في الفيلم المصري “الكيف” من إنتاج سنة 1985. يناقش الكاتبُ المبدع محمود أبو زيد قضيةَ المخدرات وتأثيرها على المجتمع، لكن الفيلم كما هو فيلم “العار” و”جري الوحوش” لنفس الكاتب، لا يكتفي فقط بموضوع المخدرات بل يناقش موضوع الصراع بين المبادئ والأخلاق التي هي من المفروض أن تكون أساس المجتمع الصحيح من جهة وبين المال والثروة والحياة المادية التي لا تزدهر -مع الأسف- في مجتمعاتنا خصوصاً إلا على حساب الأولى، ربما بسبب الفساد السياسي وما يجرُّ معه من أدوات ووسائلَ للاستمرار وبقاء الطغم الحاكمة في السلطة وعلى رأسها: نشر الجهل، والرذيلة، وإغراق المجتمعات بالمادية وعناصر المتعة المدمرة للأخلاق!
حفلاتُ التفاهة التي تحيط بكافة جوانب حياتنا هذه الأيام لا ندخلها مرغمين في كل الأحوال، فهناك من يدخلها مختاراً، ومنتشياً أيضاً، لعل فيما يتم تداولُه عبر برامج التراسل ووسائل التواصل الاجتماعي، شيئاً من طقوس هذه الحفلة، التقديرات تشير إلى أن متوسط الساعاتِ التي يقضيها الفردُ الواحد في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي يصل إلى ست ساعات يومياً… أغلبُها في متابعة نجوم السوشيال ميديا و الفاشينيستا، وسيل كبير من المشاهد المصورة التي لا تضيف شيئاً للمعرفة، بل أغلبها يسهم في إضفاء التوتر وتزييف الوعي وتخريب السكينة النفسية للإنسان.
في عالم ما بعد الحداثة يعشق البشرُ التفاهة؛ فكمية الحروب والصراعات وصنع العداوات وتدمير البيئة، وتجويع الناس وتشريدهم، تُثبت أن «حفلة التفاهة» التي صورها محمود أبو زيد في ثمانينيات القرن الماضي، للوصول إلى (اللامعنى) والتنكر لقيمة الحياة، هي الحالةُ التي تسود العالم أجمع، وتجعله غيرَ آبهٍ بتحديات الحاضر وتطلعات المستقبل…والدليل أن ما نشهده من الاختلاف والتقاطع المعقد بالمصالح السياسية والاقتصادية بين اللاعبين على الساحات العربية، تختفي وتتلاشى عندما يتعلق الأمر بالتدمير الممنهج لشعوب المنطقة في سوريا والعراق ومصر والسودان …
في فيلم الكيف، يحدث حوار مع سائقِ التكسي الذي يضع أغانيَ هابطةً تافهة، فيسأله البطل: هل أنت مستمتع بهذه الأغنية: فيجيبه في البداية لم تكن تعجبني، لكن مع تكرارها عشعشت في نافوخي (دماغي) فأدمنت عليها، ربما أراد محمود أبو زيد أن يشير إلى هذا النوع من المخدرات الذي يفوق تأثيرَ الحشيش مما دفع الناس لينتشوا من مادة مزيفة سُوِقَت على أنها حشيش! في روايته الأخيرة «حفلة التفاهة» يروي ميلان كونديرا، (الذي رحل عن عالمنا هذا الأسبوع) إلى هذا المعنى حيث يشير إلى أن مانعيشه الآن ليس المقصود منه التعرف إلى التفاهة – اللا معنى، بل التعلق بها وتعلّم كيفية الوقوع في حبها… حيث تتوقف عند هذه العبارة الساخرة في روايته : “تنفّس هذه التفاهة التي تحيط بنا، إنها مفتاحُ الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا”.
لكن السؤال المهم كيف اُنتج فيلم “الكيف” في عام 1985، بينما كانت الولايات المتحدة بقيادة ريغان تطلق برنامج حرب النجوم وتؤسس وادي السيليكون الذي سيرسم اقتصاد القرن الواحد والعشرين، والصين تؤسس مصنع العالم لتُطلق معجزتها الاقتصادية، وأوروبا تعزز القواسم المشتركة بين شعوبها وبناها الاجتماعية والاقتصادية لتحول شعوب تقاتلت لقرون إلى شعوب تجمعها دولة واحدة؟ بينما الآن يعيش العالم أجمع عصر التفاهة من شرقه إلى غربه؟ الجواب يكمن في كلمة واحدة وهي “السيطرة”، كانت المعركة في الثمانينات من القرن الماضي في مصر وسوريا وسائر دول العالم الثالث بين الدولة والشعب، وكان السلاحّ الأنجع فيها نشر نظام التفاهة، بينما كانتِ المعركة في الغرب بين الكيانات والدول. أما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتصار رأسمالية ميلتون فريدمان أصبحتِ المعركةُ في الغرب بين النخبة وشعوب العالم أجمع؛ لذا ما كان موجوداً في بلادنا لتجهيلنا و إفقارنا ونشر الرذيلة حتى يبقى حكم القلة، انقلب على شعوب الأرض أجمع!
السؤال الثاني المهم: هل التفاهة قديمة أم جديدة؟ فقد يظن الكثيرون أن نظام التفاهة شخصٌ فقط من أمثال محمود أبو زيد أو ميلان كونديرا أو ألان دونو؟ وجدت استدعاء ملحمة «الكوميديا الإلهيّة» لدانتي أليغيري، شاعر القرن الـرابع عشر الإيطاليّ، قد يكون بها الجواب الجواب الشافي لهذا السؤال:
“الكوميديا” جاءت في أقسام (cantiche) ثلاثة (وأجزاء ثلاثة): الجحيم والمَطهر والفردوس، أمّا بطلها الراوي فدانتي نفسه، منتقلاً إلى الهداية من موقعه كـ«ضالّ في غابة معتمة»، تعبيراً عن استيلاء الخطايا على إيطاليا، ومتخيّلاً مجازيّاً رحلة الروح إلى الإله. هكذا نراه يوغل أبعد فأبعد في مهاوي الجحيم، مُشاهداً أشكالاً مختلفة من العقاب الفاحش في أمكنته التسعة: البرزخ والشهوة والشراهة والطمع والغضب والهرطقة والعنف والاحتيال، وصولاً إلى الدائرة التاسعة المرعبة التي هي الخيانة.
دانتي، الجنديّ والسياسيّ الفلورنسيّ المؤمن، بل المسكون بأنّه مسيح آخر، كان بالغَ النقديّة للكنيسة، كره خصوصاً محسوبيّاتها وممارساتها في شراء المناصب وبيع الإعفاءات من الخطايا عبر صكوك الغفران. ولمّا كان حزبُ «السود» المؤيّدُ للبابويّة الطرفُ الداعم لتلك الأفعال، كان دانتي من قادة حزب «البيض» الذين دافعوا عن حرّيّات أكبر لفلورنسا حيال البابويّة، كما كان الأكثر جهراً بموقفه من البابا. وفي 1302 نجح «السود» في نفيه من مدينته التي لم يعد إليها أبداً، إلاّ أنّه، في ذاك المنفى، أنتج عمله العظيم.
وفي ملحمته «انتقم» شاهد دانتي في الجحيم خُطاة يتفسّخون كفيليبو أرجنتي، السياسيّ الأريستوقراطيّ الفلورنسيّ وأحد زعماء «السود»، وتحدّث مع خاطئ كان يحترق ولم يكن إلاّ البابا نيكولاس الثالث الذي أخبره أنّ الاثنين اللذين سيخلفانه في البابويّة سيشغلان مكانه نفسه في الجحيم. وبقسوة لا تعرف التحفّظ رأى دانتي أنّ بعض الخطاة يستحقّون عقوبات أشدّ إيلاماً، ما اعتُبر تشكيكاً بقرار الإله في تحديد درجة العقاب.
الشاعر الإيطاليّ الكبير دانتي تأثّر بأبي العلاء المعرّي في «رسالة الغفران»، وبابن عربي في «ترجمان الأشواق»، وربما اقتبس منهما، لكن كانت كوميديا دانتي استباقاً لعصر النهضة الذي عرف ولادته في فلورنسا نفسها. دانتي قدّم بطلاً جديداً هو «رجل النهضة» واسع الأفق والمتجرّئ، وعبّر عن روحيّة النهضة لجهة قدرة الفنّ على صنع العالم، ما سوف نراه لاحقاً مع ليوناردو دافنشي وميكال إنجلو.
كانتِ الحضارة والدين الإسلامي وجهين لعملة واحدة عندما كتب دانتي ملحمته، بينما كان الصراع بين حزب البيض وحزب السود في أوروبا هو منطلق النهضة لشعوبها، في الوقت نفسه الذي كان يقوى حزب البيض في الغرب، كان يقوي حزب السود في العالم العربي والإسلامي؛ لأن السلطة السياسية تحالفت معهم، وخسر حراس الدين معركتهم مع أنفسهم حتى وصل الحال إلى مجتمع فيلم الكيف! هذا الصراع صغته في رواية ثلاثية الهذيان التي أكتب حالياً فصولها الأخيرة .
دورة الحياة ستعود لتنطلق من هذه الأرض، ليس الآن، ولكن ربما بعد أجيال عديدة عندما يعود حزبُ البيضِ الإسلامي ليتسيدَ المنطقة ويقضيَ على التفاهة التي أغرق بها النخبة شعوب الأرض قاطبةً.