شاعت في الأسابيع الأخيرة التأكيدات على أن الأسد انتصر، مصحوبةً بتلميحات عن كون التطبيع العربي معه أتى بغطاء أمريكي، وهكذا تكون عودته إلى الجامعة العربية تتويجاً رمزياً لانتصاره، في اتتظار ترجمة الغطاء الأمريكي المفترض إلى أفعال تالية تصبّ في مصلحته. فلماذا لم يحتفل مؤيدو الأسد، ولو على نحو محتشم وهادئ يشبه احتفال إعلام الدولة المضيفة للقمة بقدرة قيادته على إتمام “المصالحة العربية” بعد عجز دول مضيفة لقمم سابقة؟
سادت أجواء الخيبة في أوساط المعارضة السورية، وخرجت مظاهرات في مناطق تواجدها يعبّر من خلالها معارضو الأسد عن غضبهم من الخطوة السعودية، مع التأكيد على أن هذه المظاهرات تعكس حقاً أجواء الإحباط السائدة. وهذه فرصة للجهة المقابلة، كي تعمّ مظاهر الفرح، ولو على سبيل النكاية والشماتة بالمعارضين. في الواقع، معظم الذين عبّروا عن الشماتة على وسائل التواصل الاجتماعي لا يحسبون أنفسهم على مؤيدي الأسد، ولهم من مواقعهم ثارات مختلفة مع المعارضين، منها مثلاً “لا حصراً” ما يتصل بالانقسام العربي-الكردي. هذا يعيدنا مرة أخرى إلى السؤال: لماذا لم يحتفل مؤيدو الأسد بالنصر؟
لنتخيّلْ معارضاً، مدفوعاً بإحساسه بالهزيمة، يبادر صادقاً إلى تهنئة مؤيدي الأسد بانتصارهم. هذا وارد في جميع الصراعات، والأهلية منها أيضاً، غير أن مؤيد الأسد في حالتنا لن يفهم هذه البادرة إلا على سبيل السخرية منه، ومن طبيعة الانتصار الذي تحقق له. ولا يُستبعد من بعض المؤيدين لا كلهم، بدل التنعم بإحساس النصر، تمضيةَ الوقت في تقريع المعارض المهزوم لأنه تسبب بجميع الكوارث التي حلّت بالبلد، وهكذا يظهر البعض عازفاً عن الاحتفال بنصره، بل كأنه يتعمّد عدم الخوض فيه!
الملاحظ لدى قلّة من الأوساط المؤيِّدة “التي عبّرت عن رأيها بقرار الجامعة العربية” أن السائد هو عدم الاكتراث، وهذه اللامبالاة لا تعكس عداءً للجامعة على خلفية قرارها السابق تجميد عضوية الأسد. هو عدم اكتراث ناجم عن معرفةٍ بأن قرار الجامعة لن يقدّم أو يؤخّر في أحواله، والأسد لم يخسر في السنوات نفسها مقعد سوريا في منظمة الأمم المتحدة، وهذا هو الأهم على صعيد ما يُسمى الشرعية الدولية، رغم أنه أيضاً لم يقدّم فائدة تُذكر لمؤيديه. ويُثبت وجاهة اللامبالاة أن المطمع الوحيد باستعادة العلاقة مع بعض دول الخليج لم يخلّف الآثار الاقتصادية المرجوة، فقيمة الليرة بقيت في تدهور رفقةً بالتردي المعيشي الشامل.
لقد أجبرت كلفة النصر مؤيدي الأسد على فهم المعنى البسيط، والذي يُختصر بأن انتصاره لا يعني بالضرورة انتصارهم هم. لقد اتتصر الأسد، بأضيق ما يمثّل من بطانته وشبيحته، وتكرّس جانب رمزي من انتصاره بدعوته إلى “قمة جدة”. ونضيف أنه يستحيل منطقياً أن يكون اتتصار الأسد انتصاراً للشريحة الواسعة من مؤيديه، بل لا بد أن يكون على حساب هذه الشريحة بموجب المنطق البسيط أيضاً الذي يقضي بوجود مَن يدفع ثمن النصر المزعوم. التذكير بذلك يبدو ضرورياً لكثرة ما يجري تصوير الصراع وكأنه مباراة في الملاكمة بين المعارضة والأسد، انتصر فيها الثاني بالضربة القاضية، مع أن المفهوم الأقرب لانتصاره هو انتصار أمراء الحرب وأثرياؤها على حساب النسبة الساحقة من المتضررين.
أما الأسد وحلقته الضيقة فليسوا، لأسباب مختلفة، في وارد الاحتفال، وتعبيرهم عن الاستهانة بالجامعة العربية فيه ما هو ثأري بسبب القرار السابق بتجميد العضوية، لكن فيه ما هو أصيل ومستدام لجهة رفض فكرة النصر النهائي. فالأسد، حسب دعايته الدائمة والموروثة، دائمُ الانتصارات، وهو في الوقت نفسه لا يحقق الانتصار المنشود. إنه وفق ذلك يتصدى على التوالي للمؤامرات التي تُحاك ضده، وأقطاب المؤامرة الكونية لن يكفّوا عن التآمر مثلما لن يتوقف هو عن النصر. وهكذا يستمر الحال من جولة لأخرى، وبلا نهاية، لأن الحديث عن النهاية يستوجب إعفاء محكوميه من الاستمرار في دفع الثمن. قد يبدو هذا هزلياً لكنه الواقع تماماً؛ لو ذهب أقطاب المؤامرة الكونية المزعومة صاغرين إلى الأسد، وأعلنوا فشلهم وتوبتهم النهائية، فلن يقبل بهذا الاتتصار وسيكون له شروط تعجيزية، لأن فكرة الانتصار تقوّض الركن الأهم لسلطته، والذي به يواصل استنزاف محكوميه بلا هوادة.
رفضُ الأسد فكرة الانتصار يشرح ما يقوله كثر عن أن بقاءه وصفةُ حرب، فهو قولٌ لا يدخل في دعايةٍ معارِضة بل يشرح جوهر حكم الأسد الذي لم يتمكن من البقاء بلا خطاب الحرب، ولا يمكنه ذلك الآن أو مستقبلاً. والمسألة ليست التطبيع أو عدم التطبيع معه، بل الجانب الأهم منها عدم قدرته على التطبيع مع السوريين، متخلياً بذلك عن منطق الحرب الدائمة. ولعل هذا الجانب يشرح تالياً ما أظهره منذ انطلاق الثورة من استعداد مفرط لقتل السوريين، ولعدم التهاون في حربه عليهم طوال السنوات الماضية، بالتوازي مع استنزاف مؤيديه.
لقد تجاوزنا فيما سبق كله الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بالتطبيع مع جرائم الإبادة والتهجير والاعتقال، والتي ينطلق منها عن حق معارضو التطبيع، بينما يسعى مناصروه إلى القول أنه السبيل الوحيد للسوريين ولدول الجوار، بالمراهنة على أن الحوار مع الأسد ومساعدته سيغيّران من سلوكه إزاء محكوميه وإزاء الدول المتضررة بتهريب المخدرات. ينطلق مناصرو التطبيع من أن الأسد باقٍ، ومن أنه ببقائه انتصر على المعارضة، لكن من دون أن يتوقفوا عند مضمون الانتصار، وهل هو مستعد للاعتراف به، ولقبول مساعدتهم من أجل التطبيع مع السوريين بوصفه الأساس لتطبيع مستدام مع الخارج؟
دأبَ الذين يسوّقون بقاء الأسد على الترويج لكون المشكلة هي في المعارضة التي تفتقر إلى الواقعية ولا تعترف بهزيمتها، ليبدو عدم اعتراف المعارضة بالفشل سبباً لعدم إعلان الأسد انتصاره رغم كل الدعاية المواكبة للتطبيع معه! في الواقع، لا قيمة تُذكر لإعلان أو عدم إعلان هياكل المعارضة القائمة فشلها، والمحك الفعلي لما آلت إليه الأوضاع أن يعلن الأسد استعداده لتجرّع النصر الذي يريده له مناصرو التطبيع، والذين يراهنون على إمكانية تأهيله وشبيحته ليصيرا نظاماً. لعل من أولى علامات نجاح هذا المسعى أن يحتفل الأسد بانتصاره النهائي، ونجزم بأنه لن يفعل.
المصدر: المدن