض الدعوات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ما يعني هيمنتها وسيطرتها على التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية في الإقليم، وتكريس حالة الخضوع والاستسلام على الشعوب العربية.
تكمن مشكلة الدول الخليجية الساعية إلى إضعاف مصر ونقطة ضعفها القاتلة في عدم قدرتها على ملء الفراغ على المدى الطويل، وتوفير عوامل سيطرة شاملة ومواجهة تبعات وجود دول غير مستقرّة في محيطها القريب ومواجهة تحدّيات إقليمية ودولية متصاعدة في الوقت نفسه، بالاعتماد على قدراتها الذاتية، والأنكى اعتماد بعضها على دعم من قوى غير عربية، لتمكينها وتعزيز دورها على حساب دور مصر، ودول عربية أخرى، فتصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار. وستكتشف، بعد فوات الأوان، أنّها أخطأت الاختيار، وذهبت في طريق نهايته، ليست سعيدة، لأنّها تجاهلت حقيقة جوهرية، وهي ارتباط أمنها واستقرارها وازدهارها بأمن بقية الدول العربية واستقرارها وازدهارها، وأنّ وجودها ضمن محيط آمن ومستقر هو الضمانة لأمنها وسلامتها. جارك بخير أنت بخير. وهذا من دون أن ننسى أنّ انهيار مصر بوزنها وموقعها انهيار لكلّ الدول العربية، إذ ستفقد الدول العربية مركز ثقل تاريخي واستراتيجي وعامل توازن واستقرار، وتدخل في حالة انعدام وزن.
ليس أمام دول الخليج سوى تغيير مقاربتها الوضع العربي، والمصري بخاصة، والذهاب نحو استثماراتٍ مكثفةٍ في مشاريع ربحية وتوفر فرص عمل، وإلّا فلتنتظر الطوفان.
المصدر: العربي الجديد