واحة الراهب روائية وممثلة ومخرجة سورية متميزة، هذه الرواية الثانية التي أقرأها لها.
الجنون طليقاً، رواية تجري أحداثها في سورية بعد مضي سنوات على ثورة شعبها ضد النظام الاستبدادي المجرم المنطلقة في ٢٠١١م وما فعله النظام بحق الشعب السوري من مئات آلاف القتلى والمعتقلين والمصابين والمعاقين وملايين المشردين، وتدميره اغلب سورية في رؤوس سعبها.
تبدأ الرواية عندما يتوجه فريق تصوير سينمائي من دمشق الى جوارها حيث تتواجد مشفى الأمراض العقلية لتمثيل فيلم تدور أحداثه في مشفى للأمراض العقلية. يعيش فريق الفيلم ما يحصل في الخارج، طائرات الهليكوبتر التي ترمي البراميل المتفجرة على البلدات الثائرة، اصوات القذائف الملقات من كل اتجاه، حركة الدبابات والارتال العسكرية المتوجهة لقمع البلدات الثائرة ومحاصرتها. كل ذلك يعيشه فريق الفيلم لكنه يتعامل معه وكأنه غير موجود، فالشعب السوري انقسم الى فريق ثائر يحارب ويُقتل ويُشرد، وفريق موالي للنظام يعيش حياته وكأن شيئا لم يكن، ضمن كذبة: لا شيء يحصل في سورية.
فريق الفيلم يتألف من المخرج ناجي ومساعده جلال والمؤلف نزار وبطلة الفيلم دينا وبطل الفيلم مجد، هذا إضافة لكادر الفيلم. يصل فريق الفيلم الى مشفى الأمراض العقلية لنجد اننا امام اقطاعية خاصة بمديرها فؤاد الذي يرأسها منذ خمس وعشرين عاما، يهيمن عليها عبر فريق من الممرضين والممرضات والموظفين الذين يمثلون كادر المدير في مملكته الخاصة، وهو حاكم مطلق.
للرواية مسارات متداخلة؛ فريق الفيلم وطاقم مدير المشفى، ومريضات المشفى، والأجواء العامة للثورة وفعل النظام الوحشي ضد الشعب كخلفية للأحداث.
.فريق الفيلم برئاسة المخرج منهمك بخلق شروط تجعل إخراج الفيلم ناجحا، يعمل دون كلل على ذلك، من خلال التنسيق مع مساعده والبطلة دينا والبطل مجد والمؤلف نزار. البطلة دينا معتزة بنفسها و شهرتها، عاشت طفولة قاسية بعد موت والدتها وتسلط والدها عليها، تعمل بجد ونشاط لتثبت شخصيتها وتفوقها دوما، غير متجاوبة مع محاولات التحرش بها وخاصة من مجد. مجد بطل الفيلم معتد بنفسه وشهرته جدا، يتصرف بعنجهية، يصطاد الفتيات يعيش علاقات مفتوحة، مغتر بنفسه، لكن دينا صدّته، وهذا ما خلق بينهما حالة توتر وصراع مستمر. في المشفى سنعرف ان المدير يستثمر المشفى لمصلحته الخاصة كحاكم مطلق عليها، قوته تكمن من زوجته وقريبها المسؤول الأمني في النظام، استغل المشفى ونهبها بالتعاون مع نائبه، له سطوة على نزيلات المشفى، يستغلهم جنسيا، خفايا المشفى توصلنا الى رئيسة الممرضات التي تمثل أداة استغلاله الجنسي للنزيلات، وبطرق اقرب للوحشية، التعامل مع النزيلات أقرب لكونه معتقل منه ليكون مشفى أمراض عقلية، حقن، مسكنات، تخدير، وتنويم، صعق كهربائي وتعذيب ان الزم. في كل ليلة تؤخذ فتاة الى المدير ليغتصبها وهي مخدرة ومطمّشة، البعض منهن تحمل ويتم إجهاضها، بعضهن يمتن في عمليات الإجهاض، ولا من يسأل او يحاسب، المشفى نفسها تغص الكثيرات ممن دخلن اليها دون ان يكنّ مريضات عقليا أو نفسيا، البعض لأسباب سياسية، هذه اخاها وزير فأدخلها المشفى ليسرق حقها الإرثي، وتلك ادخلت لكونها احبت معارضا واهلها من أنصار النظام… الخ. سعد المدير بمجيء فريق الفيلم وخاصة بوجود الممثلة دينا، فهو يحبها ويشتهيها في أعماقه. بعد مزاولة فريق السينما التصوير بأيام تفاجأ الجميع بمقتل مساعدة دينا. يضطرب جو الفريق وجو المشفى أيضا، يستدعي المدير الشرطة للتحقيق، وندخل في العالم الخفي للكل، دينا تتهم مجد بقتل الفتاة، لأنه كان -اصلا- قد اغتصبها وحملت منه وكانت تطارده دوما لحل مشكلة الحمل والزواج وستر الفضيحة، مجد ينكر القتل، يعترف بالعلاقة الجنسية وابوة الجنين، وبعد ايام تحصل جريمة اخرى فتقتل احدى نزيلات المشفى، وتتشابك الظروف والاحتمالات أكثر، ثم قتل مساعد مدير المشفى وساعده الأيمن، وهذا يجعل المشفى وفريق الفيلم في حالة حذر وخوف وتوتر دائم. يتعاون مجد ودينا بعد وقت من التنافر تحت ضغط استهدافهم من القاتل على البحث عنه، مجد يصبح متهما أساسيا مما يجعله يفكر بالهرب من المستشفى خوفا من الاعتقال في ظروف قد يخسر فيها حياته. يهرب بسيارته ويضيع في الطرقات الفرعية هاربا من حواجز النظام المحاصر للبلدات الثائرة. يلتقي به مسلح مصاب، يتبين أنه من “داعش”، وانه بالاصل من الرقة وان اغلب اهله قتلوا من داعش ومن قصف قوات التحالف الدولي، اضطر أن يلتحق بداعش لان لا مخرج له في حياته الا هم، يأكل ويشرب ويحمل السلاح، يقتل بوحشية ليحمي نفسه، أصيب والتقى بمجد، وتذكره ككمثل كبير، بعد وقت اقنعه مجد بضرورة ذهابه للعلاج في المشفى، ويعود مجد والمسلح الى المشفى، حيث يعالج المسلح الذي يخطف المدير المشابه لمجد مع سيارته ليلتحق بجماعته. يعود مجد الى مسرح الجرائم ليجد القاتل ينتظره ليقتله، لكنه يستطيع بالتعاون مع دينا أن ينجو من القتل ويؤدي للقبض على القاتل، الذي يبرر جرائمه بأنه ضحية طفولة قتل فيها اهله في حماة بسبب جرائم النظام في ثمانينات القرن الماضي، وأنه ينتقم مما حصل معه.
من القاتل؟.
تنتهي الرواية بالقبض على القاتل، واختطاف المدير من قبل المسلح الداعشي، وانتقام المريضات نزيلات المشفى من رئيسة الممرضات الظالمة، وهروبهم من المشفى. واستمرار واقع الحال في سورية خارج المشفى، شعب ضحية ونظام قاتل.
في تحليل الرواية نقول: نحن أمام رواية متميزة تشد قارئها عبر تسارع أحداثها وترابطها وتكاملها، هي أقرب لعمل سينمائي مكتوب، الجو الروائي أقرب للرواية البوليسية، رغم انها ليست بوليسية بالمعنى الحرفي، فهي محملة بالمعطيات الذاتية لابطالها، والخلفية المجتمعية لسورية شعبا ثائرا ونظام وحشي قاتل، واشخاص الرواية ينعكس عليهم واقعهم المجتمعي الخاص والعام، بشكل مباشر وغير مباشر. في الرواية تذكير دائم بأن ما يعيشه الناس أفرادا ومجتمعا في سورية، هي منعكسات لما عانوه من ظلم وقهر واستبداد وتسلط عائلي او سياسي افرز هذه الحالات المريضة التي أصبحت مجرمة، وأفرز حكاما ظلمة كل في موقعه وعلى مستوى سورية كلها، يعملون لتدمير سورية إن لم يستمروا بالهيمنة عليها واستثمارها واستعبادها شعبا وارضا.
الرواية بعملها تظهر مشفى الأمراض النفسية صورة مصغرة عن المجتمع الكبير ، والاستبداد والفساد والجريمة المنظمة لصالح الحاكم، الاغتصاب بصورته الرمزية، اغتصاب لمجتمع كامل، المدير وكونه إله في ملكه، رئيسة الممرضات كنموذج عن أدوات الحاكم المتشبهين به بكل عيوبه وأمراضه. نهاية الرواية المفتوحة على كل الاحتمالات، تجعلها واقعية ككل مانعيشه.
الرواية انتصار بشكل غير مباشر لثورة الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة والعدالة والتشاركية السياسية والحياة الأفضل، وادانة لكل ظلم وقع على الشعب السوري.
إدانة لكل الظالمين.