مقدمة الترجمة
غالبا ما يلقى صعود الهند الاقتصادي تشجيعاً واستحساناً لدى المحللين الغربيين، باعتبارها دولة حافظت على نظامها الديمقراطي ولم تنحدر مثل دول أخرى شبيهة -حتى وقت قريب- إلى النموذج الاستبدادي. لكن نبوءة صعود الهند لم تتحقق أبدا رغم تكرارها على مدار عقود، وهو ما يكشف عوارا واضحا في الافتراضات التي قامت عليها. يسعى ميلان فايشناف، مدير برنامج جنوب آسيا في معهد كارنيغي للسلام الدولي، في مقاله المنشور بمجلة “فورين أفيرز”، إلى استكشاف الثغرات في هذه النبوءة، من خلال مراجعته لكتاب “الهند المعطوبة” من تأليف أشوكا مودي، وهو كتاب مهم ومفيد في فهم التعثر الواضح في مسيرة صعود الهند.
نص الترجمة
ليست هناك عبارة مُكرَّرة أوسع انتشارا أو أطول استمرارا، ضمن الكليشيهات الكثيرة التي عجَّت بها تحليلات السياسة الخارجية في العقود الأخيرة، من تلك التي تتحدث عن صعود الهند الحتمي. لطالما سَعَت الهند للخروج إلى دائرة الضوء جيوسياسيا، مُستندة إلى أسس الديمقراطية الليبرالية، ومُعزَّزة بتعدادها السكاني الكبير الموزَّع على مساحة شاسعة، وبتمكين من الولايات المتحدة ورغبتها في إيجاد ثقل موازن للصين صاحبة التطلُّعات التوسُّعية كما يعتقد الأميركيون. وقد أدى عدد من الأحداث الأخيرة إلى إقناع بعض المراقبين -ولعل القيادة الهندية ذاتها منهم- بأن تلك اللحظة المُنتظرة قد حانت.
بحسب صندوق النقد الدولي، من المُقرر أن يصبح الاقتصاد الهندي الأسرع نموا في العالم عام 2023، ومن المتوقع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 6.1%، وهي نسبة أعلى من متوسط نمو الأسواق الناشئة الذي يبلغ 4%، وأعلى بخمس مرات من معدل النمو الصناعي عالميا البالغ 1.2%. وعلى خلفية تباطؤ الصين الطويل، وعثراتها بسبب سياساتها حيال جائحة “كوفيد-19″، وارتفاع تكاليف العمالة فيها؛ فإن الشركات العالمية التي أبدت اهتماما بإعادة توزيع مصانعها، بما فيها شركتا أبل وفوكسكون، تنظر في توسيع عملياتها في الهند.
إن تعداد الهند السكاني المتنامي -البالغ بحسب أحدث التقديرات 1.41 مليار نسمة- من المرجح أن يفوق نظيره الصيني في أي لحظة من المستقبل القريب (تتوقع الأمم المتحدة أن يحدث ذلك مطلع يوليو/ تموز المقبل)*، كما أن 40% من السكان في الهند دون 25 عاما، ولذا فإن القوة الشبابية النسبية في الهند عنصر مهم، ليس فقط بسبب الدفعة المحتملة التي توفرها للإنتاجية الاقتصادية، ولكن أيضا بسبب ما تمثله بالنسبة لقاعدة المُستهلكين الكامنة في العقود المقبلة. ويتصدَّر المستهلكون الشباب في الهند توقعات النمو لكثير من الشركات في قائمة مجلة “فورتشن” لأكبر 500 شركة عالميا، يساعدهم في ذلك امتلاكهم للهواتف الذكية، وتعاملهم مع نظم الرواتب الرقمية، وتقبلهم الثقافي للعلامات التجارية العالمية مثل كوكاكولا ونتفليكس.
على مدار تاريخها، حدَّت التقلبات السياسية للهند من قدرة البلاد على توسيع بنيتها التحتية، وإصلاح قوانين الضرائب واللوائح التنظيمية للأموال، وتحسين وسائل الرفاهية الأساسية، بيد أن تلك القواعد لربما تتغيَّر حاليا. لقد فاز حزب “بهاراتيا جَنَتا” (Bharatiya Janata)، وزعيمه رئيس الوزراء “نارندرا مودي”، بالأغلبية البرلمانية مرتين متتاليتين في عامي 2014 و2019. ومثَّل فوز الحزب، إلى جانب تراجع خصمه حزب “المؤتمر الوطني الهندي”، ضمانا لاستقرار الحكومة في المستقبل القريب. إن الحكومات الهندية الأضعف في السابق غالبا ما اضطرت إلى الموازنة بين الأجندات المتنافسة لأجنحة الائتلافات الحاكمة وعقد مساومات شاقة تسبَّبت في التقاعس والجمود. أما الآن فمن المؤكد إلى حدٍّ كبير أن حزب “بهاراتيا جَنَتا” سيحتفظ بالسلطة في الانتخابات العامة عام 2024، والسؤال الوحيد الجدير بالنقاش هو حجم الأغلبية التي سيحققها. وبسبب إحكام الحزب قبضته على البرلمان، فإن لديه الثقل السياسي الضروري للمُضي قُدُما في الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها.
ومع ذلك، إذا ما أمعنَّا النظر، فستبدو السردية التي تروِّج لصعود الهند الحتمي سردية هشة. إن التعامل مع تناقضات الهند جهد ذهني ينطوي على هضم عناصر متنافرة. اقتصاديا، يُعَدُّ وضع الهند مُختلطا، فهي تسير بخُطى ثابتة لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول نهاية العقد الحالي، ومن ناحية أخرى تعثّر نموذجها التنموي المُعتمِد على الخدمات بسبب ضعف نمو فرص العمل، وتراجُع الصناعة السابق لأوانه، ووجود قطاع واسع من الاقتصاد غير الرسمي. أما سياسيا، فقد وُصِفَت الهند يوما بأنها منارة الديمقراطية اللامعة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لكنها أيضا واحدة من أكثر دول العالم المُخيِّبة للآمال والمُرتدة عن المعايير الليبرالية، إذ تتنامى فيها هيمنة الأغلبية الهندوسية على الأقليات، وضعف الفصل بين السلطات، وتكميم المنابر الإعلامية.
قليلة هي الأنظمة الديمقراطية التي يُمكنها مضاهاة تدابير التمييز الإيجابي التي يوفرها الدستور الهندي للفئات المُستضعفة تاريخيا، أو مجاراة التنوُّع الموجود في صفوف قيادات الدولة الهندية. ومع ذلك، فإن المسلمين في مدن الهند يجري حصرهم في مجتمعات مغلقة على نفسها أكثر فأكثر، كما تُشكِّل النساء نسبا ضئيلة من القوى العاملة، وحتى مع الحظر القانوني لوظيفة كاسح المجاري -التي يزيل فيها العاملون الفضلات البشرية يدويا- فإنها لا تزال موجودة على نطاق واسع، ومعظم العاملين فيها يُصنَّفون من الطبقات العاملة.
من بين كل هذه السرديات المتباينة والمتشابكة، خرج كتاب جديد من تأليف المؤرخ الاقتصادي الأميركي-الهندي “أشوكا مودي”، وقدَّم قراءة نموذجية تصف نصف الكوب الفارغ في رؤية العالم للهند. يهدم كتاب “الهند المعطوبة” (India is Broken) بصورة منهجية النسخة الجاهزة واسعة الانتشار لقصة الهند التي يستحضرها المديرون التنفيذيون والسياسيون في المؤتمرات الدولية البراقة مثل “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس. ويأخذ الكتاب القُراء في جولة لتفحُّص الجانب المظلم من الهند، حيث يستشري الفساد، وتوجد الديمقراطية نظريا فقط وليس عمليا. وتركز الكثير من الانتقادات الأخيرة الموجهة لمسيرة الهند على القومية الهندوسية وصعود حزب “بهاراتيا جَنَتا”، بينما يذهب المؤرخ مودي إلى ما هو أبعد، رابطا بين إخفاقات حكومات الهند المتعاقبة منذ الاستقلال، التي تناوب على قيادتها حزب المؤتمر الهندي وبهاراتيا جَنَتا وأحزاب محلية أخرى صغيرة، وواضعا يده على الجذور العميقة لمشكلات الهند.
ليس كل ما يَلمعُ ذَهَبا
قضى مودي، المؤرخ الاقتصادي الذي وُلِد في الهند ويعمل حاليا بجامعة برينستون الأميركية، عقودا في البنك الدولي وصندوق النقد يتحرَّى حلولا للأزمات الاقتصادية العالمية. وفي اليوم الذي حصل فيه على الجنسية الأميركية، قال والده إن ابنه “سيظل دائما هنديا في صميمه”. إن ذاك الرابط الحميمي بوطنه الأم هو ما يدفع إحساس مودي بالغضب، إذ إنه يعالج موضوعه المتناول في كتابه مُسلَّحا، ليس بمشرط طبي ينوي به تشريح التصورات التقليدية عن الهند، بل بمطرقة يحطم بها هذه التصورات تحطيما.
تجذبنا أطروحة مودي ببساطتها، فبعد 75 عاما من الاستقلال، أصبحت ديمقراطية الهند واقتصادها معطوبَيْن حتى النخاع. لربما تتميز الهند بانتخابات تنافسية بحضور أكثر من 600 حزب سياسي ونسب مشاركة مرتفعة للناخبين وتداول منتظم للسلطة، بيد أن المؤرخ مودي يتجاهل مثل هذه الممارسات الديمقراطية باعتبارها مؤشرات قاصرة لصحة الديمقراطية. وبدلا من ذلك، فإنه يشير إلى أن “ضعف القواعد والمساءلة جعل القوانين والمؤسسات الديمقراطية لُعبة في يد ذوي النفوذ والسلطة”. واليوم، أصبح السلوك “الإجرامي” والعمل للمصلحة الفردية شرطين أساسيَّين تقريبا للنجاح سياسيا في الهند، إذ يواجه أربعة من أصل كل عشرة أعضاء منتخبين في البرلمان قضايا جنائية غير محكوم فيها تزامنا مع انتخابهم، كما أن ثمانية من أصل كل عشرة ينتمون إلى طبقة المليونيرات، ويرى جميعهم تقريبا أن الإنفاق المُسرِف على الدعاية الانتخابية مجرد دُفعات مُقدَّمة يجب دفعها في مقابل عائدات مستقبلية هائلة.
أما ما يتعلق بالاقتصاد الهندي المُحتفَى به عادة، فيتجنَّب مودي الهَوَس التقليدي لدى رجال الاقتصاد بالناتج المحلي الإجمالي، ويُركِّز بدلا من ذلك على مدى إتاحة فرص العمل ومستوى التنمية البشرية. وفي هذا الصدد، يجادل مودي بأن الهند فشلت مرارا في خلق فرص عمل كافية لتلبية حاجة سوق العمل أو لتوفير الخدمات العامة ذات الكفاءة، مثل الصحة والتعليم، التي من شأنها تزويد المواطنين بالمهارات الحياتية الأساسية. كما يقول مودي إن معاناة العمالة الهندية قديمة قِدَم الجمهورية نفسها، حيث يُقدِّر النقص في فرص العمل عام 1995 بنحو 25 مليون وظيفة، كما يقدر ذلك النقص عام 2019 بـ80 مليون وظيفة على الأقل، مُرجِّحا أن الرقم قد يكون أعلى بكثير بعد جائحة “كوفيد-19”.
رغم تحقيق نتائج ملموسة في مكافحة الفقر، لم تحقق الهند تقدما مماثلا على صعيد المعايير الأساسية لمستوى المعيشة، إذ لا تزال معدلات سوء التغذية مرتفعة بشكل مُستعصٍ حتى في المناطق الميسورة من البلاد، ففي ولاية “تاميل نادو” النشطة اقتصاديا، يعاني 30% من صغار السكان من سوء التغذية، وهي نسبة أعلى بـ10% من نسبة سوء التغذية في فيتنام، رغم تشابه مستويات الدخل الشهري للمواطنين في كلتا الدولتين.
يلوم المؤرخ مودي الجميع في رثائه وبكائه على اقتصاد الهند وديمقراطيتها المعطوبين. إنه يعترف أن رئيس وزراء الهند الأول، جواهر لال نِهرو، كان “زعيما محبوبا ولم يسعَ لمكاسب شخصية أو مكانة رفيعة”، لكنه يُقرِّع نِهرو “لوضعه رهاناته كلها على الصناعات الثقيلة وحدها، وهي الإستراتيجية التي لم تخدم الأعداد الغفيرة التي كانت بحاجة إلى وظائف”. أما ابنة نِهرو وخليفته السياسية، إنديرا غاندي، فقد “أسست لوجودها على أنها تلك السياسية الساخرة، والمروجة للشعارات، والعازمة على التمسك بالسلطة”. ومع افتقار إنديرا غاندي لأي أيديولوجيا اقتصادية أو سياسية متماسكة، فإنها “رأت أن الحفاظ على وجودها في السلطة هدفها الأساسي”.
لعل رئيس الوزراء الهندي الحالي محبوب لدى المجتمع الدولي، لكنه أقرب لكونه “بطلا شعبيا” لدى مُعتنقي “الهِندوتڤا”، أيديولوجيا القومية الهندوسية التي تأسس عليها حزب “بهارتيا جَنَتا”، الذي قامت وعوده الاقتصادية ليس على تعزيز الشركات الناشئة، بل على “دعم رجال الصناعة المُفضَّلين” لديه. إن تقييم المؤرخ مودي الكئيب أخذه إلى رؤية أوجه شبه بين الهند اليوم وبين “الانقسامات بين الهندوس والمسلمين وانعدام المساواة الاقتصادية الصارخة” في السنوات العجاف التي سبقت التقسيم الدموي لشبه القارة الهندية عام 1947. إذا ما كانت اللحظة الحالية هي بالفعل لحظة خروج الهند إلى دائرة الضوء كما تقول التوقُّعات، فإن ذلك الخروج يحدث على الأرجح للأسباب الخاطئة تماما.
عند النظر إلى نموذج الهند المَعيب في التنمية، فهناك الكثير من النقاط للاختيار بينها. إن النظام الفيدرالي، وضعف قدرة الدولة، وتدخلات مؤسسات المساءلة في نيودلهي، بما فيها “لجنة اليقظة المركزية” (وكالة لمكافحة الفساد) والرقابة الإدارية والمالية (التي تُدقق في الإنفاق الحكومي)، قد عرقلت جميعها نمو الهند. ويلقي المؤرخ مودي باللوم على طرف آخر، مجادلا بأن ضعف أداء الهند سببه الأفكار لا المصالح أو المؤسسات. ويبني مودي إدانته للنخبة السياسية الهندية بالإفلاس الفكري على تهمتين: أولاهما أن قادة الهند لم يلتزموا قط باقتصاد قائم على السوق، ولم يتبنوا قط قناعة أساسية بالحاجة إلى توفير الخدمات العامة الأساسية للمواطنين.
النموذج الهندي.. بدايات غير موفَّقة
من وجهة نظر المؤرخ مودي، كانت معتقدات نِهرو الاقتصادية المَعيبة هي الخطيئة الأولى التي وضعت الهند على طريق البطالة المتنامية. لطالما صوَّب النقاد سِهامهم تجاه نِهرو بسبب نشره الجريء لـ”الاشتراكية الفابية” كما عُرِفَت، تلك الأيديولوجيا التي جمعت بين التشكيك في اقتصاد السوق وتبنِّي الصناعات الثقيلة بقيادة الدولة. وكان نِهرو يأمل في أن يُحفِّز هذا النموذج الاقتصادي الاستثمار ونمو الاكتفاء الذاتي في الهند بعد الاستعمار.
ويجادل مودي بعيدا عن هذه الحكمة الشائعة بأن “نِهرو سواء كان مفتونا بالاشتراكية الفابية أو الأيديولوجية السوفيتية أو التزامه المُعلن بالعدالة والمساواة، فإنه لم يُطبِّق أيًّا منها”. لقد كان نِهرو في الواقع من مريدي إستراتيجية التصنيع القائمة على “الدفعة القوية” التي روَّج لها الاقتصادي “بول روزِنشتاين رودان” ومنظِّرو نظرية التحديث أمثال “والت روستو”. وبحسب ما صاغ نِهرو الأمر بنفسه، فإنه اعتقد أن الصناعة الهندية ستكون “ذاتية التغذية وذاتية الدفع وذاتية النمو”.
يذكر المؤرخ مودي في كتابه أن نهج نِهرو المتعنت في الالتزام بمثل هذا النموذج التنموي تسبَّب في تضييع فرصة ذهبية لمحاكاة نجاح اليابان في نهضة “مَيجي”، التي ارتكزت على تفعيل دورة تعليم عالية الكفاءة، وتعزيز استثمارات في الإنتاجية الزراعية والتصنيع المحلي، بالإضافة إلى السعي الحثيث للتصدير إلى السوق الأجنبية. ويضيف مودي في كتابه أن نِهرو كان شديد الافتتان بجهوده لبناء مصانع صلب ضخمة ومحطات كهرباء وسدود إلى الحد الذي جعله ينأى بنفسه عن الدخول في مفاوضات مع الجهات البيروقراطية المعقدة من أجل التمويل والحفاظ على التعليم الأساسي.
لقد أثبت كلٌّ من النظام الصناعي الاحتكاري، والقيود على الواردات، ونظام ترخيص الشركات المُرهق الذي بناه نِهرو أنه جذاب سياسيا بالنسبة لابنته إنديرا غاندي، للدرجة التي لم ترغب معها في التخلص من أيٍّ منها. ومن ثم ازدهر في عهدها نظام “راج” لترخيص الشركات، وضُيِّق الخناق على الشركات الخاصة الناشئة، وكانت الخدمات العامة للمواطنين أمرا ثانويا. وعندما سُئلَت إنديرا عن أوجه عجز الهند فيما يتعلق بالتنمية، جاء ردها بتعليق ساخر شهير قالت فيه: “لا أعلم مدى أهمية محو الأمية. ماذا قدَّمت للغرب؟”.
كان احتمال الإفلاس السيادي عام 1991 وحده هو ما دفع الهند نحو الانفتاح الاقتصادي وتبني إصلاحات تحرُّرية كبيرة، وهو الحدث الانتقالي الذي يفاجئنا المؤرخ مودي بالتقليل من أهميته. بحسب سردية مودي في كتابه، لم تنطوِ عملية التحرر تلك إلا على خطوات اتُّخِذَت على مضض لتعزيز اقتصاد السوق، ونتجت عنها “إستراتيجية نمو اقتصادي محدودة ومتناقضة”. أما نِسَب انخفاض الفقر التاريخية التي ساعدت في تحقيقها طفرة النمو في الهند بعد عام 1991، فيذكُر مودي أن رفع ملايين المواطنين فوق خط الفقر بقليل، وهو خط فقر متواضع يبلغ 1.90 دولار يوميا، لم يكن سوى “تجاهل لمشكلة الفقر في البلاد”.
لا يرى مودي، بعد ثلاثة عقود من الانفتاح الاقتصادي في الهند، أي علامات على التزام أيديولوجي بالسوق الحرة أو أساسيات التنمية البشرية. وبحسب المؤرخ مودي فإن “نموذج كوجرات” الذي ينطوي على الاستخدام المفرط للضرائب والأراضي وحوافز القروض لجذب استثمارات الشركات الكبرى، الذي روَّج له رئيس الوزراء مودي أثناء انطلاقته من مجرد سياسي محلي داخل الولاية إلى أعلى منصب منتخب في البلاد؛ هو في الحقيقة “تنمية نشطة قائمة على النهب”. إن المؤرخ مودي لم يُبهِره حتى سِجِل الاستثمارات الذي حققته حكومة رئيس الوزراء على صعيد التوزيع العام للخدمات الخاصة، مثل الحمامات، وأسطوانات الغاز، وتوصيل الكهرباء، إذ يبدو كل ذلك بالنسبة للكاتب منافع رمزية ساعدت في الفوز بالانتخابات، وليست حلولا دائمة لمتاعب التنمية البشرية في الهند.
يصعب فهم انتقادات مودي للديمقراطية الهندية فهما عميقا. لكن يبدو أن حجته الأساسية هي أن سياسيي الهند الذين يتمتعون بالكاريزما قد غطوا على أزمتيْ الهند الأكبر وهُما نقص فرص العمل وضعف التنمية البشرية، جنبا إلى جنب مع خلطهم الشعبوية والمحسوبية بالسياسات القائمة على أساس الهوية. لربما سعى نِهرو سعيا حثيثا كي يتبنى أخلاقيات الديمقراطية في الهند المستقلة حديثا، لكن إخفاقاته الاقتصادية أجَّجت القلق والاحتجاج الاجتماعي على نطاق واسع. لقد كانت المؤسسات الهندية متماسكة طوال فترة وجود نِهرو في السلطة، لكن تحت إدارة شعبوية مثل حكومة إنديرا غاندي، استُخدِمَت الاضطرابات الاقتصادية والسياسية ذريعة لتقويض المؤسسات الديمقراطية. ففي عام 1975، بدأت إنديرا تحكم بقانون الطوارئ لمدة عامين تقريبا جرى فيهما تجميد الانتخابات وتعليق الحريات المدنية الأساسية. ومن وجهة نظر المؤرخ مودي، كان لإنديرا دور محوري في الاضمحلال الديمقراطي للهند، إذ إنها قوَّضت عَمْدا قواعد الديمقراطية.
رغم أن انزلاق الهند نحو الحكم الاستبدادي الصارخ لم يدُم طويلا، فإن الفساد وتقويض المؤسسات أصبحا هما الوضع العادي الجديد. لقد وفَّر القلق الاقتصادي مجالا واسعا لسياسات الاستقطاب السامة حول الهوية، لا سيَّما تلك التي تقوم على أسس دينية. وبحسب المؤرخ مودي، سَلَك “شباب الهند الغاضب” مسارات متعددة، بداية من أنصار السياسات الشوفينية لحزب “شيف سِنا” (Shiv Sena) المتطرف، وحتى العصابات التي هدمت مسجد بابري عام 1992، مرور بجنود حركة “هِندوتفا”، الذين وضعوا نصب أعينهم هدف قتال شياطين وهمية مثل “جهاد النكاح”، وهي نظرية مؤامرة تقوم على أن رجال المسلمين يقومون بإغواء النساء الهندوسيات بغرض إعلان إسلامهن. وفي هذا الصدد، يُظهر المؤرخ مودي قليلا من التعاطف مع سياسيي الهند العلمانيين، الذين كان التزامهم بالمُثُل الليبرالية، في نظره، مجرد التزام ظاهري، في حين أنهم انقادوا وراء المصالح الدينية باسم الاعتبارات السياسية في النهاية.
تصحيح النقاش حول الهند
معظم الولايات الهندية بؤر لانعدام الحريات ولضيق الأفق ولسياسات المحسوبية. وإن دلَّ الأمر على شيء، فإنه يدل على أن ما يحدث اليوم على مستوى البلاد مجرد تكبير لنموذج ابتُدع بداية في عواصم الولايات الهندية. (غيتي)
هل من مخرج للهند من هذا النفق؟ لم يذكر المؤرخ مودي وصفات سياسية تفصيلية، لكنه دعا إلى تبني مبادئ إصلاحية واسعة. إذ يتعيَّن على الهند ترسيخ الديمقراطية عن طريق تعزيز أكبر للامركزية حكومات الولايات والقُرى، حيث يستطيع السكان المحليون بسهولة مساءلة قادتهم. بالإضافة إلى ذلك، يدعو مودي إلى الاستفادة من قوة المجتمع المدني لبناء “مجتمعات أهلية” يمكنها تبني قواعد المساواة والتسامح والتقدم المشترك.
وفي هذا الصدد، يجد مودي إلهاما في عمل أستاذ السياسة بجامعة هارفارد “روبرت بوتنام”، الذي يؤكد أهمية الدور الديمقراطي للجمعيات الأهلية، والمؤسسات غير الربحية، والمنظمات المهنية، والجمعيات التعاونية. ويسعى المبشرون بالتقنية جاهدين للترويج إلى قدرات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والهواتف الذكية على تحسين مستوى الرفاه، بيد أن المؤرخ مودي ليس مقتنعا بذلك تماما، فقد تكون التكنولوجيا مفيدة، لكنها ليست بديلا عن الموارد المالية والعمل الاجتماعي والثروة البشرية.
إن مودي كاتب موهوب، ويُعَدُّ كتابه “الهند المعطوبة” كتابا استثنائيا يُشرِّح اقتصاد الهند السياسي المُعقَّد إلى أجزاء أصغر يسهُل استيعابها. لكن هنا تكمُن أبرز نقاط ضعف الكتاب، إذ يأتي تحليل مودي مدعوما بثنائيات بسيطة لا تخضع دائما للتدقيق. يوضح مودي أن مصيرا أفضل للشعب الهندي أمكن أن يتحقق لو أن قادته سعوا نحو نموذج التصنيع القائم على التصدير والعمالة الكثيفة، الذي تبنّته جارات الهند في شرق آسيا، لكنْ هناك فارق رئيسي: لقد كانت “نمور” شرق آسيا الناجحة نُظُما استبدادية كلها حينما لجأت إلى ذلك النموذج الجديد، ما سمح لهم بقمع العمالة، وسن قوانين إصلاح الأراضي الشاملة، والمراقبة الدائمة للمجتمع المدني. بل على العكس، بإدراك متأخر، يبدو نمو الهند باعتبارها ديمقراطية أكثر إثارة للإعجاب، فكما أشار عالما الاقتصاد “روهيت لامبا” و”أرفيند سُبرَمَنيان”، فإن الهند منذ عام 1950 هي الديمقراطية الوحيدة المستمرة التي حافظت على معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي ما بين 3% و4.5% طوال أربعة عقود (وهو ما حققته الهند منذ انطلاق نموها عام 1980).
يُعَدُّ انتقاد المؤرخ مودي لسجل التنمية البشرية البائس في الهند مُقنعا، لكن في السياق ذاته، فإن غضبه في غير محله. بموجب الدستور الهندي، تقع مسؤولية الخدمات العامة المهمة مثل القانون والنظام، والصحة العامة، والصرف الصحي، على عاتق حكومات الولايات الهندية، لا السلطات المركزية. وتوفر نيودلهي توجيهات للسياسات العامة وموارد مالية أوسع، لكنها في النهاية تعتبر الولايات مسؤولة عن التنفيذ. ولا يخفى على أحد أن معظم الولايات الهندية بؤر لانعدام الحريات ولضيق الأفق ولسياسات المحسوبية. وإن دلَّ الأمر على شيء، فإنه يدل على أن ما يحدث اليوم على مستوى البلاد مجرد تكبير لنموذج ابتُدع بداية في عواصم الولايات الهندية.
علاوة على ذلك، يظهر إغفال المؤرخ مودي لمكاسب الهند التنموية في العقود الثلاثة بعد تحرير اقتصادها أمرا قاسيا. منذ عقود مضت، حذر الديمُغرافيون من “القنبلة السكانية” الموقوتة في الهند. ومع ذلك، انخفضت معدلات الخصوبة انخفاضا حادا حتى هبطت إلى أقل من مستويات الإحلال، وهو نجاح في تنظيم الأسرة لم يلقَ التقدير الكافي. كما أن النساء اللائي ينخفض تمثيلهن انخفاضا كبيرا في القوى العاملة (آفة بشعة يعاني منها نموذج الهند الاقتصادي) يخرجن الآن للتصويت بأعداد أكبر من الرجال في معظم الانتخابات على مستوى الولايات، أضف إلى ذلك أن معدل الذكور الهنود الذي طالما كان مرتفعا مقارنة بالإناث بدأ يتجه نحو التوازن.
ينتقد المؤرخ مودي المناورة الحكومية الحالية لتكثيف توزيع الخدمات الخاصة باعتبارها حيلة لحشد أصوات الناخبين، بيد أن الأبحاث من دول أخرى شبيهة تُظهر أن سهولة الوصول إلى غاز الطهي النظيف والكهرباء والمياه الجارية يمكنها تحسين فرص التوظيف والمعايير الصحية وتوزيع الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسر تحسينا كبيرا، كما أن تلك الخدمات الأساسية شروط لبناء قاعدة البلاد الصناعية في نهاية المطاف.
بوضع أوجه القصور هذه جانبا، يُعَدُّ كتاب “الهند المعطوبة” تصحيحا مفيدا للنقاش المتحيز والسطحي عن الهند الذي غالبا ما يدور في المؤسسات الفكرية ومجالس إدارة الشركات. وبالكشف عن مواطن الضعف المتأصلة في النموذج الهندي، يبعث المؤرخ مودي أيضا برسالة لصُناع السياسات الغربيين الذين راهنوا رهانات كبيرة على قدرة الهند لكي تكون حائط صدّ اقتصاديا وسياسيا وإستراتيجيا في مواجهة الصين وغيرها من الدول الاستبدادية. لربما يُروَّج للهند بوصفها “العملاق القادم”، لكن كما هو الحال في أي حملة تسويقية، حريٌّ بالمرء قراءة التفاصيل الصغيرة.
* توضيح المترجم
المصدر: الجزيرة. نت