تعطّلت وسائل المواصلات العامة والخاصة في المدن السورية في الأسبوع الأخير، واصطفّ السوريون آلافاً مؤلفة في الساحات أو على جوانب الطرقات، أملاً بالمرور، للوصول إلى الأعمال أو الجامعات أو المعامل. ساعاتٌ طويلةٌ من الانتظار في الجو البارد مضت، ولم تظهر تلك الناقلات، ويبدو أنّها ستصبح حالة مستدامة؛ فهناك شحّ في كمية المحروقات، ولا سبيل لتعويضها بشكلٍ جذري قريباً.
بالتوازي مع هذا الحدث، ارتفعت أسعار المحروقات الحرّة في السوق السوداء، و”حلّقت” معها تسعيرات النقل. المشكلة أن أغلبية السوريين لا تستطيع دفع أيّة نقود إضافية، فأجورهم شبه ثابتة، ولا تفي بتلبية حاجات تغذية أولادهم وشراء الأدوية والأساسيات. وبالتالي، بدأت دوائر الدولة والقطاع الخاص بالشلّل. المؤسسات الاقتصادية والمزارعون بدورهم راحوا يُعلُون الصوت، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الأحاديث اليومية، وبدأت الاحتجاجات مجدّداً في مدينة السويداء، وهناك احتمالات لحدوثها في مدنٍ أخرى.
مشكلة شحّ المحروقات برأي النظام السوري هي في توقف الواردات، بينما ترى أغلبية السوريين أنَّ السوق السوداء عامرةً بالمازوت والبنزين، وتعيد أمر السوداء هذه مباشرة إلى شخصيات مرتبطة بالسلطة. وبالتالي، هناك شعور عارم بأنّ الأزمة ليست حقيقية بكل أوجهها، ويُراد منها استغلال الظروف الدولية وظروف إيران لإعادة سبب الأزمة إليها، من أجل الإمعان في تحرير أسعار المحروقات، والكهرباء، وسواها، وجني مليارات الدولارات بسبب ذلك، وهي في الحقيقة سياسة النظام الممنهجة “التحرير والخصخصة” منذ عام 2000، وكانت حصيلتها الثورة في 2011.
ازدادت في السنوات الأخيرة أوضاع قطاع الكهرباء سوءاً، وترافق مع ذلك انهيار أوضاع شبكة المياه؛ ففي اللاذقية، يتم نقل مولد واحد من مكانٍ إلى آخر لاستخراج المياه وتوزيعها على الأحياء، حيث بقية المولدات معطّلة ومنذ سنوات، وجاءت أزمة المحروقات لتعطّل شبكة الاتصالات جزئيا. وقبلها وبالتزامن معها، انحدرت أوضاع أغلبية السوريين، ويتفقون على أن ما قبل 2018 كانت الأوضاع قابلة للحياة، ولكن الموت أصبح في الأشهر الأخيرة مساوياً لها، ورافقت هذا الأمر هجرة كبيرة جديدة. والمقصد من التاريخ السابق أن مناطق واسعة كانت خارج سيطرة السلطة، وكانت تمدّها بالعملة الصعبة، وبالتالي تحافِظ على قيمة العملة السورية نسبياً.
لن تتراجع أزمة المحروقات هذه كما يبدو، والليرة السورية في انخفاضٍ يوميٍّ، سيما في الأشهر الأخيرة، ومعها الأجور وأوضاع الناس، والمواصلات، وهذا يعني أن هناك أزمة عامة وليست فقط اقتصادية؛ فالنظام السياسي غير قادرٍ على التحكّم بأيٍّ منها، وقد حاول ذلك في السنوات السابقة؛ وأزمته هذه مرتبطةٌ بشكل مباشر بالارتباك الشديد لأوضاع الدول الداعمة له، ونقصد كلا من إيران وروسيا، اللتين أوقفتا خطوط الائتمان، وتحديداً إيران، ولم تعد تأتي مليارات الدولارات أو ناقلات النفط بشكلٍ منتظم.
عَوّلَ النظام على الانفتاح على بعض الدول العربية، ولكن مصر عادت لتؤكّد رفضها الانفتاح، سيما في رفض دول عربية عديدة لحضور سورية مؤتمر القمة العربية في الجزائر، وكذلك عدم السير بخط الغاز المارّ من سورية ووصولاً إلى لبنان، وحتى الإمارات، التي بدا أنّها تحاول حثيثاً الانفتاح عليه تراجعت عن مسارها. تركيا الطامعة بأفضل العلاقات مع روسيا انفتحت على النظام بدورها، وكذلك بسبب المعركة الانتخابية التركية القادمة، ولكن العطالة الكبيرة للنظام السوري جعلته غير قادرٍ على الاستدارة نحو الأتراك، والتطبيع معهم، ولم يعمل على بحث آليات سياسية معينة، تتيح له الإصلاح، وتَحمّل مسؤوليات كبيرة فيما حدث بعد 2011. وبالتالي، انحصرت العلاقات ضمن الأطر الأمنية، وما تزال التصريحات بخصوص العلاقات السياسية بلا نتائج تذكر.
تفويت النظام فرصة الانفتاح على تركيا، وبغياب قدرة إيران وروسيا على دعمه، سيعني مزيدا من الانهيار العام. كانت قوّة النظام متأتية من الانقسامات بين السوريين، ووجود كتلة موالية له، ووجود بروباغندا سلطوية تؤكد قوّة النظام و”سلفية” الفصائل، و”انفصالية” الأكراد، وجهادية هيئة تحرير الشام. كانت تلك البروباغندا لاجمة للناس عن التظاهرات الواسعة، ولكن الأزمة المتفاقمة أخيرا والشاملة أصبحت تستدعي حلاً؛ فالناس بالكاد يقضون احتياجاتها الأساسية. تنذر الأوضاع المتفاقمة بخطر الانفجار، وهي تحتاج شرارة، ويسمّيها بعضهم السبب اللامتوقع، ليتدفق الناس إلى الشوارع، وقد تداولت بعض صفحات وسائل التواصل أن النظام يعيش حالة رعبٍ من ذلك، حيث سارع في بعض المدن السورية إلى إنزال أفراد من أجهزة الأمن لمراقبه تلك الجموع المحتشدة، والمنتظرة وسائل المواصلات ساعاتٍ طويلة.
توقف روسيا أو إيران عن دعم النظام سيعني بحثهما عن مبادراتٍ جديدةٍ لإخراجه من أزمته المتفاقمة، وعدم قدرتهما على “انتشاله” منها. يبدو أن ضغط روسيا على تركيا من أجل التطبيع في حالةِ تراجعٍ، أو لم ينضج كفاية، وقد أخّرَ الأمر الرئيس التركي، أردوغان، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، وها هو يحشد قواته، أو يضغط بالعملية الجوية، الجارية، من أجل اقتطاع منطقة واسعة لتركيا “آمنة” ليفرض دوراً أكبر له في سورية، ويعيد اللاجئين إليها، وينهي خطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سورية الديمقراطية (مسد).
التأزم “الخفيف” بين تركيا وروسيا بخصوص العملية البرّية يعني أن التطبيع بين النظام وتركيا ليس في أحسن حالاته، وأنّه يتطلّب شروطا كثيرة. موافقة تركيا، أو اقتراحها نشر قوات للنظام على حدودها، ليس لصالح النظام، المنهك أصلاً؛ فستحتاج تلك القوات إلى إمداداتٍ كبيرة، وهذا سيشتت قدرته على القمع وشن المعارك في بقية المدن السورية، بينما كان النظام قد أوكل لقوات “قسد” التموضع على الحدود، وضد فصائل عديدة منذ سنواتٍ. هذا “فخّ” ينصبه أردوغان للنظام، وبالطبع سيضطر الأخير للاحتكاك المستمر بالقوات الأميركية، وستَحدث المشكلات مع “قسد” التي تشترط للاندماج بقواته، وقد بدأت أميركا ترفع الحماية عنها وتدفعها إلى التنسيق معه، المحافظة على تشكيلها المستقل، وهو ما يرفضه النظام بشكلٍ كامل.
إذاً القضية ليست محصورة في انهيارٍ اقتصاديٍّ وَلّدَ احتجاجات شعبية، وتذمرا واسعا، بل وكذلك هي أزمة سياسية مستفحلة، تقول بعدم قدرة حليفتيه، روسيا وإيران، على إعادة شرعنته إقليمياً وعالمياً، ووجود رفض أميركي وأوروبي للاستمرار بحالته الراهنة، وضرورة تغييره وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، وتشكيل هيئة كاملة الصلاحيات، وبحصانة دولية، وهو ما يرفضه النظام.
أزمة النظام إلى مزيدٍ من التفاقم، ولن تكون نتائج محاولة روسيا لإيقاف العملية البرّية التركية مفيدة في إطار التطبيع السياسي بين تركيا والنظام، حيث الشروط التركية للتطبيع أكبر من نشر قواته على حدودها وإيقافها، وتتطلب الشروط منه إعادة اللاجئين إلى مدنهم الأصلية في جنوب سورية وغربها وشمالها وشرقها ووسطها، والتصالح مع المعارضة، والانصياع للقرارات الدولية، وهذا ما لا يستطيع النظام تقبله؛ ففيه بداية النهاية الفعلية له.
في كل الأحوال، ليس هناك من مخارجٍ حقيقية للنظام، والبروباغندا الخاصة به تنهار تباعاً مع انهيار الأوضاع العامة لأغلبية السوريين، وضمناً المؤيدين، ونقول هذا، ولو حُلّت مشكلة المحروقات حالياً، وأُوقفت الاحتجاجات، فهما ستتجدّدان.
المصدر: العربي الجديد