كتب الصحفي التركي محمد زاهد جول مدير مركز شرقيات للبحوث، ورئيس تحرير اندبندت التركية مقالاً يتحدث عن ظاهرة ” المستتركين”، من السوريين، وخطرهم على المجتمع التركي.
ولست في وارد التعليق على المقال لولا أني شممت فيه رائحة غير بناءة تجاه وضع السوريين في تركيا، وخصوصاً أولئك الذين حملوا الجنسية التركية، وبنظرة أوسع فإن هذه الرائحة غير البناءة تمتد لتشمل كل السوريين المهجرين واللاجئين في دول العالم الذين حملوا جنسيات دول اللجوء والهجرة، وفي عمق هذه النظرة سهام موجهة إلى كل اللاجئين والمهجرين سواء تجنسوا بجنسية البلاد الجديدة أم لا ، وذلك لاعتبار تطلع جميعهم أو معظمهم للحصول على جنسية البلد الجديد الذي احتضنهم.
ومشكلة هذه النظرة أنها تستبطن أيضا موقفاً عنصرياً مخالفاً للدساتير الوطنية لهذه البلدان، باعتبار أن المجنس وفق النص الدستوري يصبح فور تجنسه “كامل المواطنة”،شأنه شأن أي مواطن آخر، فليس هناك – في مختلف هذه الدول- مواطن كامل الحقوق، وآخر منقوص الحقوق، وليس هناك مواطن أثبت مشروعيته في هذه المواطنة، وآخر عليه أن يثبتها،
وحين يكون المجنس مواطن كامل الحقوق، يصبح من حقه المشاركة في مختلف شؤون الحياة في وطنه الجديد.
إن العرض الذي قدمه “محمد زاهد جول” لا يليق بدولة قانون ودستور. أي أنه لا يليق بدولة مثل تركيا – ما دام الحديث هنا عن تركيا- .
أما تعريضه بالسوريين المجنسين فهو تعريض يتلبسه الخطأ والانحراف نفسه.
1 – إنه يصف المجنسين من السوريين بالدواعش وبأنهم خونة الأوطان، وأنه لو كان فيهم خير لظهر خيرهم في أوطانهم. ويدعو الله أن يحمي تركيا منهم ، وقدأسماهم “خونة الأوطان”.
وهذا اتهام بشع لمواطنين أتراك، وتحريض مباشر وخطير لهم من شأنه أن يغذي روح عنصرية مقيتة يجب التصدي لكل الظروف التي تساعد على ولادتها .
2- ثم إنه يوجه سهامه للمهجرين السوريين ومنهم المجنسين دون أن يتوقف للحظة أمام نظام قاتل واجه شعبه ووطنه، فقتل مئات الالوف، وسجن وغيب مثلهم، وهجر نصف مواطني هذا البلد، ودمر كل بناه التحتية، ومعالمه الحضارية، واستجلب مناصريه من كل بقاع الأرض بهدف الحفاظ على سلطته ، غير عابئ بفظاعة الأثمان التي يدفعها الوطن والمواطن على السواء، ويدفعها الجوار من أمنه واستقراره، وتركيا هي الجار الأول لسوريا.
3- وفي كل ما طرحه هذا الكاتب، هل يظهر أنه يفهم أبجدية السياسة والمجتمع التركي!
ثم هل يريد للمجنسين أن يضعوا قدماً في وطنهم الجديد، وقدماً في وطنهم الأول!، هذا منطق غريب، ما من عاقل يطلب من مهاجر أن ينسى وطنه الأول، وما من عاقل أيضا يرضى أن لا يكون انتماء المهاجر الى وطنه الجديد انتماء تاما، والعقول الواعية ترى أن المهجرين واللاجئين حينما ينالون جنسية البلد الجديد يتحولون إلى رسل للتقارب والتفاهم والتعاون بين البلدين، وللتلاقح الحضاري بينهما، بل إن هذه العقول الواعية تحرص على أن يحتفظ ” المواطنون الجدد”، وأبناءهم على لغتهم الأم وعلى الكثير مما يميزهم باعتبار ذلك مصدر غنى وتنوع ومدعاة تقدم لوطنهم الجديد، وليس أداة لإعاقة إندماجهم، أو تشويه وطنيتهم.
4 – أما الحديث عن نقلهم “الأمراض” التي يحملوها إلى مجتمعهم الجديد، فهذه فرية لا تطعن في المواطن الجديد وإنما تطعن في قدرة المجتمع الجديد على التأثير بهذا المواطن، وتطعن في إجراءات الدولة في استيعابهم، فهؤلاء الجدد قلة مهما كثر عددهم، والقاعدة الاجتماعية الراسخة تقول : إن القليل يتأثر بالكثير ويأخذ عاداته وقيمه، وأن الملاحظة المتكررة تؤكد أنه يحاول أن يتجاوز “الاحساس” بأنه قليل العدد، بالاجتهاد، والتميز، والتفاني في العمل الاجتماعي، ولعل هذه السنة الاجتماعية هي التي برزت مع السوريين في كل مكان وصلوا إليه، قبل أن يتجنسوا بأوطانهم الجديدة وبعدما نالوا جنسياتهم الجديدة: في كل البلدان من تركيا الى المانيا،ومن السويد. الدنمارك، إلى كندا ونيوزلندا، تميزوا تجارا، وعلماء، وفنانين، وفنيين، ومفكرين. إلى درجة دفعت الكثيرين للدهشة من هذا التميز، ومحاولة فهم آلياته. وبهذا التميز المدهش، دخلوا البرلمانات وحتى الحكومات، ونالوا بجدارة أماكنهم المتميزة في مختلف النشاطات التي دخلوها.
5 – وأخيرا فإن في المقال الذي أعلق عليه استخداما غير سوي لمصطلح “المستوطنين”، فالسوريون، وعموم المهجرين واللاجئين، سوريين وغير سوريون ليسوا “مستوطنين”، مصطلح “مستوطن” هنا مصطلح فيه اعتداء على المجتمع التركي، وعلى الجغرافيا التركية، وفيه استعارة لمصطلح “صهيوني عنصري بغيض”.
الأرض التركية والمجتمع التركي عامر بأهله، وليست أرضاً بواراً فارغة تنتظر من يستوطنها.
وهذه استعارة ممقوته وهي أيضا مبنية على قطع الوشائج التاريخية والدينية والعائلية والجغرافيا السياسية بين تركيا وسوريا، وبين الأتراك والسوريين.
ومثل هذا المصطلح يستغل عنصرياً لدفع المجتمع التركي إلى التوتر داخلياً، خصوصاً وهذا المجتمع مقدم على انتخابات رئاسية. ومن ثم انتخابات عامة،
فعلا حمى الله تركيا مما يحاك لها، وحمى الله الشعب التركي بكل مكوناته وتنويعاته مما يحاك له، ورب كلمة أكثر خطورة وضرراً من سهام متلاحقة.