كانت سورية إلى ما قبل الثورة حاضنة للجوء العربي بدءاً من اللجوء الفلسطيني وصولاً إلى اللجوء اللبناني، ويدخلها أي عربي دون تأشيرة، قبل أن تتحول هذه الحالة لمجرد ذكريات مع الثورة، وبدء النزوح السوري باتجاه دول الجوار وصولاً إلى بلدان أعالي البحار. فاليوم، تؤشر الاحصائيات الدولية إلى أن سورية أصبحت المصدر الأكبر لموجات نزوح ولجوء جماعي ضاقت دول الجوار عن استيعابه. في لبنان مخيمات لجوء غير معترف بها في المعظم، وفي الأردن مخيم الزعتري، أكبر مخيم للاجئين السوريين، وفي مصر منع لطائرة سورية أن تهبط دون تأشيرة للاجئين هاربين من بطش عصابات الأسد، وفي تركيا أصبح مصير اللاجئين موضوع مساومة ضمن البرامج الانتخابية لمختلف الأحزاب السياسية، دون التفريق بين من هاجر لأسباب الاضطهاد وقمع عصابات الأسد ومواليه، وبين من هاجر لأسباب اقتصادية.
وإن كان هنالك جزء كبير من اللاجئين حالياً في الداخل السوري ودول الجوار يبحثون عن مستقبلهم في كندا أو الدول الأوروبية. وهم غالبيتهم من الذين لم يتمكن أطفالهم من الحصول على التعليم المناسب، كما أنهم لم يجدوا الفرص المناسبة للعمل وإعالة أسرهم، أو الذين اضطروا إلى العمل بأجور زهيدة وغير مؤمن عليهم ولم يستطيعوا الاندماج في المجتمعات المضيفة، مما جعلهم عرضة للاستغلال الرخيص، بسبب عدم امتلاك البلدان المضيفة آليات لدمجهم ضمن المجتمع واستيعابهم كقوة عاملة رديفة، وخاصة ضمن الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها جميع دول المنطقة. مما جعل هؤلاء اللاجئين هدفاً بعد الأزمة الاقتصادية، فأصبحوا هم الشماعة التي تعلق عليها مشكلة البطالة، والفقر المتفاقم، وبالتالي أصبحوا هدف ردود الأفعال العنصرية.
كما عكست النقاشات والاتهامات المتبادلة التي صاحبت جلسة مجلس الأمن الأخيرة، في شأن تمديد أجل العمل بآلية إيصال المساعدات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة عبر معبر “باب الهوى” الواقع على الحدود السورية التركية، مدى الابتزاز الدولي لمأساة الملايين من لاجئي الداخل السوري، حيث تستوعب المنطقة الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد أكثر من أربعة ملايين شخص، يقيم نحو ثلاثة ملايين منهم، في مناطق بمحافظة إدلب وريف حلب الغربي، بينما يقيم 1.1 مليون في مناطق شمال حلب، نسبة لا تقل عن 30% منهم ضمن مخيمات تشرف عليها هيئات ومنظمات تدعم من قبل جهات عربية ودولية، مما يجعل هذه المنطقة ذات كثافة سكانية عالية. ولانعدام الموارد الطبيعية اللازمة لقيام مشاريع تستوعب هذه الكثافة السكانية، إضافة لانعدام الاستقرار الأمني، جعل من المستحيل قيام مشاريع ذات ديمومة تحقق الأمن الغذائي والاستقرار المعاشي، وبالتالي توفير فرص عمل وعائد اقتصادي يسهل العيش الآمن ضمن هذه المنطقة.
وقد شكل مجتمع اللاجئين وخاصة في الداخل السوري، تجمعات لا تتمتع ببنية متجانسة، وإنما كنتونات مناطقية، لم تنسجم وتندمج مع بعضها، وإن كانت معظمها تعاني ذات الوضعية الاقتصادية وهُجرت من مدنها وفقدت أفراد منها وبعض العائلات فقدت معيلها، وخرجت إلى مناطق وبلدات لم تزرها سابقاً، في رحلت لجوء كانت مؤقتة ولكنها يبدو غدت بلا تحديد لميقاتها، تبني من جديد آليات لاستمرارها في الحياة، وتعتاش معظمها على المساعدات الإنسانية بعد أن فقدت ممتلكاتها، وغادرت موطنها بما خف حمله لإنقاذ حياة من تبقى من أفراد عوائلها.
وإن كان وجد بعض منهم من يستطيع أن يعينه على استمرار الحياة في بلد اللجوء، أو ضمن بقعة شبه آمنة في وطنه، إلا أن الكثيرين مازالوا يعانون، وخاصة في الداخل السوري، من تناقضات واختلافات سببتها ما آلت إليه الأمور من انهيار السلطة المركزية التي عاشت فيها سورية منذ نشأتها وترافق ذلك مع ظهور سلطات أمر واقع فحصلنا على تعدد سلطات ذات سيادة مادية وروحية وأيديولوجية متباينة. مما نتج عنه تحطيم السوق والبنية التحتية للاقتصاد من زراعة وصناعة وحرفة، وصولاً إلى انهيار العملة الوطنية التي هي عماد الحياة الاقتصادية، وتبعه بالتالي تحطيم التجارة الداخلية والخارجية، وتحويل أغلب فئات المجتمع إلى فئات فقيرة.
فمجتمع اللجوء السوري حمل معه أمراض عايشها الوطن على سنوات تشكله، وغرست فيه شرخان كبيران، الأول الشرخ الطائفي الذي نشأ في مرحلة ما قبل الثورة وظل مستتراً غير معبر عنه بفعل قوة السلطة القمعية، ثم كشفت عنه الثورة، فظهر الآن بصورته العملية والقولية. أما الشرخ الثاني فهو الشرخ بين الكردي والعربي. وهو شرخ ذو جذور في الوعي الكردي شمال شرق سورية، هذا قد مهد السبيل أمام بروز السلطة الكردية وصورة من صور سيادتها في الشمال الذي هو بالأساس وسط سكاني مختلط، معزز بوهم قومي كردي عند بعض نخبهم.
كل هذا ولم ندخل في الأمراض النفسية التي سببتها عصابات الأسد وداعميها بأعمالهم الإجرامية الوحشية، أمراض سنحتاج لسنوات كي نعيد الأطفال إلى أفراد سويين فاعلين حقيقيين في المجتمع. إضافة لما سببته أعمال القصف الهوجاء من بتر أطراف وتحويل الآلاف من معيلي الأسر إلى عجزة يحتاجون إلى مُعيلين، فمخيمات اللجوء تعج بهذه الحالات التي تعجز المنظمات الدولية والمحلية عن القيام باحتياجاتها، ناهيك عن الاستغلال البشع لملف المساعدات الإنسانية من قبل حلفاء عصابات الأسد وتسييسه ليكون أداة ابتزاز في المحافل الدولية.
بعد كل ما عاناه ويعانيه اللاجئ السوري في أماكن وجوده، أصبح هنالك ضرورة لجود جسم سوري موحد يعالج مشكلاتهم ويكون قادراً على تحريك مؤسسات المجتمع الدولي من أجل تقديم الحلول العادلة لهم في أماكن وجودهم، ويكون قادراً أيضاً على دعمهم في مجتمعاتهم، ومساعدتهم في تحصيلهم لحقوقهم الإنسانية والمدنية، وهذا أمرٌ يلح في سبيل إنهاء السباقات التنافسية على السلطة والزعامات، وتحقيق أهداف الثورة السورية بتحرير سورية من عبث اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين لإنهاء محنة صناعة لاجئين جدد، فالكثير منهم يرغب في العودة إلى وطنه وأن يكونوا جزءاً من التحول الديمقراطي ونيل ما ضحّى الملايين من بناتهم وأبنائهم لبلوغه، بإقامة نظام ديمقراطي قائم على المواطنة في سورية الموحدة الحرة.
المصدر: اشراق