من الليبرالية إلى الراديكالية.
يتابع د برهان أطروحته عن الدور الغربي الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وانتقالهم بشكل عملي وهم على أبواب الحرب العالمية الأولى التي سيواجه الغرب الرأسمالي بعضه ضمن صراع مصالح، حيث تتحالف ألمانيا مع الدولة العثمانية في حرب بمواجهة بريطانيا وفرنسا. وتؤدي لهزيمة ألمانيا والعثمانيين. وتؤدي الى زوال الدولة العثمانية غنيمة حرب لفرنسا وبريطانيا وبقية دول الغرب، حيث كانت قد احتلت فرنسا الجزائر قبل ذلك بكثير وحاولت ان تجعلها تابعة لها ؛ استعمار استيطاني وأعتبرتها جزء من كيانها. توسع الاستعمار الأوروبي ليطال الشمال الأفريقي ومصر التي كانت غنيمة بريطانية. وحصلت الثورة الروسية عام ١٩١٧، وتم كشف اتفاقية سايكس بيكو التي حصلت بين بريطانيا وفرنسا وبموجبه تم تقسيم المشرق العربي، سوريا ولبنان للفرنسيين وفلسطين والعراق من نصيب الانكليز. وعلى مستوى آخر كان قد اعطى وزير خارجية بريطانيا بلفور عام ١٩١٧م وعده للصهاينة في العالم بتشكيل دولتهم اليهودية في فلسطين. وما أن احتلت بريطانيا فلسطين بعد ذلك بسنوات حتى بدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وادت بعد ذلك برعاية انجليزية أوروبية إلى إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام ١٩٤٨م، كان الغرب الأوروبي الأمريكي أول المعترفين بهذه الدولة الغاصبة…
وفي ذات الوقت تواصل الانكليز مع الشريف حسين الهاشمي شريف مكة عن طريق لورانس وقدموا له الوعود أن يكون ملكا للعرب، على أن يساعد في القضاء على الدولة العثمانية . وبالفعل انخرط معهم وكان أولاده جزء من حملته وحركته. انطلق ابنه الأمير فيصل من الجزيرة العربية باتجاه بلاد الشام أثناء الحرب العالمية الأولى. ليكون فاتحا لبلاد الشام وليعلن دولته العربية في أوائل عشرينات القرن الماضي. وصل الى دمشق وبدأ بالتجهيز لذلك لكن غورو قائد القوات الفرنسية الغازية لسوريا ولبنان أوقفوا مشروع دولته وطردوه الى العراق حيث أعطاه الانكليز حكما ملكيا صوريا . انتهى بعد سنوات حلم الشريف حسين بالدولة العربية المستقلة. وكان الإنكليز قد خططوا مع آل سعود ودعموهم لتوسع نفوذهم وإعلان دولتهم في الجزيرة العربية ومنعوهم من التمدد إلى الإمارات الخليجية التي كانت تحت وصاية الانكليز، وهكذا انتهى الهاشميين في الجزيرة العربية ليكون لهم حكما وراثيا في دولة شرق الأردن.
وكانت قد تطورت الصراعات والمنافسات ضمن أوروبا الرأسمالية نفسها وحصلت الحرب العالمية الثانية في اربعينات القرن الماضية وانتهت بنصر فرنسي بريطاني أمريكي على ألمانيا وايطاليا واليابان. وأصبحت أوروبا موحدة تحت الرعاية الامريكية التي حضرت بقوة عبر استخدام السلاح النووي في اليابان ودخول جيوش أمريكا لأوروبا. أمريكا هذه التي دخلها الأوروبيين قبل قرون و أفنوا شعبها الهنود الحمر السكان الأصليين. وكانوا نموذجا عن التوحش الأوروبي الرأسمالي حتى فيما بينهم وبنوا دولتهم المتحدة بعد صراع مرير بينهم وحولوا قوتهم الوليدة لاداة سيطرة على العالم كنموذج غربي استعماري استثماري بالقوة العارية والتخطيط لبناء الانظمة التابعة ومنع دول العالم الاخرى من أخذها بوسائل التقدم ودخول الحداثة وصناعة حياتها الافضل.
الإخفاق الكبير .
تابع د برهان تطورات الدخول الاستعماري الغربي إلى بلاد العرب، وأومأ لما حصل حتى مع تركيا التي تولدت عن انتهاء الخلافة العثمانية وصراعها مع الغرب ونيلها حريتها بقيادة أتاتورك وتشكيلها دولتها بحدودها الحالية.
لكن ما حصل مع العرب كان مختلفا. ففي كل بلد تصرف المستعمر الأوربي بشكل مختلف، لكنها كلها تندرج تحت ذات الاهداف: منع هذه البلاد وشعوبها من امتلاك أي امكانية التقدم والدخول في عصر الحداثة ونهبها اقتصاديا ووضع حكومات صورية تابعة للغرب ومنفذة أجندته.
قام الفرنسيين في سوريا ولبنان باعتماد سياسة فرق تسد ومحاولة بناء دول ذات طابع ديني طائفي عرقي. دولة العلويين في الشمال السوري ودولة لبنان الصغير ثم الكبير لتشمل مسيحيي لبنان ودولة الدروز ودولة الشام وحلب ودولة اسكندرون التي وهبتها فرنسا لتركيا بعد ذلك. ودولة في الشمال الشرقي السوري يدعم المكون المسيحي الكردي. إنها خطة تدمير مجتمعي كامل تحاول تذرير سوريا. ولكن الشعب السوري وقواه الحية لم تقبل بهذا الحال وقاومته حتى بالسلاح وخرجت فرنسا من سوريا ولبنان بعد خمس وعشرين عاما من الاحتلال لكنها لم تغير اصل خطتها المعتمدة على انظمة تابعة ونهب اقتصادي لهذه البلدان.
وعلى مستوى آخر كان الانكليز قد رسخوا الوجود الاستيطاني للحركة الصهيونية في فلسطين ولم يغادروها الّا وقد أعلنت دولة الصهاينة عام ١٩٤٨م في فلسطين وقتل الكثير من الفلسطينيين وهجر مئات الآلاف منهم، وولدت مشكلة شعب مشرد محروم الحقوق وهي مستمرة للآن. وما حصل في العراق كان مختلف شكلا يحقق ذات المضمون حيث سيطر الانكليز على النفط العراقي ودعموا حكومة ملكية صورية تابعة لهم من نسل الهاشميين فيصل واخاه بعده. وكذلك الهيمنة على السعودية ودول الخليج أغلبها مستعمر وتحت الحماية، لكن الكل محكومين بتبعية اقتصادية سياسية للغرب البريطاني الأمريكي الذي حضر بعد الحرب العالمية الثانية.
أما في مصر فقد ثبتت بريطانيا هيمنتها المطلقة على مصر ومقدراتها. وقناة السويس منذ فترة شقها حيث تم شراءها من الخديوي عباس الذي كان يحاول تقليد الغرب شكليا. وأصبحت مصر وحكامها نسل محمد علي وشعبها رهينة بريطانية وأصبحت مصر دولة محتلة من بريطانيا…
لكن الشعوب لا تتوقف عن حركتها مطالبة بالحرية والعدالة ومواجهة مستعمريها وحكامها التابعين لهؤلاء الأعداء. وهكذا كانت مصر موعودة مع قائدا تاريخيا تمثل بجمال عبد الناصر. الذي شكل ورفاقه تنظيما عسكريا في الجيش؛ الضباط الأحرار وخطط للثورة على الحكم الملكي التابع للانكليز المستعمرين. حصلت الثورة في تموز ١٩٥٢م وسقطت الملكية وبدأت تواجه الغرب المتمثل بالوصاية البريطانية واوروبا وامريكا، والكتلة السوفياتية التي أصبحت معسكرا مقابل المعسكر الغربي لتقاسم الهيمنة على العالم. ..
طالب عبد الناصر البنك الدولي دعم بلاده في بناء السد العالي على النيل لتوفير المياه والطاقة الكهربائية اللازمة حتى يؤسس لنهضة مصرية تعتمد العلم والتكنولوجيا ويعمل لبناء القوة الذاتية. وهذا من ممنوعات الغرب عن العالم العربي. لذلك تم رفض مشروعه لبناء السد العالي ولم يدعم بالمال اللازم من البنك الدولي وأدى ذلك الى انتقاله في تحدي الغرب أن أعلن استقلال مصر وطرد الإنجليز عام ١٩٥٢م. وبعد أن رُفض طلبه بامداد بناء السد العالي قام بخطوة تاريخية وهي تأميم قناة السويس وإعادة ملكيتها للشعب المصري عام ١٩٥٦م. وهذا ما اعتبره الغرب البريطاني الفرنسي تحديا وعدوانا عليها. وان ذلك سيجعل من مصر قوة قادرة على اعادة بنائها الذاتي وتمد نموذجها لكل العرب ويسقط المشروع الغربي من منع الحداثة والتقدم عن العرب واستمرارهم تابعين للغرب ومتخلفين منهوبة ثرواتهم كل الوقت. وقاموا بعدوانهم الثلاثي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر. لكن صمود الشعب المصري ومقاومته والدعم السوفييتي لمصر وتدخل أمريكا ضد العدوان لتصبح اللاعب الاقوى دوليا كقائدة للغرب مما جعل العدوان الثلاثي يفشل وتستمر مصر بقيادة عبد الناصر قائدة العالم العربي ويصبح عبد الناصر رمزا قوميا يعبر عن الطموح القومي لبناء اتحاد عربي وبناء دول متقدمة وغير تابعة وتصنع الحياة الأفضل لشعوبها. وهكذا بدأت تمتد شرارة الاندفاع الثوري لكل البلاد العربية ودعم عبد الناصر الحركات الثورية ضد الاستعمار بجميع أشكاله في البلاد العربية ليبيا وتونس والجزائر واليمن وأفريقيا. وعمل عبد الناصر مع قادة تاريخيين من أمثال تيتو لبناء منظمة دول عدم الانحياز لبناء كتلة من دول العالم الثالث تعمل لتصنع مواقف سياسية مستقلة وقائمة على المصلحة الوطنية لدول العالم الثالث في مواجهة القطبين الدوليين. الغرب الرأسمالي والسوفييت…
نعم سيقوم حلف عدم الانحياز بالتواجد والتوسع للآن عبر عقود لكن يتحول لمجرد حضور غير ذي جدوى وفاعلية بعد غياب عبد الناصر وسقوط مشاريع الاستقلال الوطني. ..
وزاد حضور عبد الناصر ودوره كقائد تحرري مواجه للغرب يسعى للاستقلال والتطور وبناء الدولة الوطنية والقومية العادلة عندما تجاوب مع المطالب الشعبية والسياسية للسوريين الذين وجدوا أنفسهم ضحية مشروع بغداد الذي ترعاه أمريكا وأوروبا وإيران وتركيا والعراق كدول في الإقليم تابعة للغرب ومشاريعه وهيمنته. وحصلت الوحدة المصرية السورية: الجمهورية العربية المتحدة. عام ١٩٥٨م بعدما كانت مرت سوريا بمرحلة استقلال وطني و حكومات ديمقراطية نسبيا وانقلابات عسكرية ثلاثة برعاية غربية ولم يستسلم الشعب السوري لها واتجه ليتوحد مع مصر عبد الناصر…
لم يستسلم الغرب الأوروبي الأمريكي مع حليفته في بلادنا إسرائيل الكيان الغاصب لفلسطين. وستكون إسرائيل رأس حربة عسكرية عدوانية ضد أي حراك عربي حقيقي للتقدم ورفض التبعية للغرب وهيمنته . لذلك بدأت الهجمة المضادة من الغرب بدعم الانقلاب في سوريا ضد الوحدة المصرية السورية الذي حصل عام ١٩٦١م. وأن تعود سوريا لتكون جزء من خطط الغرب واستراتيجياته. التي ستدشن بهيمنة البعث بعد الانفصال بسنتين عام ١٩٦٣م ومن ثم سلطة الأسد المطلق على سوريا بعد انقلاب تشرين عام ١٩٧٠م…
أما تتمة العمل لاسقاط مشروع عبد الناصر التحرري للتنمية المستقلة وبناء العدالة الاجتماعية كان بشن العدوان الاسرائيلي على مصر وسوريا والأردن في حزيران عام ١٩٦٧م وادى لاحتلال سيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية لفلسطين. لا يغيب عن المتابع قصور القدرات العسكرية عن مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية بتوافق مدروس بين كتلة الغرب والشرق السوفييتي بدعم الكيان الصهيوني…
لقد كانت هزيمة ١٩٦٧م بداية انحسار مشروع عبد الناصر حيث انهمك في التجهيز لازالة آثار العدوان والعمل لتحرير سيناء لكن الأجل سبقه وتوفى ولم يستطع أن يحضر تحرير سيناء من التجهيزات التي عاصرها مع قادة عسكريين متميزين. وكان آخر ما عاشه عبد الناصر قبل وفاته المفاجئة في تموز عام ١٩٧٠ م في ذات تاريخ الانفصال المرير. أن استطاع ايقاف هدر الدم الفلسطيني في الاردن من خلال منع استمرار القتال بين الفدائيين والنظام الأردني فيما سمي مذابح أيلول الأسود… وإيقاف القتال وتهجير الفدائيين الفلسطينيين الى لبنان وجنوبه ثم بعد ذلك برعاية سورية بالعدوان الإسرائيلي تهجروا خارج دول الجوار الفلسطيني ليصلوا إلى تونس على ان تكون مقبرة لهم و لقضيتهم. لكن الشعب الفلسطيني عبر انتفاضة الداخل سيعيد فتح و ابو عمار الى الساحة الفلسطينية مجددا… ادى لتشكل دولة هجينة تحت مسمى حكم ذاتي سيُقتل ابو عمار وتبنى دولة ابومازن خيال مآته لحماية إسرائيل من الشعب الفلسطيني … مع الاسف.
لم يتوقف الغرب عن استثمار لحظة غياب عبد الناصر. واستلام السادات للسلطة في مصر وتصفية بعض رفاق طريق عبد الناصر. ودعم حلم السادات أن يرث عبد الناصر ولو معكوسا ضد قضايا العرب ومصر ذاتها. لقد خاض حرب أكتوبر ١٩٧٣م لاسترداد سيناء كانت حرب تحريك وليس تحرير. ونصب نفسه قائدا منتصرا و بالتوافق مع أمريكا عبر كيسنجر وزير خارجيتها المحنك أسس لعودة سيناء وبناء صلح مع إسرائيل وخروج مصر من الإجماع العربي وتحولها إلى دولة تابعة في ركاب الغرب واسرائيل… صحيح أن الشعب المصري لم يسكت للسادات واغتاله بعض شبابه . لكن ما صنعه من انحياز للغرب وتبعية له والاستبداد بالشعب استمر بعده عبر مبارك وجنرالات الجيش التي أسقطت الربيع المصري. استمرت مصر جزء من أجندة الغرب وتمشي وفق مصالحه وإملاءاته…
وهكذا سقط مشروع عبد الناصر التحرري المستقل العادل الذي سعى لبناء دولة نامية تدخل العصر وتصنع المستقبل وتمتد قوميا وفي العالم الثالث لتصنع نموذجا لدول العالم المتخلّفة المستباحة لتصنع مصيرها ومستقبلها الافضل.