لعل قضية المفقودين والمعتقلين والمغيبين قسرياً في سوريا، باتت من أهم القضايا والإشكاليات التي تؤرق السوريين قاطبة، وهي التي تتمحور حول البعد الإنساني بوضوح، وتبتعد عن السياسة بما تحمله من معطى إنساني صرف، مهما حاول بعضهم جرَّها إلى ميدان السياسة، واستغلالها كقضية سياسية، ضمن أجنداته وخططه التكتيكية والاستراتيجية، وهي اليوم وبعد أن صدر القرار الأممي عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ليل الخميس – الجمعة، الفائت والذي أنشئت بموجبه المؤسسة المستقلة، تحت رعاية الأمم المتحدة المعنية بالمفقودين والمخفيين قسريًا في سوريا. قد ذهبت بعيداً في الاشتغال عملياً على مسألة أنسنة الحالة وأخذها إلى المكان الطبيعي رغم معارضة النظام السوري ومعه العديد من الدول أهمها روسيا والصين ومن يدور في فلكهما.
لقد حصل مشروع القرار الذي قدمته وصاغته دولة (لوكسمبورغ) على تأييدٍ ليس بالكبير من 83 دولة، وعارضته 11 دولة وامتنعت عن التصويت له كثيرٌ من الدول وعددها 62 دولة من أصل 193 دولة عضواً في الجمعية العامة.
الطامة الكبرى تبدت عندما وقفت إلى جانب القرار دولتان عربيتان فقط، هما قطر والكويت، إذ صوتتا لصالح قرار إنشاء (مؤسسة للبحث عن مصير المفقودين بسوريا) في حين امتنعت معظم الدول العربية عن التصويت لصالح القرار الإنساني الذي كان يترقبه السوريون، ونذكر من هذه الدول التي امتنعت: السعودية والإمارات والبحرين وعُمان ومصر والأردن والمغرب وموريتانيا ولبنان وتونس واليمن، وقد جاء الامتناع كصفعة جديدة لآمال السوريين في الوصول إلى إيجاد آلية أممية جدية تجبر النظام السوري على الكشف عن المفقودين، والبحث عن متاهات الألم العميق المتراكم داخل جلّ الأسر السورية. ومع أن القرار صدر، ولم يمنعه عدم التصويت أو الامتناع عنه من الخروج إلى العلن، فإن موقف الامتناع عن التصويت قد جاء من معظم أركان النظام الرسمي العربي، فهي قضية تدعو للتوقف طويلاً أمام مسارات الواقع السوري، إذ أتى بعد التفاهم السعودي الإيراني، وما وصلت إليه المسألة السورية، وما يمكن أن تصل إليه، بعد هرولة المطبعين إلى النظام السوري فُرادى وجماعات.
وإذا كان القرار الأممي المشار إليه يتمحور عبر الاشتغال عملياً على وضع آلية أممية حول “توضيح مصير الأشخاص المفقودين”، و”تقديم الدعم للضحايا والعائلات”. فإن تمويل ذلك سيكون من خلال “الميزانية العادية للأمم المتحدة”، ما يضمن استمراريتها. ومن المتوقع أن تصل تبعات الميزانية إلى ثلاثة ملايين دولار للعام 2024، وأكثر من 10 إلى 12 مليون دولار للعام 2025.
ولعل أبرز ما تمخض عنه نص القرار الأممي أن الجمعية العامة “تقرر أن تنشئ، تحت رعاية الأمم المتحدة، الهيئة المستقلة المعنية بالمفقودين” في سوريا لتوضيح “مصير جميع المفقودين وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم الكافي للضحايا وأسر المفقودين، بالتعاون الوثيق والتكامل مع جميع الجهات الفاعلة والمعنية”، وأن “يكون للهيئة المستقلة عنصر هيكلي يضمن مشاركة الضحايا والناجين وأسر المفقودين في سوريا”.
كما تطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة من الأمين العام (أنطونيو غوتيرش) أن يقوم “بوضع اختصاصات الهيئة المستقلة في غضون 80 يومَ عمل من اتخاذ القرار، وذلك بدعم من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبالتشاور مع جميع الجهات الفاعلة المعنية، بما يشمل مشاركة الضحايا والناجين والأسر مشاركة كاملة ومجدية”.
أيضاً، تطلب الجمعية العامة من الأمين العام للأمم المتحدة “أن يتخذ، ومن دون إبطاء، الخطوات والتدابير والترتيبات اللازمة للإسراع بإنشاء الهيئة المستقلة وتأديتها مهامها على نحو كامل”.
والجمعية العامة تشير في قرارها إلى أنه “يوجد أكثر من مئة ألف سوري مختفين قسرياً منذ عام 2011، فضلاً عن المفقودين قبل ذلك التاريخ”، ومن المفترض أن يتمحور عمل الآلية حول “توضيح مصير الأشخاص المفقودين”، و”تقديم الدعم للضحايا والعائلات”.
ويجدر في هذا السياق طرح العديد من الأسئلة التي أضحت تؤرق السوريين، وبعد أن تبدت آليات عمل أركان النظام الرسمي العربي في المحافل الدولية، بما يخص القضية السورية ومآلاتها، وإلى أين تسير محركات الدفع بالمسألة السورية عالمياً وإقليمياً، بعد هذا الموقف الرسمي العربي الذي وصل إلى هذا الدرك، في قضية هي محض إنسانية، وإلى أين تسير سياقات الوضع السوري بعد ولوج النظام السوري في الجامعة العربية، إبان التفاهم السعودي الإيراني الذي جرى في 10 آذار/ مارس الفائت في بكين، وهل تخلت هذه الدول العربية التي باتت تجامل النظام السوري وإيران وروسيا في الامتناع عن التصويت بشأن قرار أممي إنساني يخص المفقودين والمعتقلين، علماً أن القرار وضمن الآليات الحالية، وامتناع النظام عن التعاون مع الدول بشأنه، وبدعم روسي إيراني صيني، سوف يبقى ذا بُعدٍ معنوي ليس أكثر، ولن يُسمَح بإنفاذه واقعياً. لكن امتناع كل هذا الكم من الدول عن التصويت له يؤشر إلى مسارات جديدة، ورؤيا متجددة، لم تعد تنظر إيجابياً إلى أهمية الإجماع الدولي والعربي، لإجبار النظام السوري على الولوج في الحل السياسي، وتؤشر إلى انشغالات أخرى لدى المجتمع الدولي، ضمن قضايا ليس في رأسها الوضع السوري بطابعه الإنساني والسياسي.
وإذا كانت الدول العربية (ما عدا الكويت وقطر) تريد أن تقول للنظام السوري ومعه إيران إنها ماضية وبشكل حثيث في إنجاز إعادة تعويم الأسد وتدويره، ليكون مقبولاً دولياً وإقليمياً، فإن الموقف الغربي وخاصة الأميركي (المعلن) على الأقل، ما زال يُصرّ على عدم قبول هذه التحركات التعويمية، وهو في ذلك يشير إلى أن السمة الكبرى الإرهابية، ما برحت هي نفسها، في طريقة تعاطي وتعامل نظام الأسد مع الشعب السوري، رغم كل المسارات التي كانت متوافرة، ثم أصرّ النظام السوري على إيقافها، ومعه إيران وروسيا، ومنها مسار اللجنة الدستورية المتوقف منذ أكثر من سنة، ومسار أستانا الآيل للسقوط، ومسار جنيف الأممي الأول المتوقف منذ سنين طويلة، بفعل فاعل روسي وصمت دولي غير مفهوم.
لا شك أن امتناع معظم الدول العربية عن التصويت لصالح إنشاء آلية متعلقة بالمفقودين، ومعهم 62 دولة عالمية يشير إلى انبثاقات جديدة، وتغيرات كبرى في ماهية الاشتغال الدولي على القضية السورية، قد يفضي إلى غير ما يريده الشعب السوري، عبر مسيرته الصعبة في ثورته التي طال أمدها وأصبحت في حالة استنقاع، ولعل نتائج التصويت الأممية والعربية المواكبة للقرار الأممي، توحي بأن ما يقوله وينطق به لسان حال السوريين عامة أن (أوّل الرقص حَنجلة).
المصدر: موقع تلفزيون سوريا