هذه قصة كنت قد كتبتها في نيسان 1997 بمناسبة الذكرى الخمسين للجلاء و كنت مستعداً لدفع ثمن نشرها مهما كان غاليا حيث كنت في سورية ضمن متناول قبضة القهر أيام كان الأب حياً يعتقل و يقتل.. لكن للأسف أن كل دور النشر الذين أرسلت لهم تلك المجموعة المؤلفة من خمسة عشرة قصة قصيرة معظمها خارج مثلث المحرمات قد امتنعت عن النشر لأعذار مختلفة فلم ترى النور.. و لم يكن لدينا هذا الفضاء الالكتروني الرحب وقتها..
- مشهد الافتتاح
شوارع المدينة مزينة بالحبال الضوئية.. اللافتات في كل مكان.. الشعارات الكبيرة مكتوبة على الجدران بألوان فاقعة.. الناس يسيرون في الشوارع بشكل طبيعي مثل باقي أيام السنة..
- مكالمة رقم (1)
“التفريغ الكامل للتسجيل الصوتي”
رن.. رن.. رن.. رن.. رن.. رن..
ألو
ألو، مرحبا..
أهلا وسهلا.. من يتكلم؟
ألست السيد يوسف العظمة؟
بلى، أنا يوسف العظمة.. من يتكلم؟
جيد أني وجدتك يا سيدي.
من أنت؟! ألا تعلم أنني لا أغادر قبري أبدا..
بلى أعلم يا سيدي.. لكن أرقني تأخرك بالرد على الهاتف.
فقط أريد أن أعرف من أنت؟ وماذا تريد؟ لتتصل بي في مثل هذا الوقت المزعج.. لم تكن لدي الرغبة بالرد لولا هذا الجرس الذي يوقظ أثقل الأموات نوما..
أسف يا سيدي.. لكنني مكلف أن أبلغك برقية هامة وعاجلة..
برقية!! من من؟؟
من الرفاق..
أنا لا أفهم شيئا.. يبدو أنني أرى حلماً مزعجاً.. علي أن أغلق الخط حالا..
لا، لا.. أرجوك يا سيدي لا تغلق الهاتف، الخطوط سيئة جدا، بالكاد تمكنت من التقاط المكالمة، وإن لم أبلغك البرقية الليلة سيكون مصيري أعتم من القبر..
يبدو أنك مجنون أو سكران.. وأنا لا وقت لدي أضيعه بالهراء.
سيدي، أرجوك اصبر قليلا سأشرح لك كل شيء.. الموضوع هام جدا..
قل إذن قبل أن ينفذ صبري.
تعلم سيدي أن يوم الغد يوافق الذكرى الخمسين لجلاء الاحتلال البغيض عن أرض وطننا الحبيب أدام الله عزه وأبقاه..
أعرف.. ولا أحتاج من يذكرني.
حسنا هذا يسهل مهمتي كثيرا..
هه..
سيدي إننا عازمون على إقامة احتفال كبير في هذه المناسبة العظيمة.. وقد اختارك الرفاق لتلقي كلمة الشهداء في الحفل..
آسف.. إنني أجيد القتال، ولا أجيد صنعة الكلام.
لكن زمن القتال ولى.. الآن زمن الإعلام..
هذه مشكلتكم.. على أية حال لكل زمن رجال.
سيدي الكلمة مكتوبة وجاهزة تماما.. حتى مواقع التصفيق مشار لها لتتوقف عندها.. أنت عليك القراءة فقط.. وعلينا نحن الباقي.. فماذا تقول؟
لا
سيدي.. أنا لا أصدق أذني.. يوسف العظمة يرفض المشاركة في هذا الواجب الوطني الجليل!!
لقد أديت واجبي على أكمل وجه.. قاتلت حتى استشهدت.. دعوني أرتاح في قبري قليلا.
الوطن أهم من الراحة..
أعلمتك أني لا أحب الكلمات.
سيدي أرجوك أن توافق.. أرجوك سيخربون بيتي وبيت أهلي أيضا..
من هم؟!
سيدي كرمى لأولادي السبعة أن توافق أرجوك..
ما دخل أهلك وأولادك في إلقائي الكلمة.. أنا لا أفهم شيئا من حولي!
نعم.. أنت لا تعرف شيئا.. لذلك أرجوك أن توافق..
لا أستطيع.. ولا أريد جدلا.
طوط.. طوط.. طوط..
- مكالمة رقم (2)
“التفريغ الكامل للتسجيل الصوتي”
رن.. رن
ألو.. سيدي يوسف العظمة رفض أن يلقي الكلمة في الحفل..
ماذا؟ كيف رفض!!
سيدي.. قال: إنه لا يجيد الكلام..
هراء.. هل يوجد أحد لا يجيد التشدق بالكلمات! إن هذا أسهل عمل يقوم به الإنسان..
والله هذا ما قاله بالحرف
اخرس.. يوسف العظمة بطل وطني، ولا يمكن أن يتردد أمام عمل وطني كهذا..
سيدي لقد حاولت بكل جهدي.. لكنه مصرّ
سد فمك، لا أريد أن أسمع صوتك.. لعنة الله عليك، إذا كنت لا تعرف كيف تكلم الأحياء فكيف تكلم الأموات الأجلاء.. لكن الذنب ليس ذنبك بل ذنبي أنا لأني كلفتك بهذه المهمة.. سأتصل به أنا بنفسي.
سيدي إنه عنيد جدا.. ما رأيك أن نتصل مع حسن الخراط؟
حسن الخراط يا غبي!! يا ابن.. ألم أقل لك أن القيادة تريد يوسف يا حمار.. أتريد أن تخرب بيتي.. من الغد تحمل أغراضك وتعود إلى وظيفتك القديمة..
طوط.. طوط.. طوط..
- مكالمة رقم (3)
“التفريغ الكامل للتسجيل الصوتي”
رن.. رن.. رن.. رن.. رن..
ألو
ألو مرحبا.. الرفيق يوسف العظمة؟
نعم أنا يوسف العظمة. من رفيق هذا؟
أنت عزيزي رفيقنا في النضال ضد الاستعمار والإمبريالية والرجعية..
أدخل في الموضوع فورا.. أنا لا أفهم شيئا من الألغاز التي تتحدثون بها الليلة.. كل ما أعرفه أني أكلمك من عند الرفيق الأعلى.
رفيق يوسف، نمى إلى سمعنا أنكم لا تريدون إلقاء كلمة الشهداء في عيد الجلاء.. طبعا هذا لا يليق بتاريخكم الوطني الكبير.. نرجو إعطاء توضيح لموقفكم الغامض هذا؟
تاريخي فيه معارك.. ليس فيه كلمات وخطب.
نغير لك التاريخ إذا شئت..
التاريخ حدث وانتهى وصار ملك الناس.. كيف تغيره أيها الحمق!؟
لا.. لقد تجاوزت حدودك أكثر من اللازم، يبدو أنك لا تعرف شيئا.. أقسم بالله إن لم تأت وتلقي الكلمة التي كتبناها لنجعلك خائنا وعميلا قذرا للصهيونية والقوى الاستعمارية..
افعلوا ما بدا لكم.
ألو رفيق يوسف، يوسف بيك.. يوسف الزفت
طوط.. طوط.. طوط..
الله يخرب بيتك كما خربت بيتي يا..
- مكالمة رقم (4)
“التفريغ الكامل للتسجيل الصوتي”
رن.. رن
ألو ماذا حدث معكم؟ منذ أكثر من ساعة أنا انتظر مكالمتكم هذه.
سيدي، الرفيق يوسف رفض أن يلقي الكلمة.
كيف رفض!؟ هل هددته؟؟
سيدي لم نترك وسيلة لم نستخدمها.. إنه عنيد أكثر مما تتصور..
بل أنتم أغبياء أكثر مما كنت أتصور..
سيدي و..
لا أريد كلمة واحدة.. لم أكلفكم بمهمة ونجحتم بها.. سأتصل به بنفسي..
سيدي رأسه صخرة صماء.. ما رأيكم أن نتصل مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر؟
من! الشهبندر!! يا غبي يا.. ألا تعرف أن الشهبندر كان مشكوك في عمالته للإنكليز! تريدني أن أحضره على مسؤوليتي لأصبح مشبوها أيضا أليس كذلك؟ أنا أعرف خططك.. تريد أن “تطيّرني” من منصبي لتحل محلي.. والله لأجعلن مستقبلك أظلم من القبر يا ابن..
ألو سيدي آسف يبدو أ..
طوط.. طوط.. طوط..
“الله يخرب بيتك يا يوسف العظمة على بيتك يا عبد الرحمن الشهبندر وعلى من قبلكم ومن بعدكم كما خربتم بيتي بعنادكم الفارغ..”
- مكالمة (5)
“التفريغ الكامل للتسجيل الصوتي”
رن.. رن.. رن.. رن.. رن..
ألو.. من هذا المزعج بعد منتصف الليل.
ألو.. يوسف العظمة.
نعم أنا يوسف العظمة، هل تذكّرني كل الناس هذه الليلة بالذات.
لماذا تتلكأ في تنفيذ الأوامر بحجج وأعذار تافهة..
من أنت حتى تكلمني بهذه اللهجة!؟
اسمع فقط.. لا تتفلسف كأنك مازلت تعيش في زمن العنتريات الفارغة..
أنا أعيش في الزمن الذي أريد.
بل تعيش في الزمن الذي نحن نريد. لذلك ستسمع بلا نقاش: أنت مكلف بإلقاء كلمة في احتفال الغد.. تدبر أمرك حتى ذلك الوقت.. وإذا لم تأت سيكون لنا معك شأن آخر..
لن أفعل.
هذه أوامر القيادة، إياك أن تفكر بالعصيان.
أنا ميت ولا تسري علي أوامر.
أحياء أموات عندي سواء.. الكل ينفذ أوامر القيادة بلا تردد أو تذمر..
أنا ميت ولا أستطيع الحركة.
أنت ترفض إذن.. حسنا سنعلمك كيف تجيد الكلام والحركة مثل بهلوانات السيرك يا..
طوط.. طوط.. طوط..
- قبيل الفجر
جاءت سيارات كثيرة بألوانها العابسة.. انقض منها جنود بالعتاد الكامل.. بدؤوا نبش قبر منفرد فوق تلة ساكنة كأنها تحتضن ابنها الصغير..
أطبق الجنود على الأم العجوز، أبعدوا يديها الواهنتين، انتشلوا الابن النائم في حضنها.. كان مرتديا ثيابا عسكرية ممزقة بالشظايا، مبللة بدم لزج حار سال على أيديهم وثيابهم فازدادوا صخبا ونشوة.. ارتفعت ضحكاتهم، وازدادت وخزاتهم وركلاتهم له، لكنها لم تستطع إيقاظه من نومه.. لكن أيقظه البرد من الابتعاد عن حضن أمه الرؤوم.
- مشهد الختام
ألقوه في سجن بعيد كنبتٍ غريب في أرض عارية تحيط به جدران عالية، وأسلاك شائكة ذات أبر واخزة..
جلدوه كثيرا، لم يبك.. وضعوه في الماء المثلج، لم يبك.. أطفؤوا سجائرهم في جسده، لم يبك..
وضعوه في غرفة صغيرة مظلمة، فيها جهاز على شكل صندوق يعرض الاحتفال بالذكرى الخمسين لعيد الجلاء..
كان مذيع شاب يقدم الحفل، ويمهد للخطباء الذين يجعجعون بكلمات طنانة كتدرحرج الطاسات النحاسية..
قدم المذيع كلمة الشهداء في الحفل التي يلقيها الشهيد يوسف العظمة..
تقدم شاب بلباس عسكري أنيق نظيف وخوذة حديدية لامعة من المنير
شاهده يوسف السجين بأم عينه..
يشبهه كثيرا.. لكن جسده لم تخدشه شظايا القنابل.. لم تنهشه طعنات السيوف.. ولا نالته سياط الجلادين.
تلك اللحظة كانت أول مرة تعرف فيها الخدود طعم المرارة في الماء المنساب من العيون.. عيون يوسف السجين في غرفة صغيرة مظلمة، لا يوسف الواقف خلف المنابر.. أمام عدسات التصوير.
19/4/1997