بري يتحرك بعيداً من الأضواء داخلياً وخارجياً و”السياديون” يتهمون هيمنة إيران بالتأزيم المستمر. بات التعايش اللبناني مع الشغور الرئاسي الذي يدخل شهره الخامس منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مكلفاً للأطراف السياسية جميع وللبنانيين وللوضع الاقتصادي المالي المتردي يوماً بعد يوم، فيما تغرق القيادات السياسية بحالة التسليم بالعجز الكامل عن ابتداع المخارج للمأزق، فيغلب عليها الانتظار، والعبارة التي تتردد على ألسنتهم معظمهم “الأمور لم تنضج بعد”.
في مقابل ذلك يقول مصدر سياسي منخرط بأجواء الاتصالات المحلية والخارجية لإنهاء الفراغ الرئاسي، إن هناك بعض الجهود التي تتحرك بعيداً من الأضواء، يتولاها رئيس البرلمان نبيه بري، انطلاقاً من القناعة بأن إبقاء البلد في الفراغ لم يعد يحتمل التفرج على مزيد من التدهور، الذي يتسبب في شلل المؤسسات الدستورية والإدارية والمالي والقضائية، وينعكس على الخدمات الأساسية الاستشفائية والتربوية والنقل والكهرباء، ويطرح مخاوف حتى على المستوى الأمني بعد تفاقم حالة العوز والفقر التي تسبب النقمة الشعبية في الشارع.
“البلد لا يحتمل أسابيع”
مع قفزات ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي الجنونية وانهيار الليرة اللبنانية، وسط الخلافات بين المسؤولين حول المعالجات المطلوبة للنهوض بالاقتصاد، تتلاشى قدرة البلد على الصمود، والتأقلم مع الحالة المزرية، مما ينذر بانفجار اجتماعي، يعتبر المصدر السياسي أنه إذا لم يتم الاتفاق على مخرج من الجمود الحالي، سيكرس لبنان دولة فاشلة.
ويشير المصدر نفسه إلى أن بري الذي يكرر القول منذ شهرين إن أوضاع البلد لا تحتمل أسابيع من الفراغ، يتواصل بعيداً من الأضواء، مع بعض الفرقاء المحليين، ويستكشف إمكان توسيع جهوده نحو الخارج، وخصوصاً مع الجهات العربية المعنية بلبنان. إلا أن الأفكار التي يسعى إلى تسويقها ما زالت طي الكتمان.
ويسيطر الجمود على إمكان إحداث تقدم في إنهاء الشغور الرئاسي نظراً إلى التعادل السلبي في ميزان القوى النيابي. فالمعروف أن بري يؤيد ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية للرئاسة بالاتفاق مع “حزب الله”، الذي ما زال متمسكاً به، على رغم أنه و”الحزب” لم يعلنا صراحة دعم ترشيحه، ولا فرنجية جاهر بترشحه علناً، مفضلاً التريث في انتظار تأمين توافق على اسمه يسمح بضمان الأكثرية لانتخابه، مراهناً على تسوية إقليمية ترجح كفته… “الثنائي الشيعي” لم يتمكن حتى الآن من ضمان أكثرية النصف زائداً واحداً (65 نائباً) لفرنجية ولا نصاب الثلثين لانعقاد الجلسة، بعد التباعد بينه وبين حليفه “التيار الوطني الحر” برئاسة النائب جبران باسيل الرافض لرئيس “المردة”، ولا خصومه في القوى السيادية والتغييريين والمستقلين استطاعوا توحيد موقفهم حيال مرشح واحد، ويكتفي بعضهم بتأييد النائب ميشال معوض، بعدد أصوات غير كافٍ، ما يكرس التعادل السلبي بين المرشحين. وهذا كان حجة رئيس البرلمان للامتناع عن الدعوة إلى الجلسة النيابية الثانية عشرة لانتخاب الرئيس، منذ الجلسة الأخيرة في 19 يناير (كانون الثاني) الماضي.
كما أن اعتصام النائبين التغييريين ملحم خلف ونجاة صليبا داخل البرلمان منذ زهاء 40 يوماً، وتأييد أحزاب معارضة لهما مطالبين بعقد جلسات متواصلة حتى انتخاب الرئيس، بقي محدود الفاعلية في حمل بري على التجاوب مع هذا المطلب.
“حزب الله” يتهم خصومه بما يتهمونه به
ينحصر المشهد السياسي اللبناني بالضجيج الإعلامي حول المشكلات الاجتماعية والحياتية اليومية وتقاذف المسؤولية عن قصور الحكومة في معالجتها وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عما آلت إليه تارة بين الحكومة والبرلمان وأخرى بين القوى السياسية، فيما فرض رفض الكتلتين النيابيتين المسيحيتين الكبريين، التابعتين لـ”القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” ونواب حزب “الكتائب” انعقاد البرلمان للتشريع في ظل الشغور الرئاسي مخافة التأقلم مع تمديد الفراغ، عجز السلطة التشريعية عن اتخاذ أي قرار. أما تسيير شؤون البلد ومعالجة إضرابات القطاعات المختلفة مطالبة بتحسين أوضاعها فأدى إلى تقييد اجتماعات مجلس الوزراء ببت مواضيع ملحة، مع مقاطعة سبعة وزراء يمثلون “التيار الوطني الحر”، وتركز القوى السيادية على رفضها الخضوع لمرشح “حزب الله” الرئاسي بحجة أن هيمنته على السلطة ستبقي البلد في تأزم مستمر.
ومن المفارقات التي ينتجها الجمود أنه في وقت يتهم السياديون وبعض المستقلين “حزب الله” بالتسبب في الفراغ الرئاسي، لاعتماده الورقة البيضاء في التصويت في البرلمان، ثم بتعطيل النصاب في الدورة الثانية من الاقتراع (في الجلسات الإحدى عشر السابقة)، وبأنه دولة ضمن الدولة ويمسك بالرئاسة ورقة تفاوض في يد إيران في الصراع الإقليمي ويريد فرض رئيس مطواع لتوجهاته… “الحزب” بدوره ينسخ الاتهامات نفسها ليلصقها بخصومه، بأنهم يتواطأون مع الغرب وأميركا ودول عربية لاستهداف البلد. وآخر الأمثلة ما قاله عضو المجلس المركزي في “حزب الله” الشيخ نبيل قاووق في 27 فبراير (شباط) عن أن لبنان “يتعرض لعدوان إقليمي ودولي لإسقاطه مالياً واقتصادياً واجتماعاً، وهذه الحرب مستمرة”.
ومقابل ما تكرره المعارضة عن العزلة التي تسبب فيها “حزب الله” للبنان عن العالم العربي ودول الخليج التي لن تقدم له المساعدات المالية طالما يواصل “التآمر” عليها في اليمن، وغيره، كما نقل بوضوح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ومقابل اتهام “الحزب” بأنه سلم لبنان لإيران وأقحمه في حروبها، يعتبر قاووق أن دول الخارج “تستهدف لبنان لإضعافه وإغراقه في الأزمات، وبتنا في مرحلة لا نريد فيها مساعدة أميركا وبعض الدول العربية، بل نريد أن يكفوا شرهم عن لبنان، والمال الذي ينفق من قبلهم هو للفتنة وليس للإنقاذ لإخضاعنا وفرض شروط سياسية للانقلاب على موقع ودور وهوية وتركيبة لبنان”. يذكر أن أول من أطلق التحذير من تغيير “هوية لبنان” هو البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الذي اتهم “حزب الله” بجر البلد إلى محور يناقض سياسته الخارجية التقليدية، وعلاقاته العربية، مطالباً بالحياد.
المقايضة بين رئاستين سقطت
وإذ ينتهي الخطاب التعبوي لـ”الحزب” إلى الدعوة للحوار للتوافق على الرئيس الجديد، الأمر الذي يرفضه خصومه لاعتقادهم أنه يرمي إلى إضاعة الوقت، ثم التسليم بمن يختاره ومحاولة اجتذاب بعض النواب إلى خياره بانتخاب فرنجية بحجة الخروج من الفراغ القاتل، فإن قاووق اتهم بعض الدول العربية بأنه “أراد أن يفرض رئيساً للجمهورية ورئيساً للحكومة”، خلال اجتماع باريس الخماسي بين ممثلين عن الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر إلى جانب فرنسا في 6 فبراير الماضي.
والتسريبات عن ذلك الاجتماع وما تبعه من اتصالات، تحدثت عن أن الجانب الفرنسي استمزج الآراء حول معادلة رئيس يطمئن إليه “حزب الله” هو فرنجية، ورئيس للحكومة يطمئن إليه السياديون و”التغييريون” (مع افتراض قبوله من دول غربية وعربية) هو الدكتور نواف سلام، لكنها لم تلق تجاوباً، وأن دولاً أخرى طرحت خيار تولي قائد الجيش الرئاسة. وهو خيار يرفضه “حزب الله” بحسب مقربين منه، لأن العماد جوزيف عون علاقته وطيدة مع الأميركيين، ولكن كل هذه الاحتمالات نفتها مصادر الدول الخمس التي اجتمعت مؤكدة أنها لم تتناول أسماء المرشحين.
في كل الأحوال سقطت تلك المعادلة لأنها لا تعالج الإشكالية السياسية التي تثيرها الدول المعنية بلبنان والقوى اللبنانية المعارضة لمحور الممانعة، والمتعلقة بالنهج الذي سيعتمده الرئيس المقبل: هل سيرضخ لنفوذ “حزب الله”، أم سيسعى إلى قدر من الاستقلالية عنه؟ وهل سيواصل “الحزب” الإفادة من تغطية حليف له في قمة السلطة، يراعي تحويله البلد منصة تنسجم مع المشروع الإيراني الإقليمي، ضد الدول العربية، ولا سيما الخليجية؟
وتعتبر مصادر قيادة حزب “القوات اللبنانية” أنه “ليس مطروحاً داخلياً وخارجياً المقايضة بين الرئاستين، لأن التجربة أثبتت استحالة الإنقاذ في ظل مشروعين متناقضين داخل السلطة التنفيذية التي تحتاج إلى تركيبة متجانسة للإنقاذ”.
الامتناع عن التسمية
ولعل تقديم هذه الدول نهج الرئيس على اسمه يدفعها إلى تكرار اللازمة القائلة إن تسميته شأن لبناني، وتضع بذلك الفرقاء أمام الاختيار بين الالتحاق بمحور معادٍ لها في ظل صراع إقليمي محتدم، مع ما يرتبه ذلك من رفضها مساعدته مالياً لأنها ستصب في مصلحة “الحزب”، وبين تحييد البلد عن هذا الصراع عبر هوية رئيس الجمهورية الذي سيختارونه ومدى استقلاليته عن “الحزب”، فيفتح باب احتضان البلد وإنقاذه. أي إن الدول تدعو الفرقاء إلى حسم تموضع الرئيس على الصعيد الإقليمي.
ويعبر مصدر قيادي في “التيار الوطني الحر” عن اقتناع بوجوب تعديل “حزب الله” وإيران من ورائه، توجهاتهما حيال تركيبة السلطة، بعد تجربة السنوات الست الماضية من عهد الرئيس السابق العماد ميشال عون. ويرى القيادي نفسه أن “الحزب” لم يعد قادراً على الاحتفاظ بنفوذه في السلطة كما فعل، لأنه جلب نتائج عكسية كما هي الأوضاع راهناً. تجارب غيره من القوى الإقليمية والخارجية انتهت إلى النتيجة نفسها، في مرحلة النفوذ الفلسطيني، ثم السوري والآن الإيراني. ويرى المصدر أنه إذا كان البلد مر بنوع من الاستقرار في مراحل سابقة نتيجة تسويات إقليمية جنبته الخضات من نوع التفاهم السوري – السعودي، فإنه يحتاج إلى تسوية إقليمية جديدة تحمي نهوضه من المأزق. والسؤال هل يلوح في الأفق الإقليمي تباشير تسوية من هذا النوع؟
المصدر: اندبندنت عربية