يأتي دعم تلك الميليشيات الروسية من صراع خفي ومستمر على السلطة. ففي مطلع مايو (أيار) الحالي، برز إلى العلن التوتر بين وزارة الدفاع الروسية وبين قوات “فاغنر”، الشركة الخاصة للتعاقد العسكري والمقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وعلى مدى أشهر أدّى مقاتلو “فاغنر”، عبر تكلفة بشرية باهظة، دوراً أساسياً في الحصار الروسي لمدينة باخموت في شرق أوكرانيا. والآن وصل الأمر مع قائد “فاغنر” صاحب النزعة القتالية، يفغيني بريغوجين، إلى حد لا يطاق. ففي مقطع فيديو مروع نشره، وقف الرجل محاطاً بجثث مقاتلي وكالته العسكرية في باخموت، وراح يكيل الشتائم للجنرال سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، بالإضافة إلى رئيس “هيئة الأركان العامة” وقائد القوات الروسية في أوكرانيا. وقد هدد بريغوجين في السياق بسحب قواته من باخموت إن لم يتلقوا في الحال المزيد من إمدادات الذخيرة.
وقد بدا جلياً لعديد من المراقبين أن هناك صدعاً أساسياً ناشئاً بين “فاغنر” والكرملين. وتوقع مراقبون آخرون أن تكون أيام بريغوجين ربما باتت معدودة، بعد أن أظهر معاداته مجمل قيادة الجيش الروسي تقريباً. لكن بعد يومين تراجع بريغوجين عن تهديده بسحب “فاغنر” من باخموت، وحاول القول إن المسألة حُلّت بنجاح لمصلحته. بعدها، وفي مقطع فيديو جديد، وبّخ بريغوجين ما اعتبره “عراباً سعيداً” لم يسمّه “يعتقد أنه على حق”، مثيراً بذلك تساؤلات عدّة في موسكو عن الشخص الذي قصده بكلامه. وفي نهاية المطاف، بدت تلك الميلودراما محاولة يائسة يبذلها بريغوجين بغية إنقاذ سمعة “فاغنر” باعتبارها القوة الروسية الوحيدة القادرة على تنفيذ العمليات الهجومية، على رغم خسائرها الكارثية في باخموت.
في المقابل، ثمة ما ظل غائباً عن المشهد. وتمثل بالسبب الذي جعل بوتين يتسامح مع تصرفات بريغوجين، وأيضاً الموقع الحقيقي لقوات “فاغنر” ضمن الهرمية العسكرية والاستخباراتية الروسية. إذ إن صعود “فاغنر” إلى موقع الصدارة فعلياً، ليس سوى التطور الأحدث في تاريخ طويل من الوقائع التي اعتمد فيها الروس والسوفيات على قوات غير نظامية. ويرجع ذلك التاريخ إلى حقبة ستالين. [حكم الديكتاتور الشهير الاتحاد السوفياتي وترأس الحزب الشيوعي السوفياتي، بين عامي 1924 و1953]. كذلك تملك مجموعة “فاغنر” إرثاً كبير في أوكرانيا، كونها تشكلت هناك للمرة الأولى الحرب الروسية السابقة في إقليم دونباس قبل ثماني سنوات. وبالنسبة إلى بوتين، غدت “فاغنر” وسيلة فاعلة جداً في كبح جماح الجيش الذي يعتبره [بوتين] منذ زمن بعيد تهديداً محتملاً لحكمه. ويرتبط الدور الكبير لشركة “فاغنر” في الحرب، على عكس ما يُعتقد في الغرب، في كثير من جوانبه بديناميات السلطة في موسكو بقدر ارتباطه بما يحصل على أرض المعركة في أوكرانيا.
قوى ستالين السرية
بغية فهم قوة بريغوجين و”فاغنر” النسبية في روسيا، من الضروري الانتباه إلى الطريقة التي ينظر بها إلى هذه الشركة من قبل أربعة أطراف على الأقل في الدولة الروسية، أي “الوكالة العسكرية للاستخبارات” المعروفة بـ “جي آر يو” GRU، والجيش عموماً، و”وكالة الدولة للاستخبارات” المعروفة بـ”أف أس بي ” FSB، وبوتين شخصياً.
ومنذ البداية، أدت، “الوكالة العسكرية للاستخبارات” دوراً أساسياً في إطلاق “فاغنر”. وقد تأتّى ذلك من أسباب يرجع جزء كبير منها، إلى حملة الإصلاحات العاصفة التي شهدتها الاستخبارات العسكرية في أواخر الألفية الثانية ومطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وفي مرحلة سلف شويغو، أناتولي سيرديوكوف الذي تولى وزارة الدفاع من 2007 إلى 2012، حاولت الوزارة تقليص دور الـ”جي آر يو” داخل الجيش. لكن شويغو سارع، بعد فترة وجيزة من توليه الوزارة، إلى تبديل ذلك النهج، فأمدّ “الوكالة العسكرية للاستخبارات” بمصادر جديدة. ونتيجة لذلك، تعززت تلك الوكالة بعناصر جديدة، كثيرون منهم جنّدوا من أوساط الـ”سبيتسناز”، قوات عسكرية خاصة أشرفت عليها تقليدياً وكالة “جي آر يو”. وفي ذاك الإطار، بدا ضم مزيد من عناصر الـ “سبيتسناز” منطقياً بالنسبة للجنرالات الذين يقودون “الوكالة العسكرية للاستخبارات”. فآنذاك، بدا الجيش الروسي منخرطاً على نحو كبير في النزاع داخل سوريا، وأيضاً في القرم وشرق أوكرانيا. وبالتالي، نقلت الـ”جي آر يو” تركيزها إلى ما أسمته “الاستخبارات الفاعلة”، بمعنى تنفيذ عمليات عسكرية على الأرض بدل اقتصار عملها على تطوير المصادر وتنميتها، وفق ما تفترضه مهمات التجسس التقليدية. وفي السنوات التي تلت ذلك، تطورت داخل الوكالة ذهنية الـ”سبيتسناز”، وجرى ترقية الجنرال فلاديمير أليكسييف، الذي ترأس الـ”سبيتسناز”، إلى منصب النائب الأول لرئيس “الوكالة العسكرية للاستخبارات”.
وبالاستعادة، جاءت الإشارة الأولى إلى قوات “فاغنر” في الإعلام الروسي في خضم ذلك التحول ضمن أولويات الـ “جي آر يو”. ففي عام 2015، نشر موقع الأخبار المستقل “فونتانكا. آر يو” http://Fontanka.ru ، المتمركز في مدينة سانت بطرسبرغ، تقريراً ورد فيه أن أفراداً من “فاغنر” ينشطون في شرق أوكرانيا. وكان موقع “فونتانكا” أيضاً أول من أشار إلى بيرغوجين باعتباره الداعم الأساسي لـ”فاغنر”؛ مشدداً على ديمتري أوتكين، الذي سبق له تولي قيادة “سبيتسناز”، يقود عمليات “فاغنر” العسكرية. وفي الحقيقة، على رغم أن الأمر لم يكن معروفاً آنذاك، جرى تشكيل دائرة جديدة داخل “الوكالة العسكرية للاستخبارات” للإشراف على أنشطة الوكالات (أو الشركات) العسكرية الخاصة، بما فيها “فاغنر”. وبعد أشهر قليلة من ظهور الخبر الأول عن “فاغنر”، أكّد لنا أحد الرسميين في “جي آر يو” وجود تلك الدائرة الجديدة، التي شُكِّلَتْ على نحو غير مفاجئ، من قدامى محاربي الـ”سبيتسناز”. وبالنسبة إلى “الوكالة العسكرية للاستخبارات”، أمّنَتْ قوات “فاغنر” تغطية جيدة للعمليات التي قد تُنكِر “جي آر يو” صلتها بها، في وقت كانت روسيا تتنصل إعلامياً من أي تدخل مباشر لها في شرق أوكرانيا. وقد جاء استخدام الشركات العسكرية الخاصة ضمن ذلك الإطار، كي يتناسب تماماً وبوضوح مع صيغة الحروب الجديدة في القرن الواحد والعشرين. ومثلاً، استعانت الولايات المتحدة بالشركات العسكرية الخاصة في العراق، وكذلك تحمل “فاغنر” بعض ملامح من الشبه مع قوات شركة “بلاكواتر”Blackwater العسكرية الأميركية.
وبالنسبة إلى “الوكالة العسكرية للاستخبارات”، مثّلت “فاغنر” استمراراً لتقليد قديم تماماً، يعود إلى أيام الاتحاد السوفياتي حينما استخدم الكرملين قوى بالوكالة للتدخل في النزاعات داخل أنحاء مختلفة من العالم. وقد أخبرنا أحد مسؤولي “فاغنر”، في عام 2017، أن “الأمر يشبه تماماً واقع إرسالنا في الخفاء قواتنا المسلحة إلى إسبانيا خلال الحرب الأهلية الإسبانية”، قال لنا مسؤول في الـ “جي آر يو” عام 2017. وجاء ذلك في سياق ردّه على سؤالنا عن سبب حاجة “الوكالة العسكرية للاستخبارات” إلى شركة عسكرية خاصة كـ”فاغنر”. وعلى رغم عدم تأكيد الحكومة السوفياتية تدخلها رسمياً آنذاك (في إسبانيا)، فمن المعروف تماماً أن ستالين أرسل مستشارين عسكريين لدعم “قوات الجمهورية” في إسبانيا خلال حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين. وقد مُنِحَ جميع الجنود السوفيات الذين ذهبوا إلى هناك أسماء توحي بأنهم إسبان (أحد أولئك المستشارين كان الضابط السوفياتي الشهير حاجي مامسوروف. وقد عُرِف في إسبانيا باسم “الكولونيل خانتي” الذي من المحتمل أن يكون نموذجاً لشخصية روبرت جوردان في رواية إرنست همنغواي “لمن تقرع الأجراس” Whom the Bells Tolls). وفي عام 2015، دشنت بلدة إسبانية قريبة من مدريد نصباً لـ”الكولونيل خانتي” في حفل حضره أنسباء مامسوروف ورسميون من الحكومة الروسية. وخلال أزمنة طويلة، اعتبر المسؤولون العسكريون السوفيات والروس أن الحرب الأهلية الإسبانية تمثل “حرباً حسنة”. إذ ناصر الجنود السوفيات الطرف الصحيح في النزاع، إذ دار القتال من دون شك ضد الفاشية، حينما قارع الجمهوريون الإسبان تحالفاً من القوى القومية بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، المتحالف مع هتلر وموسوليني. وفي المرويات التاريخية الروسية الرسمية، ينظر إلى التدخل السوفياتي في إسبانيا باعتباره مقدمة مباشرة لـ”الحرب الوطنية الكبرى”، أي المواجهة التاريخية التي خاضتها روسيا ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد غدت تجربة روسيا في الحرب الأهلية الإسبانية بالنسبة لـ”الوكالة العسكرية للاستخبارات” مبرراً مقنعاً لتبنيها قوات “فاغنر” في أوكرانيا، حيث يصر الكرملين مرة أخرى على أن القتال هناك يمثّل مواجهة ضد الفاشيين. وفي هذا السياق، تملك “فاغنر” نسختها الخاصة من الكولونيل خانتي. وعلى هدي ذلك الضابط السوفياتي الشهير، استخدم ديمتري أوتكين اسماً حربياً [حركياً] هو “فاغنر”. وفي حالة أوتكين، تمثّل ما حققه من المأثر في إدارة المرتزقة الروس في سوريا.
التلاعب بالجنرالات
في ذلك السياق، يبقى السؤال الأكثر تعقيداً متمثلاً بمدى الدعم الذي تتلقاه “فاغنر” من الجيش و”وكالة الدولة للاستخبارات” (أف أس بي) FSB. فمنذ تشكيلها عام 2015، سجّلت طبيعة العمليات العسكرية التي تنفذها “فاغنر”، خصوصاً منذ بداية حرب روسيا الراهنة في أوكرانيا، تطوراً ملحوظاً. فقد بدأت كقوة مرتزقة سرية تعمل بالوكالة عن روسيا، ما يُمَكِّن الأخيرة من التنصل من أعمالها. ثم راحت تتطور تدريجاً لتصبح وحدة عسكرية كبيرة تتولى العمليات في بلدان عدة، وتشمل تجهيزاتها الخاصة، قوات مدفعية وجوية. وأخيراً، باتت “فاغنر” تنشر في شوارع المدن الروسية لوحات إعلانية للتطوع، وتنتج أفلاماً تمجد أفعالها، وتملك برجاً ضخماً براقاً في مدينة سانت بطرسبرغ يضم مكاتبها الرئيسة. كذلك صارت تعرف بأنها القوة الأكثر وحشية بين القوات المسلحة الروسية، وتتباهي علناً بقتل “الخونة” بأفظع الطرق.
واليوم مع ازدياد جرأة بريغوجين في انتقاد القيادة العسكرية، بدأ عديد من المراقبين بالتساؤل عن المدة التي يمكنه فيها الاستمرار على هذا المنوال من دون عقاب. وفق مسؤولين تحدثنا معهم في قوات “سبيتسناز” التابعة لشركة “فاغنر”، فحتى اللحظة، يستمر الدعم في التدفق على تلك الشركة مِنْ قِبَل “الوكالة العسكرية للاستخبارات”. وتبدو “جي آر يو” مقتنعة باستمرار الحاجة إليها. بيد أن الدعم الذي تقدمه الوكالة لا يمنح بريغوجين ضمانات كثيرة. وخلال رئاسة بوتين، ظهر في عدد من المناسبات، أن ذلك الدعم لا ينفعه كثيراً. ومثلاً، خلال السنوات الأولى من القرن الجاري، أشرفت “الوكالة العسكرية للاستخبارات” وقوات الـ”سبيتسناز” التابعة لها، على كتيبة مسلحة تعمل بالوكالة عن روسيا، في الشيشان تدعى “فوستوك”، قادها روسلان يامادايف، وهو زعيم حرب شيشاني صاحب نفوذ وسلطة. ومثلت “فوستوك” قوة فاعلة، فيما قدَّمَ دان يامادايف ولاءه إلى “جي آر يو”. لكن ذلك لم يكن كافياً لحمايته حينما دخلت عائلته في نزاع مفتوح مع الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف [المقرب من بوتين]. وفي سبتمبر (أيلول) 2008، جرى اغتيال يامادايف بأن أطلقت النار عليه من سيارة عابرة أثناء توقف سيارته المرسيدس عند إشارة مرور على بعد مئات أمتار قليلة من “البيت الأبيض” في موسكو (مقر الحكومة الروسية). ويعتقد كثيرون أن الاغتيال جاء بأمر من قاديروف.
وفي المقابل، يحتفظ بريغوجين حتى اللحظة ببعض الدعم من داخل الجيش على رغم انتقاداته اللاذعة لوزارة الدفاع. ومنذ سبتمبر (أيلول) 2022، حينما خسرت روسيا مساحة كبيرة من الأراضي إثر هجوم أوكراني مضاد في مناطق الشمال الشرقي، راح بريغوجين يهاجم علناً تسلسل القيادة العسكرية الروسية. في المقابل، تلقت وسائل الإعلام الروسية الخاضعة لرقابة شديدة من قبل السلطة، بما فيها ما يعرف بالـ”فونكورس”، مراسلو الحرب الروس الذين يرافقون الجيش، تلقت أمراً بأن تساعد في الترويج لـ”فاغنر” وأنشطتها داخل أوكرانيا. ونتيجة لذلك، تابعت الصحف المؤيدة للكرملين نشر مقابلات مع ضباط “فاغنر” تمجد الروح القتالية التي يتمتع بها أفراد تلك المجموعة. وحتى هذه اللحظة، لم تنحسر هذه التغطية الإعلامية الروسية المروجة لـ”فاغنر”.
ويضاف إلى ذلك أن الجيش يبدو مستمراً في دعم “فاغنر”. وبحسب بريغوجين، بعد نشر مقطع الفيديو المصوّر في باخموت، عيّنت قيادة الجيش الجنرال سيرغي سوروفيكين، القائد السابق للقوات الروسية في أوكرانيا الذي ما زال واحداً من جنرالات روسيا الأكثر تقديراً، للإشراف على توفير الذخائر والإمدادات لـ”فاغنر”. وفي هذا الإطار، يعتبر بريغوجين إن أحد الامتيازات التي تتمتع بها مجموعته، بعيداً من شخصه، يتمثل ببقائها “من دون وجه”، وباستمرار عدم نظر القيادة العسكرية الروسية إليها كمنافس محتمل. وعلى رغم أن ما أظهره بريغوجين من مثابرة في الترويج لمقاتليه بوصفهم القوة المقاتلة الأكفأ في الجانب الروسي، إلا أنه بذل جهداً لافتاً في إبقاء ضباطه وقادته الميدانيين محجوبي الهوية (أو غير معلنين). إذ يجهل الروس العاديون أسماء قادة وضباط “فاغنر”، وضمنها اسم أوتكين. وحتى حينما يجري الـ”فينكورس” مقابلات مع جنود “فاغنر” وضباطها، فإنهم يُبقون أسماءهم محجوبة. بالتالي، من المستطاع استنتاج أن تساهل القيادة العسكرية مع “فاغنر” هو أمر مهم، لكنه قابل للانتهاء في أي لحظة يرى الجيش أو الكرملين، إنها باتت مناسبة.
وإذ لا يشتهر الجنرالات الروس بولائهم لرفاقهم في السلاح، فثمة أمر لا يقل أهمية عن ذلك بالنسبة إلى “فاغنر”، يتمثل بالموقف الذي تتخذه منها وكالة الاستخبارات الرئيسة في روسيا، الـ “أف أس بي” [وكالة الدولة للاستخبارات]. وبعد الأخطاء الأولى التي ارتكبتها “وكالة الدولة للاستخبارات” في بداية الحرب [على أوكرانيا]، إلا إنها استعادت حضورها وتأثيرها داخل المؤسسة الروسية، في الآونة الأخيرة. واستطراداً، تصاعدت شراسة الـ”أف أس بي” في روسيا نفسها من ناحية قمع أي علامات للتمرد. وكذلك تزايد نشاطها في أوكرانيا، خصوصاً عبر جهازها الأمني لمكافحة التجسس العسكري الذي يؤمّن الإشراف على الجيش، وقد كُلّف بقمع كل أشكال المقاومة في المناطق التي تحتلها روسيا. في هذا السياق، ليست “فاغنر” سوى وحدة عسكرية تخضع لمسؤولية ذاك الفرع من الـ “أف أس بي”. ولا يرتاح بريغوجين لهذا الأمر كثيراً.
منفعة السوء
استكمالاً، يبقى العامل الأكثر أهمية في استمرار دور بريغوجين في أوكرانيا متمثلاً بالرئيس بوتين نفسه. إذ إن انتقادات بريغوجين اللاذعة والمتكررة لأكبر قائدين في الجيش تتخطى الحد المقبول، وما من شيء يقدر على إبقاء دور قائد “فاغنر” في الحرب سوى الدعم الشخصي المباشر من بوتين. لكن ما الذي يجعل بريغوجين مهماً إلى هذا الحد بالنسبة إلى الرئيس الروسي؟
يكمن الجواب في علاقة بوتين المعقدة بالجيش الروسي. إذ تجسّدت أحد أهم التحديات أمام بوتين خلال سنواته الأولى في السلطة، بإبقاء الجيش تحت سيطرته. إذ يملك الجيش الذي يعتبر أحد أكبر جيوش العالم وينتشر في بلد شاسع مُكتفٍ بذاته، تقاليد تتمثل في التأكد، قدر المستطاع، من عدم وصول أي معلومات للعالم الخارجي تتعلق بنشاطاته. وببساطة، يعني ذلك أن الأشكال الاعتيادية للرقابة الحكومية والعامة، سواء عبر البرلمان، أو قوى تنفيذ القانون، أو الإعلام، لا تسري في روسيا. وقد سعى بوتين خلال العقد الأول من حكمه إلى تشديد قبضته على الجيش عبر تعيين الجنرال السابق في الـ”كي جي بي” (جهاز الاستخبارات السوفياتي) وصديقه الموثوق سيرغي إيفانوف وزيراً للدفاع. وفي 2007، أُجبِرَ بوتين على استبداله حينما بدا واضحاً إن جهود إيفانوف الهادفة إلى إجراء إصلاحات أكبر في الجيش، قد باءت بالفشل. وفي ما بعد، حاول بوتين مرة أخرى تحقيق مزيد من السيطرة والنفوذ، مع شويغو، الغريب الآخر عن الجيش.
والآن، بعد مرور أكثر من سنة على الحرب في أوكرانيا، لم يعد هناك دليل كبير على أن تجربة بوتين مع شويغو أنجح من تجربته مع إيفانوف. كذلك يدرك بوتين أن الجيش في زمن الحرب يميل إلى اكتساب مزيد من السلطة داخل الدولة. ويعلم أيضاً أن تلك السلطة تتنامى كلما طال أمد الحرب، ما قد يصعّب سيطرة بوتين على زمام الأمور. ولأن الرئيس الروسي يميل للنظر إلى العالم من زاوية التهديدات والمخاطر، تشكّل السلطة النسبية للجيش أمراً يقلقه، بل إنها تكون أحياناً أكثر من أداء الجيش في أرض المعركة.
ونتيجة لتلك المعطيات، لجأ بوتين على نحو متزايد، إلى أساليب غير تقليدية في كبح جماح الجنرالات. ومثلاً، بداية من 2022، شجع بوتين الـ”فونكورس”، على تناول المشكلات الموجودة داخل الجيش ونشر موضوعات عنها أمام الجمهور.
وفي هذا الإطار، تتجسّد المسألة الأهم بدور “فاغنر” كقوة موازنة للجيش. وقد شكّل ذلك مكسباً بالنسبة إلى بريغوجين، على رغم الخسائر غير الاعتيادية التي يتكبدها جنوده في أوكرانيا. إذ يدرك أنه غير قادر في يوم من الأيام على تشكيل تهديد سياسي لبوتين، لأنه لا يملك نصيراً داخل النخبة الروسية الحاكمة سوى بوتين وحاشيته. وقد حرص الأخير بشدة على إبقاء الأمور على هذا النحو. لذا، يدرك بريغوجين وضعيته الخاصة، بمعنى أن تكون قواته تحت إشراف مِنْ بُعدْ تمارسِه “وكالة الدولة للاستخبارات”، ويتساهل الجيش إزاءها، وتحظى بحماية بوتين. واستطراداً، يأمل بريغوجين في الاحتفاظ بموقعه المتميز في بلاط الكرملين الذي يزداد محاكاة لبلاطات القرون الوسطى. وفي هذا الوضع، حتى انتقادات بريغوجين الغاضبة والحادة قد تكون جزءاً من الصيغة الموجودة التي تفترض أنه كلما مضى (بريغوجين) في التصرف كمهرج بلاط لعين، يكون الأمر أفضل.
ويمثل ذلك الأمر نمطاً معروفاً في التاريخ الروسي. ففي القرن الثامن عشر، وضع القيصر بطرس الأكبر صيغته الخاصة من مهرجي البلاط، عبر ألكسندر مينشيكوف، الأمير الأكثر حظوة في البلاد، وذلك لأسباب تكاد تكون مشابهة. لم يحزْ مينشيكوف، نظراً لخلفيته المتواضعة، مقاماً ملحوظاً في أوساط الأرستقراطية الروسية، وكان عنيفاً وهمجياً وشديد الولاء للقيصر الذي اعتاد على ضربه بالعصا.
في المقابل، إن ما لا يفهمه بريغوجين على ما يبدو هو أن “روسيا بوتين” ليست “روسيا بطرس الأكبر”، مهما حاول وبوتين في جعلها كذلك. ويرجع ذلك إلى إن قطاعات عدّة من المجتمع الروسي، خصوصاً بيروقراطيو البلاد، يشاهدون اليوم مغامرات قائد “فاغنر” بهول واشمئزاز. وحاضراً، تستهلك “فاغنر” الذخائر وتحرقها أكثر من أي وحدة أخرى من وحدات الجيش الروسي، الأمر الذي لا يمكن تبريره إلا إذا استمرت “فاغنر” في تحقيق ما وعد به بريغوجين، أي إنجاز التقدم في باخموت. وإذا انتقلت العمليات في أرض المعركة إلى الجنوب، فإن تلك الحملة الهائلة التي دامت أشهراً طويلة، وكلفت “فاغنر” آلاف القتلى واستنفدت كميات ضخمة من التجهيزات الحربية والذخائر، قد تغدو بمثابة إهدار هائل للموارد الشحيحة أصلاً. في المقابل، إذا اعتبر بوتين أن أي نكسة حقيقة تمنى بها “فاغنر”، جريمة كبرى، فسيكون لذلك شأن آخر. ويحوز الرئيس الروسي سجلاً حافلاً وطويلاً في الاستفادة الفاعلة من البيروقراطيين والسياسيين والاتباع الفاشلين. ويُمثّل الرئيس السابق ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف أحد هؤلاء. وقد يجسّد بريغوجين الشخص التالي.
* أندريه سولداتوف باحث بارز وغير مقيم في “المركز الأوروبي لدراسة وتحليل السياسات” وأحد مؤسسي “اجنتورا. آر يو” Agentura.ru التي يترأس تحريرها، وهو مراقب لأنشطة الأجهزة السرية الروسية.
** إيرينا بوروغان باحثة بارزة وغير مقيمة في “المركز الأوروبي لدراسة وتحليل السياسات” وإحدى مؤسِّسات “اجنتورا. آر يو”، وتتولى رئاسة تحريرها بالوكالة.
فورين أفيرز مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2022
المصدر: اندبندنت عربية