عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول صدرت رواية حفّار ساق العنب للكاتبة السورية المتميزة وفاء علوش. هذا أول عمل روائي اقرؤه لها.
يعتمد سرد الكاتبة في رواية حفّار ساق العنب على التداخل بين حضور الراوية عن الحالة المعاشة، وبين لغة المتكلم على لسان بطلة الرواية “كرمة”، كما تعتمد الرواية على طريقة الخطف خلفا، تبدأ من النهاية حيث تصل كرمة الى باريس وتستقر فيها، وذلك بعد مرور حوالي الثماني سنوات على الثورة السورية التي حصلت في ربيع عام ٢٠١١م. كما تعتمد أسلوب “الذهاب – إياب” في الاسترجاع النفسي حيث التداخل بين ما تعيشه في واقعها المباشر في باريس، و ما عاشته منذ طفولتها حتى هروبها، وهي التي أصبحت في العقد الرابع من عمرها. نتابع لملمة حال كرمة في السرد الروائي المتابع لحياتها، بحيث تكتمل معرفتنا بما عاشت باكتمال الرواية. ونحن هنا نعيد السرد وقد نضجت قراءة الرواية وأصبحت واضحة ومنوّرة.
كرمة ابنة ريف دمشق تنتمي لاسرة غير متوائمة، الوالد والوالدة متنافرين، وكرمة ابنتهما الوحيدة، يختلفان على أي شيء، وعت كرمة على الدنيا منذ طفولتها، على واقع عائلتها الصراعي وبالتالي على اهمالهم لها وعلى احساسها بأنها غير مرغوبة وغير محبوبة. لذلك نشأت كرمة وهي تحمل في داخلها تقية تخفي فيها حقيقة حياتها، وأخذت مع نضجها تخلق بدائل لحياتها الفقيرة عاطفيا، ومن بداية نضجها بدأت تخلق لها شبكة علاقات واسعة من الأصدقاء من الجنسين، اصبحت تعويضا عن حرمانها العاطفي في عائلتها. وعندما دخلت سن المراهقة، وبحث الشباب عن النصف المكمل للوجود، متمثلا بالحب، كانت كرمة حريصة على عدم تورطها بأي علاقة حب متسرع، خاصة ان اغلب تجارب المراهقة تكون هشة وزائلة وقريبة من الإشباع النفسي والجسدي للآخر الذي غالبا ما يعتمده الشباب للوصول للمتعة والجنس دون أي مسؤولية. كانت كرمة على وعي بذلك لذلك حافظت على مسافة مع كل من تحتك به وخاصة الشباب ورغم ظهورها كفتاة متحررة وغير متحفظة، وكانت تخرج من أي علاقة قد تؤدي للتواصل الجسدي قبل ان تتورط بذلك.
كان طموح كرمة أن تخرج من عالمها الاجتماعي والعائلي بكل ما تعاني منه، لذلك اختارت طريق العلم وإكمال دراستها الجامعية واختارت أن تدرس الصحافة لثقتها بنفسها انها قادرة على تحقيق ذاتها وأن يكون لها حضور إعلامي ما مستقبلا. وسرعان ماتخرجت وتوظفت في احدى المراكز الاعلامية التابعة للدولة. هناك تعرفت على نبيل ذلك الشاب المتميز ذو الحضور القوي، يكبرها عدة سنين، له برامج تلفزيونية واذاعية، تقرّب من كرمة وهي تجاوبت معه، هو من طائفة اخرى، وبدأت تنشأ بينهم علاقة عاطفية، وجدت كرمة به صورة عن رجلها الذي تحلم به، ورويدا رويدا كسرت كل محرماتها معه وأصبح بينهما علاقة جسدية كاملة. كان نبيل حريصا على أن تكون العلاقة سريّة، وأن يظهروا امام الاخرين ان علاقتهم رسمية، لم يعد نبيل كرمة بأي شيء، لا خطبة ولا زواج، هي علاقة جنس وقت الحاجة، ودون أي التزام. وهي من جهتها لم تكن ترغب بغير ذلك، المهم أنه بجوارها ويهتم بها ويحبها كما يدعي، وأنها مرتاحة من واقع أهلها وسيرتهم المؤلمة.
تطورت العلاقة بينهم مع مرور الوقت، وحصل حمل عند كرمة، كانت تتمنى لو يكون لها طفلها من علاقتها مع نبيل، لكنه كان حادا وجذريا، طلب منها أن تُجهض، واصطحبها لأحد الأطباء من معارفه واجهضت، كانت حاملة بطفلة، بقيت تحلم بها كل الوقت بعد ذلك. رضيت ان تُجهض من ابنتها لكي لا تخسر نبيل، وعادت معه سيرتها الاولى وكأن شيئا لم يكن. علاقة جنسية سريّة ولا مسؤوليات من نبيل اتجاهها بأي شيء. حصل بعد ذلك الاسوأ فقد بدأ نبيل يضربها لأي سبب. اكتشفت كرمة أن علاقتها بنبيل اقرب للاستعباد منعا للحب، هي تحبه لكنه يستغلها لمتعته، ادركت ان لا مستقبل لهذه العلاقة بينهما وتركته غير آسفة، مازال حبه في نفسها، لكنها لم تعد تستطيع الاستمرار معه.
في هذا الوقت كانت الثورة السورية قد حصلت واتخذ نبيل موقفا منحازا للنظام بالمطلق وهذا زاد من الغربة بين كرمة وبينه، رغم ان كرمة لم تكن تهتم بالشأن العام لا من قريب ولا من بعيد، لكنها تحسست مظلومية الناس ودرجة القمع والقتل والبطش الذي يعيشونه.
أرادت كرمة وهي الصحفية أن توثق عبر كاميرتها ما يحصل في سوريا، بعيدا عن المواقف المسبقة، خاصة بعد أن توسع التدخل الإقليمي والدولي وبدأت تظهر في سوريا، المجموعات المسلحة الإسلامية التي وصلت الى مرحلة في السنوات الأخيرة وأصبحت هي المسيطرة في الميدان في المناطق المحررة من سيطرة النظام. لذلك ذهبت كرمة الى مناطق الشمال السوري المحررة والتي يهيمن على اغلبها فصائل اسلامية، وبدأت بتصوير فيديوهات تظهر فيها التماثل بين ما فعل النظام وفعل هذه المليشيات، وترسل تلك الفيديوهات الى وسائل اعلام عالمية. تعرفت هناك على إليس الصحفية الفرنسية التي جاءت لتقوم بنفس الدور. لم يدم حال كرمة طويلا حيث اعتقلت مع إليس لدى إحدى المجموعات الاسلامية و عاملوهم بكثير من القسوة والتنكيل. لقد فقدت كرمة الأمل بالنجاة مما وقعت به. لكن تم الإفراج عن إليس بعد وقت بتدخل من دولتها فرنسا وبقيت كرمة وقد تأكدت ان لا امل لها بالخروج من المعتقل، لكن إليس لم تنسى كرمة وسعت للإفراج عنها وتم الإفراج عنها. وساعدتها ايضا حتى تخرج من سوريا الى لبنان حيث عبروا بشكل غير نظامي، وهناك التقوا بمخيمات اللاجئين السوريين في عرسال وشاهدوا جحيما يعيشه السوريين.
خرجت كرمة مع فريق إليس إلى فرنسا وهناك تبنتها واصبحت جزء من محيطها، لقد حصلت على اللجوء واستقرت هناك.
لم يكن وصول كرمة الى باريس نهاية معاناتها، بل لنقل انه كان بداية استعادة كل ما تراكم داخل نفسها من عقد وألم ورواسب حيث بدأت تظهر، يستعصي عليها النوم والتعايش الاجتماعي وتقبل الحياة الجديدة التي يحلم بها الكثيرين. مازالت كرمة تعيش بماضيها بكل تفاصيله. تعيش يومها العادي في باريس لكنها تبقى تجتر معاناتها النفسية كل الوقت، يستهلك استرجاعها لما مضى معها كل حياتها. عائلتها المتصارعة وموت اباها بعد ذلك، وموت امها بعد وصولها الى باريس. تجربتها مع نبيل وحملها وإجهاض ابنتها التي تراها في كوابيسها. لذلك ساعدها المحيطين بها وعرضوها على طبيب نفسي، انه نوح ذي الأصول السورية، ارمني جاء مع عائلته منذ طفولته وعاش هنا، يتكلم العربية وهذا ما ساعده في سهولة التواصل مع كرمة والغوص في أعماقها. لقد استطاع ان يوصل لها أفكار اساسية في معايشة الحياة عند كل انسان. الإنسان ابن ماضيه لكنه ليس اسيره ، ولن يستطيع تغييره، عليه أن يستفيد منه في بناء مستقبله، استمرار اجترار الماضي هو مرض نفسي يتطلب العلاج. وأن المستقبل هو مسرح المطلوب الذي يحقق الحياة الأفضل، وهنا دور الإنسان مهما كانت تجربته. تعلمت كرمة من جارتها الفرنسية شانيل التي احبتها واحتضنتها، شانيل المرأة التي تعيش مع طفلها، بعد أن هجرها حبيبها وهي حامل بطفلها، ونع ذلك انجبته وتعيش معه واستطاعت التكيف وبناء حياة راضية عنها. كذلك جارها ابراهام اليهودي السوري ابن حلب الذي هرب الى فلسطين أرض الميعاد تزوج من حبيبته هناك وأنجب طفلين، واكتشف ان حلم ارض الميعاد كابوس قام على عذابات الفلسطينيين وتشريدهم. هرب الى فرنسا. زوجته انفصلت عنه أخذت ابنا وتركت له الآخر. يعمل في فرنه مع ابنه ويتذكر حلب ويحن لها، استطاع التكيف يسمي فرنه شالوم يعني السلام. كذلك لقاؤها مجددا برافي صديقها الفرنسي ذي الاب الفرنسي و الأم السورية، الذي تعرفت عليه في المركز الثقافي الفرنسي أيام تعلمها اللغة الفرنسية هناك، رافي المتجاوز الناضح المرح الذي يكن لكرمة مشاعر ود ومحبة كبيرة، التقى فيها في باريس واحتضنها وساعدها في تأقلمها مع محيطها الجديد وتكيفها مع الحياة في فرنسا. رافي ذاته يعيش معاناته. امه واباه انفصلا وتوفي والده ولم يعد يتواصل مع أمه التي آذت والده كثيرا، وتوفيت بعد حين. هذا غير نوح نفسه وما عاناه وعائلته ايام سوريا وحتى في فرنسا. نعم في فرنسا حيث يوجد التمييز العنصري الذي يلاحق الناس هنا و تزيد المنغصات التي يعانون منها، إضافة لحالة الحنين للوطن للاهل للماضي لكل ما فقده هؤلاء اللاجئين الهاربين إلى جنّة باريس.
أدركت كرمة أنها ليست الوحيدة من لها آلامها وان ما عاشته عاديا قياسا بما عاشه اغلب من تواصلت معهم في باريس، وهكذا تجاوزت معاناتها واصبحت جزء من المجموعة المتوائمة مع الأصدقاء الجدد: هي ورافي ونوح وشانيل وابراهام وابنه. يتواصلون ويلتقون ويعيشون حياة خصبة ويأملون بالافضل.
إلى هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
اننا امام رواية مختلفة إلى حد بعيد، المميز بها انها تغوص عميقا في ذات الشخصية المحورية فيها، كرمة التي تعيش حياتها داخل ذاتها، تعيد ما عاشته بشكل وسواسي، بحيث لم تستطع أن ترى حياتها المستجدة الا بعد ان عاشت علاجا نفسيا. مما رتب على الرواية سردا يتكرر به الحديث عن بعض الأحداث التي مرت بها كرمة الى درجة الملل في بعضها عند القارئ.
لم تستطع الرواية أن تبرر هامشية الحياة العامة عند كرمة الشخصية المحورية. صحيح أن الكتابة النسوية الروائية تنتصر دوما للمرأة وعالمها، وهذا حق، لكن الرواية هنا تظهر وكأن كرمة عايشت واقع أسرتها المتصارعة وعلاقاتها مع صداقاتها الواسعة الهامشية وعلاقتها مع نبيل واستغلاله لها وحبها المرضي له و حملها واجهاضها. كل ذلك أين من المجتمع من المحيط العام ؟. ماذا عن الفقر والقهر والإستغلال والفساد والاستبداد، ماذا عن طائفة نبيل ؟!. وانه مذيع ونجم وله مركزه وأنه اصطفّ مع النظام إبان الثورة السورية؟!!.
ماذا عن الريف الدمشقي الذي انتسبت له كرمة في الثورة. المظلومية السابقة والتظاهر والقتل الجماعي الذي شرعه النظام على السوريين. وتحول الثورة للعمل المسلح. كيف وصلت الى ذلك وكيف هيمن الاسلاميين الذين أرادت كرمة توثيق انتهاكاتهم بحق السوريين ؟!!…
ماذا حصل في سنوات الثورة الأولى؟!…
ماذا عن المليون سوري الذين قضوا بيد النظام وحلفاؤه ومثلهم مصابين ومعاقين، وعن نصف الشعب السوري الذي تشرّد، والمخيمات مثل مخيم عرسال وغيرها كثير المبعثرة على الحدود مع دول جوار سورية ؟!. ماذا عن البحر الذي بلع السوريين؟!. ماذا عن سورية التي تدمّر اغلبها ؟!. وسورية التي تحتلها دول عديدة ؟!.
سوريا التي لم تعد تطعم من تبقى من أهلها خبزا، ولم تعد حلما للعودة عند اي سوري طالما الظلم والظالمين حاضرين سيفا على رقاب الناس هناك…
لم يكن ما عاشه السوريون هامشا من الممكن ان لا يحضر في الرواية وفي حياة كرمة ولا مبرر لغيابه على الاطلاق…
مع ذلك نجحت الرواية في الغوص عميقا في الذات الانسانية، واكدت ان للانسان طبقات نفسية متراكمة يظهر البعض ويختفي الأغلب كما هي الارض يظهر بعضها ويختفي في عمقها كثير من مكنوناتها…