بعد أن هدأت العاصفة التي فجرها تمرد “مجموعة فاغنر” الروسية على السلطات الروسية، وتراجعت بشكل سريع التطلعات والأماني التي أطلقتها ذلك التمرد عند كثيرين، صار من الممكن أن ننظر إلى ملف فاغنر بهدوء، وأن نقوم إزاءه بمقاربة تسمح لنا بفهم الحدث، ومن أحدثه، والبيئة التي ولدته، وكذلك أن نقدر أثر هذا الحدث على السلطة والدولة الروسية.
ولنقم بهذه الإطلالة من خلال نقاط معينة، أو في إطار البحث عن إجابات لأسئلة محددة.
1 ـ ما هي مجموعة فاغنر؟، ما تصنيفها؟
تُعَرف مجموعة فاغنر بأنها منظمة عسكرية قتالية خاصة، تقدم خدماتها للحكومة الروسية، وفي إطار مصالح روسيا في مختلف أنحاء العالم.
وأول ما يلفت الانتباه في هذا التعريف أنها منظمة عسكرية خاصة، أي أنها ليست من ضمن بنية الجيش الروسي، ولا من ضمن أي كيان أمني أو عسكري أو شبه عسكري أنشأته الدولة الروسية، أو يخضع للقوانين التي تحكم تلك الكيانات.
وحين نقول إنها تقدم خدماتها للحكومة الروسية فهذا يعني أن هناك تعاونا حقيقيا بين هذه المجموعة والدولة الروسية، بحيث تقدم المجموعة خدماتها العسكرية الميدانية للحكومة الروسية مقابل أجر، أو وفق عقود مأجورة، وقد صرح الرئيس الروسي خلال اجتماع مع مسؤولي الدفاع الثلاثاء 27 / 6 / 2023، أن الدولة دفعت لفاغنر من مايو 2022 ، بعيد بدء عملية غزو أوكرانيا وحتى مايو 2023، حوالي ملياري دولار، واعترف “يفغيني بريغوجين” زعيم فاغنر بأن السلطات الروسية سمحت له بدخول السجون الروسية، والقيام تجنيد المجرمين المحكومين، للعمل ضمن مقاتليه مع وعدهم بأنهم سيكونون أحرارا طلقاء حين انتهاء عقودهم مع فاغنر.
وقدمت الدولة الروسية مختلف أنواع الأسلحة لهذه المجموعة، ومختلف أنواع الدعم، كما قدمت لهم الرعاية النفسية والمعنوية، وقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوسمة رفيعة لعدد من هؤلاء، وظهر ذلك في اليوم الأخير من عام 2022 خلال زيارة بوتين إلى جنوب روسيا لتكريم مقاتلين مشاركين في الحرب على أوكرانيا.
وحتى نفهم بدقة طبيعة “فاغنر” يجب الانتباه إلى أن هذه “المنظمة / الشركة” لا تنتمي لصنف شركات الأمن الخاصة التي باتت تنتشر في كثير من البلدان، والتي مهمتها تقديم الخدمات الأمنية للشركات والأشخاص، فتلك الشركات تعمل ضمن القانون الوطني، ولا يتجاوز تسليحها حدودا معينة، وأعمالا معينة، وتعتبر أعمالها مساهمة في مهام جزئية لا تستأهل انشغال قوات الأمن بإنجازها.
كذلك لا تنتمي إلى ذلك النوع من الشركات الخاصة التي تؤمن دعما لوجستيا للقوات المسلحة أو قوات الأمن الوطنية، من خدمات طبية، أو توفير الغذاء، أو النقل، أو المعلومات والاتصالات، فهذا النوع من الشركات ليست مقاتلة.
“فاغنر” منظمة قتالية خاصة، تعمل تحت ظل الدولة الروسية، وفي إطار مصالحها، وعلى امتداد العالم كله، وهي تقوم بعملها “مأجورة “، والعاملون فيها موظفون بعقود خاصة، سواء كانوا روسا أو من أي جنسية أخرى، لا تخضع لعقود العمل في الدولة الأم ـ روسياـ وبالتالي لا تلتزم بالقوانين الروسية، إلا حين تنفيذ عملياتها داخل روسيا.
2 ـ ماذا يعني هذا التعريف لمجموعة / منظمة فاغنر
التعريف المعروض لهذه المجموعة يدلنا على أننا أمام منظمة “مرتزقة”، “مقاتلين مرتزقة”، يقومون بمهامهم القتالية من خلال عقود خاصة لا تخضع لقوانين الدولة التي تحكم مؤسسات وهياكل العمل العسكري والأمني فيها، وتقوم هذه المنظمة بمهامها في أي مكان وزمان يطلب منها ذلك، وهي من هذه الزاوية تمثل المعادل الموضوعي لجماعة / شركة “بلاك ووتر” الأمريكية، وهي الشركة التي استخدمتها الحكومة الامريكية وكانت مرافقة لقوات الاحتلال الأمريكية في العراق، وقد اشتهر وضع هؤلاء المرتزقة بعد ارتكابهم “مذبحة ساحة النسور” في بغداد في 19 / 9 / 2007. وبسبب هذه الفضيحة تحول اسمها إلى شركة أكاديمي، وامتد نشاط “بلاك ووتر / أكاديمي” إلى ليبيا والسعودية واليمن ودول أخرى.
أعمال شركات المرتزقة هذه باتت تغطي مساحات واسعة في عالم اليوم، وإننا نجد أثرها في كل الصراعات التي تجري في قارات العالم الخمس.
نحن إذن في فاغنر، وبلاك ووتر/ أكاديمي، ونظرائهما في العالم وهم كثر، أمام “مرتزقة، مأجورين” يقومون بأعمال قتالية، بغرض الحصول على المال، تم التعاقد عليها مع الجهة التي استأجرتهم، لتحقيق أغراض الدولة، أو السلطة، أو الجهة المحددة ،أو الشركة، التي تدفع لها قيمة هذه العقود.
وهذه الجهة قد تكون الدولة التي تنتمي إليها، أو أي قوة متمردة، أو جماعة مشاركة في حروب أهلية، أو عصابات مسلحة تحاول السيطرة على السلطة في بلادها أو … الخ، وفي النهاية تكون هذه هي التي توقع العقود معها، وهي التي تدفع لها “الأجر”.
وقدرت وزارة الخارجية الفرنسية عائدات شركات المرتزقة نحو 400 مليار دولار في العام 2020. وفي المنطقة العربية قدرت أرباح هذه الشركات (الأرباح وليس التكاليف)، خلال الفترة من العام 2011 إلى العام 2014 بنحو 45 مليار دولار.
وفق المنطق الرأسمالي فنحن أمام سوق استثمارية هائلة. ووفق تحليل قواعد هذه السوق فإن عمليات المرتزقة “توفر وتأمن وتحفظ” استثمارات للدول المعنية يصعب تخيل حجمها أو تقدير هذا الحجم.
3 ـ لماذا تلجأ الدول لاستخدام منظمات المرتزقة؟
سؤال على مستوى عال من الجدية، لماذا تلجأ دول كبرى أو عظمى لمثل هذه المنظمات أو الشركات، لمثل هذه ” العصابات من المرتزقة”؟
قد لا يتجاوز عدد “مرتزقة فاغنر” العشرين ألف مسلح، وقد يصل في فترة ما إلى خمسين ألفا، فيما عدد عناصر الجيش الروسي يتجاوز المليون وثلاثمئة ألف عسكري. وفي التقديرات لم يكن عدد مرتزقة البلاك ووتر في العراق يتجاوز الآلاف، فيما تعداد القوات الأمريكية وحدها في العراق تجاوز 130 ألف جندي.
فما حاجة هذه الدول لاستخدام قوات ومنظمات مرتزقة؟
هل الأمر يتعلق بالتكلفة؟
الحق فإن المسألة لا تتعلق بالتكلفة، فالتكلفة على أهميتها لا أولوية لها، ونحن حين ندقق في الأمر نجد أن الأمر يتصل ب “القذارة”، وبالأعمال التي يأنف “العسكري النظامي” أن يقوم بها، فالأعمال القذرة التي تريد الدول أن تقوم بها يُطلب من هذه الشركات والجماعات القيام بها، فالمرتزقة مختصون بتنفيذ الأعمال القذرة، كذلك فإن الجندي الذي يخدم في جيش بلاده يأنف أن يقوم بحراسة العملاء والمتعاونين مع قوات الاحتلال، فهؤلاء ليس لهم شرف أن ينالوا حمايته، فيقوم المرتزقة بهذه المهمة.
وحتى لا يفهم الأمر على غير حقيقته، فإن كل الأعمال التي تقوم بها قوى الغزو، والاحتلال، أعمال قذرة، لا يقوم الاحتلال ولا تقوم قوات الغزو بأعمال مشرفة أبدا، لكن دائما تخضع هذه القوات أينما وجدت لقوانين عامة، قوانين يفرضها عليها دستور بلدها وقانون تلك البلاد، أو يفرضها القانون الدولي، وهناك حدود لا يجوز تجاوزها. كذلك فإن هناك مبررات وشروط وإجراءات لا بد أن تنصاع إليها سلطات تلك البلاد من أجل تحريك أو استخدام القوات العسكرية للدولة، وهناك حقوق وحدود والتزامات تجاه الجندي في القوات المسلحة الوطنية أو في التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية المعتمدة في البلاد.
مع المرتزقة، تسقط كل القوانين، وتسقط كل القيود، وكل الحقوق، ويبقى العقد المبرم بين الطرفين هو الحكم، وبالتالي فإن المرتزق مدفوع بحكم هذا العقد للوصول لإلى الهدف بغض النظر عن أية مشروعية لهذا الهدف ، وكذلك إلى ضمان حياته، وما عدا ذلك فكل شيء مباح.
وحينما تتكشف ممارسات هؤلاء المرتزقة عن فضيحة لا يمكن سترها، تتولى الدولة التي يعمل تحت ظلها بتأمين التغطية إن كان مرتكب هذه الفضيحة من مواطنيها، أو إصدار العفو الخاص عنه، وهو ما تم فعلا مع مرتكبي مذبحة ساحة النسور بالعاصمة العراقية، أما إن كان مرتكبوها من غير مواطني تلك الدولة الراعية فتكون دماؤهم قد ذهبت هدرا.
4 ـ في التاريخ الحديث للمرتزقة
استخدام المرتزقة في العمليات والمهام القتالية القذرة ليس بالأمر الجديد، وفي العصر الحديث بعد أن بدأت مرحلة الاستعمار العسكري تنقشع، وصار استخدام القوات الأجنبية في الغزو والاحتلال غير مستحب بل ومدان، وصارت الانقلابات وتغيير الحكومات والسلطات القائمة يتم من خلال تلاعب الدول الكبرى المعنية بقوى الداخل في البلدان المستهدفة، عرفت مرحلة الستينات وما بعدها استخدام ” المرتزقة” لمثل هذه الأغراض، وباتت منظمات هؤلاء المرتزقة هي من يقوم بالانقلابات وبعمليات الاغتيال والاعتداءات، وبالغزو، وبارتكابهم مجازر بهدف الارهاب… الخ.
ولعل أشهر ما يذكر في هذا المجال “مرتزقة بوب دينار”، واسمه الحقيقي “جيلبير بورجيو ـ في بوردو”(1929 ـ 2007)، وهو العقيد السابق في الجيش الفرنسي، الذي أسس مجموعة مرتزقة بعدما أنهى خدمته في الجيش والأمن الوطني، ووضع مجموعته في خدمة السياسة الفرنسية والبلجيكية والإسرائيلية والأمريكية عموما، ونفذ عددا من الانقلابات في إفريقيا بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية والفرنسية، وشملت عملياته أربع انقلابات في أفريقيا، في جزر القمر، وأنغولا، وقبلها في الكونغو. وقام بتنفيذ عمليات اغتيال، كما قام بتقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات الإمامة في جبال اليمن عام 1962ضد الثورة اليمنية وضد القوات المصرية في اليمن، وكان تحت رعاية وتوجيه من أجهزة الاستخبارات الامريكية والإسرائيلية والسعودية.
ولعل مما يسمح لنا بوضع سيرة هذا المرتزق في الملف الذي نطل منه على منظمة المرتزقة الروسية “فاغنر” أن المرتزق الفرنسي، الذي قدم كل هذه الخدمات لفرنسا، وللغرب، تم اعتقاله وتقديمه للمحاكمة في فرنسا، حينما تطاول على مشغليه، ونفذ انقلابا في جزر القمر عام 1995 لا يتوافق مع السياسة الفرنسية، وقد ذكًر “بوب دينار” المحكمة الفرنسية التي حاكمته عام 1999 بتهمة ” مرتزق” بهذه المفارقة التي رآها غريبة.
مهم أن نذكر في هذا المقام أن استخدام المرتزقة في تلك المرحلة كان يتم سرا، كانت الدول تنفي علاقتها بجماعات المرتزقة هذه باعتبار مثل هذه العلاقة ” سُبًة” في جيبن تلك الدول، لكن الأمر تغير، وبات ـ منذ انتهاء القطبية الثنائية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ـ وجود مثل هذه الجماعات جزءا من عمل القطاع الخاص في هذه البلدان، واستخدامها يجري بعقود رسمية معلنة. وقد أسند إلى فاغنر إنشاء وتدريب ، والإشراف على تنظيمات مرتزقة في العديد من البلدان التي تعمل فيها، والتي تمثل مجالا حيويا للمصالح الروسية.
5 ـ فاغنر في بنية الدولة الروسية
تقول مصادر المعلومات إنه في العام 2014 أسس الضابط الروسي السابق “ديمتري لوتكين” المولود عام 1970 والذي شارك في حرب الشيشان الأولى والثانية، شركة فاغنر العسكرية الخاصة، ويقال إن اسم فاغنر هو الإسم الكودي / السري لمؤسسها “ديمتري لوتكين”، ويقال أيضا إن المؤسس أطلق عليها هذا الاسم نسبة للموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر.
وبغض النظر عن انطلاقة فاغنر، وسبب التسمية، فإن الأهمية التي أعطيت لهذه المجوعة ـ وفي روسيا مجموعات أخرى غيرها ـ جاءت بعد أن أشرف عليها، ودعمها، ومولها، “يفغيني بريغوجين” صاحب العلاقة المميزة مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والذي عرف باسم “طباخ الرئيس” بعد أن تولى توريد الطعام للكرملين، وقامت فاغنر بدور مهم خلال عملية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وقدمت دعما مكثفا للمجموعات الانفصالية في دو نباس.
وتدريجيا مدت فاغنر نشاطاتها إلى العديد من الدول الآسيوية والإفريقية، وفي بلداننا العربية كان لها دورا مميزا في سوريا وليبيا والسودان، وظهر وجودها ودورها في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وموزمبيق وبوركينا فاسو ومدغشقر، كما ظهرت في فنزويلا، وهي في كل هذه الدول كانت في خدمة أنظمة استبدادية ونفذت عمليات وارتكبت جرائم، وبسطت سيطرتها على مناطق الثروات الوطنية “البترول، الذهب، الآثار”.
والذي يتابع أعمال فاغنر في سوريا منذ التدخل الروسي إلى جانب نظام الأسد عام 2015، وفي ليبيا إلى جانب قوات الجنرال حفتر، وفي السودان منذ العام 2019، سيقف على الكثير من جرائم حرب وقتل واغتصاب وتصفية وإرهاب للمدنيين ارتكبتها هذه القوات.
وقد ظهرت مشاهد فيديو لهذه الجرائم يمكن استدعاءها، ورصدت تقارير استقصائية موثقة ـ يمكن العودة إليها ـ العديد من هذه الجرائم في كل هذه البلدان.
وفي كل مواقع وجودها كانت حركة فاغنر تعمل في ظل تحرك القوات الروسية، أو تحت ظل الدبلوماسية الروسية، أي أن موسكو كانت تؤمن الغطاء العسكري او السياسي لهؤلاء المرتزقة، وكان قائدها يحظى باهتمام ومكانة خاصة من الكرملين، وكان العسكريون الروس الذين يدركون طبيعة حكم الرئيس بوتين يتقربون أكثر من زعيم فاغنر، ويشاركون مباشرة أو بشكل غير مباشر في عمليات ونشاطات فاغنر، حتى بات القول بالتداخل بين بنية الجيش الروسي، وبنية فاغنر من حيث التسليح والانتشار والعضوية حقيقي إلى درجة محددة.
ولعل هذا الواقع هو ما دعا المراقبين ـ إبان أزمة التمرد ـ للقول باختراق فاغنر للجيش الروسي، والقول بوجود تجنيد سري من قبل فاغنر لعدد من الضباط والمسؤولين العسكريين الروس، وللإشارة إلى عدد من الضباط باعتبارهم منخرطين سرا في العمل مع فاغنر.
ومن هذه الزاوية فإن فاغنر نالت من رعاية الرئيس الروسي، ومن اهتمام القيادات الروسية ما لم تنله نظيراتها في الولايات المتحدة والدول الغربية.
5 ـ تصدع العلاقة بين النظام الروسي وفاغنر
هذه العلاقة الوثيقة بين فاغنر والنظام الروسي، التي وصلت إلى حد من التداخل غير مسبوق فاجأ تصدعها المراقبين، وكذلك أجهزة مخابرات الدول الكبرى التي كانت وما تزال تهتم بما يجري في روسيا، وهي رغم سعيها إلى التأثير على مجريات الأحداث والسياسات الروسية، إلا أنها مهتمة أشد الاهتمام بأن لا تحدث أزمة حادة في بنية الدولة الروسية، أزمة قد لا يستطيع العالم تحمل تبعاتها.
وقد كان وما زال مهما البحث عن تفسير لهذا التصدع، خصوصا وأن كل الشواهد والمعطيات والأسس كانت تسير في اتجاه مزيد من التعزيز بين جانبي العلاقة: النظام الروسي، ومنظمة فاغنر للمرتزقة.
لا شك بأن مسار عملية ” الغزو الروسي لأوكرانيا” ولد الظرف العام لتصدع هذه العلاقة، وللبدء في صياغة آلية جديدة، وصورة جديدة للعلاقة بين طرفي المعادلة: نظام الحكم، وفاغنر.
لقد بدا النظام الروسي مرتبك ومتناقض في تقديم المبرر السياسي والأخلاقي لهذه العملية، ما دفعه الى تغيير هذا المبرر المرة تلو الأخرى، وقد كشف زعيم فاغنر وفضح هذا الارتباك.
وبدا أن الجيش الروسي لم يكن مستعدا لحرب مستمرة منذ 24 فبراير 2022، وكان في مخططه أنها عملية أيام تصل فيها قواته إلى مشارف كييف، وتثمر عن تشجيع انقلاب داخلي يأتي بحكومة تابعة لموسكو، وتنهي من أسمتهم “بالقوى النازية في أوكرانيا”، لكن الأمر لم يجر على هذا المنوال، وفي ظل هذا التخبط في الرواية الروسية استطاع صمود الرئيس الأوكراني وحكومته من جهة، والدعم الهائل والمستمر العسكري والمادي من مجمل الدول الغربية، أن يحبط المسعى الروسي، وأن يحول الحرب في أوكرانيا إلى أخطر مأزق تمر به روسيا منذ حرب أفغانستان، وقد يكون أعمق تأثيرا من تلك الحرب وذلك بسبب العلاقات البنيوية والتاريخية والاجتماعية الخاصة بين البلدين.
في هذه الحرب الممتدة، ظهر الدور المميز لفاغنر، التي سبق أن قامت بدورها في حرب الدو نباس، وفي السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014.
وفيما كان الجيش الروسي يتهالك في الطريق إلى كييف، وأمام مدنها وبلداتها، ظهر دور المرتزقة، مقاتلو فاغنر، المدعومون من الرئيس بوتين، المتغلغلون في تركيبة الجيش الروسي نفسه، القادرون بما يملكون من إمكانات مادية لا تتوفر للقوات الروسية من اجتذاب قادة ومقاتلين من الجيش الروسي نفسه.
وحين بدا أن تعثر عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا حقيقيا، وأن منطق الغزو ومبرراته مهتزا، وظهر أيضا أن هناك قصورا في قدرة الجيش الروسي المضطرب على تأمين الدعم التسليحي اللازم لمقاتلي فاغنر في الميدان، بدأ زعيم فاغنر في إظهار غضبه من أداء قيادة الجيش الروسي في هذه الحرب، وصب جام غضبه على وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس أركانه فاليري غيراسيموف، وكبار قادة الجيش، وقام بتحريك آلاف من قواته من مناطق الصراع على الحدود مع أوكرانيا مستوليا على مدينة “روستوف” ومنشأتها العسكرية، وزاحفا باتجاه موسكو.
وفق أي منطق عسكري فإن تحرك هؤلاء المرتزقة يفتقد إلى الفهم وإلى الرؤية، ومهما بدا من تضعضع واضطراب قيادة القوات الروسية، وضعف القوات المسلحة الروسية، فإن هذا التحرك غير مجدي، ولن يصل إلى أي هدف، إلا إذا كان مرتبطا بانقلاب عسكري وهذا لأسباب عديدة غير ممكن في روسيا، ومثل هذا الانقلاب المتخيل خطر ومرفوض من القوى الدولية الكبرى التي تتحرك بحذر شديد إزاء روسيا الدولة النووية العظمى، والدولة المركزية الأوربية.
ويبدو أن الإدراك السياسي لزعيم فاغنر “يفغيني بريغوجين” وحساباته لقيمة علاقاته مع الرئيس الروسي، ومع النظام الروسي كانت متدنية، وغير واعية، لذلك جاء تمرده خائبا، وغير مجد، وأمكن بتدخل سريع من رئيس روسيا البيضاء الكسندر لوكاشينكو أن ينهي هذا التمرد، وأن يوفر ملاذا آمنا ـ ولو مؤقتا ـ لبريغوجين، وأن يضع فاغنر كلها ونظيراتها على طاولة المراجعة والتدقيق لإحكام ضبطها في إطار الدولة الروسية.
6 ـ آفاق أزمة فاغنر
صحيح بأن السلطات الروسية تجاوزت سريعا “التهديد” الذي مثلته فاغنر للنظام الروسي، ـ إن صح أنها كانت تمثل تهديدا له ـ، لكن بسبب أدوار فاغنر المعقدة، والممتدة في العديد من دول العالم، وبسبب المصالح التي ترعاها، وتوفرها لروسيا، وبسبب طبيعة الحرب الدائرة في أوكرانيا، وما كشفته هذه الأزمة بخصوص هذه الحرب على وجه التحديد، فإن “ملف فاغنر” ما زال حاضرا بقوة أمام الرئاسة الروسية. وأمام مجمل النظام والدولة الروسية.
طرحت القيادة الروسية حلا يقوم على دمج “مرتزقة فاغنر” في بنية الجيش الروسي، وبالتالي لا يعود لهذه المنظمة وجود، لكن هذا الحل الذي يبدو يسيرا هو شديد التعقيد لأنه يتطلب أن يقوم الجيش الروسي بالانتشار على كل المساحة التي كانت وما زالت فاغنر تنتشر فيها، فيكون مسؤولا مسؤولية مباشرة عن كل هؤلاء في كل هذه الدول، والقيام بكل المهام التي يقومون بها.
وهذا الأمر يتطلب أيضا أن يعاد تربية وتهيئة هؤلاء المرتزقة ليكونوا جنودا نظاميين، كذلك يتطلب التخلي عن المرتزقة المنتسبين إلى فاغنر من غير الروس.
تمرد فاغنر كشف عن مأزق حقيقي للقيادة الروسية، وللنظام السياسي الروسي، ليس من السهل تجاوزه أو حتى التعامل معه.
على القيادة الروسية أن تقدم صياغة أكثر اتقانا وأقناعا للحرب في أوكرانيا، فقد كشف التمرد تهافت القدرة العسكرية الروسية في هذه الحرب، كما كشف تهافت المنطق الروسي والتبرير الروسي لها.
على القيادة الروسية أن تعيد النظر في بنية “القيادة العسكرية للجيش الروسي”، التي ظهر ضعفها وعدم سيطرتها على مواقع القوات المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، وعلى هشاشة الأمن المتوفر في هذه القوات وحولها، والخطورة البالغة لهذا الأمر أنه يضع علامات خطر بشأن الأسلحة النووية، والأسلحة الدمار الشامل الأخرى “الكيماوية، والبيولوجية،..الخ” التي يمثل تهديد أمنها تهديدا لأمن العالم كله.
على القيادة الروسية أن تعيد النظر في تركيبتها وفي منطقها ولغتها السياسية ورؤيتها الاستراتيجية، فقد كشف تمرد فاغنر أنها بهذا الموضع والمكانة تتصرف بعقلية “فاغنر”، وليس بعقلية الدولة.
ولعل مما يشي بدقة هذا الوصف، إعلان رئيس روسيا البيضاء أنه حصل على وعد من الرئيس بوتين بعدم “اغتيال” زعيم “فاغنر” الذي لجأ الى بلاده
إن الفكر السياسي للرئيس بوتين، وطاقمه الأمني والسياسي بدءا من نيكولاي باتروشيف رئيس مجلس الامن القومي الروسي، والكسندر بورتنيكوف رئيس جهاز الامن الاتحادي الروسي، وسيرجي لافروف وزير الخارجية ومساعديه، …الخ، بالإضافة الى وزير الدفاع “سيرجي شويغو”، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف يحتاج إلى إعادة نظر.
إن هذا الفكر السياسي قاد إلى التدخل البشع في سوريا تأييدا لنظام أقل ما يقال فيه أنه “طائفي فاسد ومستبد وقاتلإ، وقاد إلى هذه الحرب المضطربة في أوكرانيا، التي دمرت الكثير من جسم المجتمع “الروسي والأوكراني”، وأوجدت شروخا في جسد شبه متجانس تاريخا وثقافة وبيئة ومحيطا جغرافيا.
إن هذا الفكر السياسي المنحط للكرملين جعل القادة العسكريين بلسان وزير الدفاع شويغو يفتخرون بأنهم جربوا خلال عمليات القصف في سوريا والتي دمروا فيها كل مظاهر الحياة والحضارة، للبشر والحجر والشجر، أكثر من 320 نوعا من الأسلحة لم يسبق تجربتها، من بينها القاذفات الاستراتيجية، وصواريخ كروز التي تطلق من الغواصات، وقاذفات اللهب الثقيل، وجعلت الرئيس بوتين يفخر بأن الحرب في سوريا قدمت أفضل تدريب حي للقوات الروسية.
ختاماً
قد يتساءل البعض هل من الممكن أن يؤدي تمرد “فاغنر”، إلى إجراء تغييرات حقيقية وجذرية في السياسة الروسية، وفي موجهات هذه السياسية…. الذي يعرف طبيعة النظام والقيادة الروسية يميل إلى اعتبار الأمر أشبه بالمستحيل، لكن لابد من هذا التغيير قبل أن تحدث كوارث لا يمكن ضبط نتائجها.