إذا طالت الحرب سيتحول المعدن الأصفر إلى هدف وهنا سوف يتم تجاوز القضية الأساسية. عندما انتهت الحرب الأهلية في جنوب السودان، كان السودانيون يملؤهم التفاؤل بأن هذه البداية الجديدة ستكون نهاية لاستخدام الموارد الطبيعية في الحروب باعتبار أن النفط كان عاملاً أساسياً فيها. كما توقعوا أن ذلك سيخفض حرب دارفور القائمة على انقسامات إثنية، ولكن أسهم منجم الذهب في “جبل عامر” بولاية شمال دارفور في تأجيج الصراع بالإقليم بين الميليشيات والحركات المتمردة الأفريقية “الزرقة”، إذ كان يسيطر عليه موسى هلال زعيم “الجنجويد” قبل أن ينتقل إلى محمد حمدان دقلو “حميدتي” بعد خلافهما. وفاقم ذلك وجود معدنين من تشاد والنيجر ونيجيريا وأفريقيا الوسطى، كما انتشرت في المنطقة العصابات المسلحة التي تقوم بالتهريب إلى هذه الدول وعبر ليبيا. وفي حين يتردد أن حميدتي باع المنجم أو تخلى عنه لوزارة المالية السابقة في صفقة لم تعلن تفاصيلها، يقول بعضهم إن ما بيع هو ذهب فقط بقيمة 54 مليون دولار لبنك السودان عبر شركة يملكها، وليس الموقع كله.
وفي حين أن الصراع بين الشمال والجنوب انتهى بالانفصال عام 2011 وبقي ما هو قبلي داخل دولة الجنوب بسبب الموارد الأخرى مثل الأرض والماء والمرعى، يتراءى الآن الذهب في الحرب الحالية بين قوات الجيش بقيادة الفريق ركن أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الذي يضع يده على مواقع مهمة. ويحذر جيولوجيون من أن الثروات المعدنية الأخرى غير المستغلة مثل خامات الحديد والنحاس والفضة والمايكا والمنغنيز والكروم والبلاتين والتالك والرمال السوداء والرخام وغيرها، ربما تفتح الباب واسعاً لتغذية صراعات أهلية أخرى، إن لم تكن سبباً في حدوثها، خصوصاً مع تساهل الدولة في مسألة التعدين الأهلي والاستنزاف المستمر الناتج من الاستغلال المفرط، أو ربما تؤدي إلى صراعات أخرى ناتجة من تدخل خارجي.
وأمام هذا الاستغلال لم تستفد الدولة من إستراتيجية التنويع الاقتصادي التي طرحت بعد الانفصال، ليصبح الذهب المنتج الأول للتصدير في السودان، على رغم أن كثيراً منه يتم تداوله بشكل غير قانوني. فمنذ أعوام ظل عشرات آلاف السودانيين يتنقلون من مناطق مختلفة تعاني الصراعات وغيرها، في ظل الظروف الاقتصادية السيئة، إلى مواقع التعدين بحثاً عن الذهب لتحسين فرص معيشتهم.
إدارة الصراع
ارتبطت النزاعات المتعلقة بالموارد الطبيعية، خصوصاً الذهب بتاريخ الاستعمار التركي- المصري للسودان، إذ ترك بصمته على التاريخ السياسي والاجتماعي الذي أورد في عدد من الكتب والوثائق أن محمد علي باشا بعدما اعتلى عرش مصر ووطد حكمه بمحاربة الإنجليز والمماليك، توجه إلى التوسع جنوب الوادي بحملة ضخمة على السودان عام 1820. ومن أهم أسباب حملته الحصول على الذهب وتجنيد جيش من الرقيق للاستغناء عن القوات الألبانية والتركية ومطاردة المماليك الذين اتجهوا نحو مدينة دنقلا شمال السودان، وفتح طرق التجارة بين مصر والسودان والحصول على المحاصيل السودانية والوصول إلى منابع النيل. لم ينته الغزو بمقتل إسماعيل بن محمد علي باشا وجنوده حرقاً في شندي عام 1822 بعد إهانته المك نمر ملك قبيلة الجعليين برميه بغليونه عندما رفض المك دفع المال الذي طلبه منه إسماعيل وتجهيز آلاف الرقيق. ولكن تبعتها حملات الدفتردار “الانتقامية” التي وطدت الحكم التركي- المصري في السودان وانتهى بسقوط الخرطوم على يد محمد أحمد المهدي قائد الثورة المهدية عام 1885.
ولا يزال للعصر الاستعماري تأثير واضح في استغلال الموارد في السودان، بأن تنهض مجموعتان إثنيتان بتأثيرات ومسارات مختلفة لاستخدام الموارد وتوزيعها، وبرزت سياقات اجتماعية ثم سياسية طورت أدوات وإستراتيجيات لإدارة الصراعات. وفي معظم المناطق الغنية بالموارد لم تستطع المجتمعات المحلية التكيف معها لاقتسام الثروة.
نقطة التحول
أصبحت العلاقة بين النزاعات والذهب واضحة، ولكن لا يمكن تبسيطها لدخول أطراف عدة هي الحكومة السودانية والشركات المستثمرة والمعدنين الأهليين و”قوات الدعم السريع” و”قوات فاغنر”. ويعود ولوج “فاغنر” هذا المجال لجذور استخدام روسيا لشركات الأمن الخاصة لتحقيق أغراضها في أفريقيا منذ تسعينيات القرن الماضي مثل مجموعة “موران” للأمن، وكانت لديها أنشطة في أفريقيا الوسطى وكينيا ونيجيريا، ومجموعة “الفيالق السلافية” النشطة في تقديم خدمات الأمن لرجال الأعمال الروس في أفريقيا.
أما نقطة التحول الرئيسة لاستخدام موسكو الممنهج للقوات الأمنية الخاصة المرتبطة بالكرملين، فبرزت عام 2014 عندما فرض الغرب عقوبات على موسكو لضمها شبه جزيرة القرم وزعزعة استقرار دونباس.
وعندما زار الرئيس السابق عمر البشير مقر إقامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، طلب من بوتين حمايته من التدخل الأميركي في شؤون بلاده الداخلية مقابل فرص استثمارية في السودان وإنشاء قاعدة روسية في البحر الأحمر، مما مهد الطريق لتوسع نشاط مجموعة “فاغنر” في السودان. ثم دخلت موسكو بشكل جدي في استثمار الذهب السوداني وأثبتت أنه وسيلة فاعلة لنقل الثروة ودعم خزائن الدولة الروسية وتجنبها أنظمة المراقبة المالية الدولية من خلال الالتفاف على العقوبات الدولية، بحسب محللين سياسيين.
وبعد إطاحة البشير في أبريل (نيسان) 2019، تعامل مسؤولو “فاغنر” مع رئيس مجلس السيادة ونائبه، ولكن حميدتي فتح دروباً أخرى مع “فاغنر”، إذ سافر في فبراير (شباط) العام الماضي إلى موسكو بعد شن روسيا هجوماً على أوكرانيا لتقديم دعمه للخطط الروسية وجدد مسألة إنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر التي عرضها البشير من قبل. وهي خطوة رفض البرهان الموافقة عليها وكانت أحد أبرز الخلافات بين الجنرالين، إذ اتهمه البرهان بأنه يقيم علاقات خارجية متجاوزاً إياه. ووفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، “في تلك الرحلة إلى روسيا، كانت الطائرة التي استقلها حميدتي تنقل سبائك الذهب أيضاً”، وأضافت “خلال المحادثات في موسكو، ورد أن حميدتي طلب المساعدة من المسؤولين الروس للحصول على معدات عسكرية”.
تلعب مجموعة “فاغنر” دوراً يزداد بروزاً وتستكمله الآن بالحرب الروسية في أوكرانيا ومن خلاله تمارس ضغوطها على الكرملين لدمجها في الجيش الروسي والحصول على امتيازات كبيرة نتيجة طموحها الواسع الذي تمخض عنه صراعها مع وزارة الدفاع الروسية من أجل السلطة.
مخاوف الاستغلال
هناك من يرى أن النفط والذهب هما بمثابة “نقمة” ولدت الصراع في السودان. في حالة النفط سيطر النظام السابق منذ تسعينيات القرن الماضي على النفط وعائداته، ولم تستفد الدولة ولا المجتمعات المحلية منه بفعل الفساد المستشري وسيطرة فئة من حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم آنذاك، بينما كان “الجيش الشعبي” التابع لـ”الحركة الشعبية لتحرير السودان” ينفذ ضربات على آبار ومصافي النفط في أوقات عدة مدفوعاً “بالمظالم من سيطرة الحزب على هذه الثروة”. كما برز الذهب كمؤشر إلى إطالة أمد الحرب الحالية، لا سيما إثر سيطرة “قوات الدعم السريع” على عدد من مواقعه في جبل عامر بغرب السودان وفي صحراء بيوضة شمال الخرطوم ومنطقة أرياب شمال شرقي السودان في ولاية البحر الأحمر ومواقع أخرى، إضافة إلى دخول روسيا بواسطة “مجموعة قوات فاغنر” شبه العسكرية التي تمول عملياتها منه.
وفي الوقت ذاته يرى بعضهم أن النفط والذهب والموارد عموماً “نعمة” تحولها الإدارة السيئة أو الاستغلال إلى “نقمة”. وإضافة إلى السودان يمكن الاستشهاد بدول أفريقية أخرى مثل بتسوانا التي يمثل الماس فيها عنصراً للاستقرار، بينما يطلق عليه “الماس الدموي” في سيراليون وليبيريا، إذ دعم لفترة طويلة الأنشطة العسكرية ودخل في شراء الأسلحة ودفع منه بسخاء للمقاتلين. كما دخل في الصراع الأنغولي بعدما سيطرت الحكومة على حقول النفط، فاتجهت حركة “يونيتا” المتمردة للتنقيب غير القانوني عن الماس. كما دخلت الموارد في صراعات أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا ومالي والسنغال وغيرها من المناطق الغنية بالموارد في أفريقيا.
تولدت مخاوف أولها، بما أن السودان لديه مخزون كبير من الذهب وعدد من الحركات المسلحة، فتوجد محاذير من أن تكون تلك عناصر جذب للصراعات. وثانيها، الخشية من إسهام الذهب في توسعة النفوذ الروسي بتوسع نشاط “فاغنر”، ولكن ربما تكون الحرب الروسية على أوكرانيا هي التي لفتت إلى هذه المخاوف، خصوصاً بعدما تبعها إعلان الاتحاد الأوروبي في فبراير الماضي فرض عقوبات على شركة “مروي غولد” الروسية المملوكة من قبل يفغيني بريغوجين مالك شركة “فاغنر”.
تعقيد المسار
يبدو أن الصراع ربما يتجاوز “الجنرالين” في بلد مثل السودان يحتل المركز الـ13 عالمياً والثالث أفريقياً في إنتاج الذهب، حيث ينتج نحو 80 طناً سنوياً ويمثل المعدن الأصفر نصف صادرات السودان ويهرب حوالى 80 في المئة من الإنتاج، بينما تقدر الاحتياطات غير المستغلة بنحو 1550 طناً. وربما تتعارض التدخلات الدولية بشكل صارخ، وهي الاتجاه الغربي لإرساء الديمقراطية في السودان بالمساعدة في إقامة نظام حكم مدني، مع محاولات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحد من دور روسيا في أفريقيا الذي تعيده معظم الأدبيات السياسية لعهد الحرب الباردة التي تحولت خلالها أفريقيا إلى ساحة معركة بين القوى العظمى، ومنها نشأ اعتبار بوتين الصراعات في أفريقيا طريقاً للاختراق الروسي لدول القارة.
ووجه التعارض هنا أنه لم يبدُ حتى اللحظة تمايز لصفوف القوى السياسية التي يمكن أن تحول الصراع العسكري العنيف إلى صراع سياسي يوصلها إلى صندوق الانتخابات. بعض القوى السياسية تحتمي بحميدتي ضد البرهان، وبعضها يحتمي بالبرهان ويقف ضد حميدتي. والغرب الذي يفترض أن يكون مع القوى المدنية، إن اختار الفئة الأولى فهو يناصر حميدتي، ويصعب التعامل مع هذه الفرضية لأن دعمه يعني دعم روسيا في أفريقيا وتسهيل استفادتها من مناجم الذهب التي بحسب صحيفة “ذا غارديان” البريطانية وتقرير لموقع “سي أن أن”، تقع تحت سيطرة “قوات الدعم السريع”. كما أن “ذا غارديان” أفادت بأن “سيطرة قوات الدعم السريع على الصناعة الأكثر ربحية في السودان عقدت مسار البلاد نحو الديمقراطية وهددت عملية انتقال السلطة”.
كذلك أشارت وثائق لـ”غلوبال وتنس”، وهي منظمة غير حكومية لمكافحة الفساد، نشطت من قبل في تقديم وثائق حول العائدات النفطية في السودان، إلى أن “هناك تساؤلات حول نجاح الانتقال السياسي في البلاد مع وجود اقتصاد موازٍ تديره قوات حميدتي الذي يرأس مجلس إدارة شركة تعدين وتجارة خاصة تسمى ’الجنيد‘، يقودها شقيقه عبدالرحيم دقلو”.
ومن ناحية أخرى إذا قرر الغرب دعم البرهان، فإنه سيقف في وجه مجموعة المدنيين التي تتهمه بالتخطيط للاستمرار في الحكم حتى بعد انتهاء الحرب وانقضاء الفترة الانتقالية، مما يعيد إلى الأذهان سيناريو حكم الرئيس السابق.
مصير التعاون
على رغم أن مجموعة “فاغنر” نفت أكثر من مرة وجودها في السودان خلال الحرب الحالية، إلا أن دبلوماسيين غربيين يؤكدون ضلوعها فيها، ويبدو أن التحولات الأخيرة في علاقة مجموعة “فاغنر” بوزارة الدفاع الروسية واتهام رئيسها للجيش الروسي بالتسبب في نقص الذخيرة لدى عناصره، يمكن أن يعيدا هيكلة العلاقة بين “فاغنر” و”الدعم السريع”، مما يؤثر في وتيرة الصراع في أوكرانيا والسودان، حتى لو بعد أمد طويل لأن الذهب السوداني الذي يستمر تهريبه من قبل “فاغنر”، يمكن أن يسد النقص في الأسلحة والذخائر التي تحتاج إليها روسيا.
كما يمكن أن تكتمل دائرة تهريب الذهب من السودان وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى عبر عمالة أفريقية، خصوصاً أنه تم التعاقد مع أفريقيا الوسطى لحماية مناجم الذهب من المتمردين. وفي الوقت ذاته ربما يتأثر نشاط “فاغنر” في البلدين إذا دخلت قوات دولية إلى السودان وأصبح نشاطها مكشوفاً فيه وعند الحدود مع أفريقيا الوسطى.
وعلى رغم أن هذا الصراع خالٍ من العوامل الأيديولوجية والمنافسة العرقية والاقتصادية على عكس حرب الجنوب، إلا أن هناك عوامل أخرى قد تطيل أمده، أولاً، وجود علاقة قوية بين اندلاع النزاع المسلح واعتماد السودان على الذهب بعد ذهاب 75 في المئة من نفطه إلى دولة جنوب السودان. ثانياً، يعد وجود الذهب عاملاً مربحاً في انتشار الفساد على مستوى عالٍ ومصدراً إضافياً للصراع والاستياء العام. ثالثاً، الدور الجغرافي في معادلة دخول الذهب في النزاع، فهناك رابط بين الخصائص والقيود الجغرافية لأماكن وجود الذهب في غرب البلاد وشرقها وفي ولاية جنوب كردفان بمنطقة جبال النوبة. ومع أن مظاهر الصراع في الخرطوم تستفيد فقط من الذهب كممول له وليس دافعاً بحد ذاته، لكن إذا طالت الحرب سيتحول إلى هدف. وهنا سوف يتم تجاوز القضية الأساسية والخلافات التي أدت إلى الحرب إلى قضية أخرى.
المصدر: اندبندنت عربية