رفضت تركيا قبول تعازي الولايات المتحدة في أعقاب التفجير الذي وقع مؤخرًا في إسطنبول، وهو الأكثر دموية الذي شهدته البلاد منذ أكثر من خمس سنوات.
أسفر التفجير الذي وقع يوم الأحد من الأسبوع الماضي في شارع الاستقلال؛ أحد أكثر الشوارع التجارية شعبية في إسطنبول، عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 81 آخرين. وجهاز التفجير: حقيبة بها كمية صغيرة من مادة “تي. أن. تي” تُركت في الشارع المزدحم. وبعد وقت قصير من الانفجار الذي هز منطقة التسوق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن التفجير كان هجومًا متعمدًا، وتعهد بالعثور على الجناة ومعاقبتهم. وقال أردوغان لمندوبي وسائل الإعلام قبل مغادرته إلى قمة مجموعة العشرين التي تستضيفها إندونيسيا: “الجهود التي تُبذل لجعل تركيا والأمة التركية تستسلمان للإرهاب لن تصل إلى هدفها اليوم، كما لم تفعل في الماضي”.
ووفقًا للسلطات التركية، تم توقيت التفجير ليحدث في ساعات ذروة النشاط في شارع الاستقلال، بل إن الشارع التجاري كان أكثر ازدحامًا من المعتاد لأنه كان من المقرر إقامة مباراة لكرة القدم تضم أحد الفرق الرئيسية في تركيا في وقت لاحق من ذلك المساء.
يخشى أصحاب الأعمال والسكان على طول شارع الاستقلال أن تكون للتفجير آثار مدمرة وطويلة الأجل. فقد ضرب شارع الاستقلال والمنطقة المحيطة به بقوة في السنوات القليلة الماضية لأن جائحة “كوفيد -19″، وحظر السفر الذي صاحبها، أوقفا جميع أنشطة السياحة تقريبًا. وعلى الرغم من انتعاش صناعة السياحة في إسطنبول مع رفع قيود السفر وحيث جعلت الليرة التركية الضعيفة نسبيًا زيارة تركيا أرخص تكلفة، إلا أن التهديد المستمر بالعنف المستقبلي في المناطق التجارية الرئيسية يمكن أن يعرض الرفاه الاقتصادي للمجتمع للخطر مرة أخرى، بما يتجاوز المخاوف الواضحة على السلامة.
وبحلول الاثنين، اليوم التالي للانفجار، داهمت السلطات التركية 21 موقعًا مختلفًا واعتقلت 47 شخصا لهم صلات محتملة بالتفجير. وتبين أن أحد المعتقلين هو المهاجم المشتبه به، حسب ما أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو. وأعلن صويلو أنه “ينبغي طمأنة شعبنا إلى أن مرتكبي الحادث في شارع الاستقلال سيعاقبون كما يستحقون”. وأضاف “أن الوحدات المعنية في دولتنا تواصل العمل على كشف هوية مرتكبي هذا الهجوم الغادر والجماعات التي تقف وراءه”.
ومنذ ذلك الحين، تم التعرف على الشخص المعتقل باسم أحلام البشير، وهي امرأة سورية تدعي أنها تلقت أوامر من “حزب الاتحاد الديمقراطي السوري”. وتزعم السلطات أن البشير دخلت تركيا بشكل غير قانوني من شمال سورية بعد تلقيها إرشادات في مدينة كوباني الكردية حول كيفية تنفيذ الهجوم.
وتعتبر الحكومة التركية “حزب الاتحاد الديمقراطي” فرعًا سوريًا لـ”حزب العمال الكردستاني”؛ الجماعة المقاتلة الرئيسية التي تقاتل ضد الحكومة التركية في الصراع المستمر منذ أكثر من أربعين عامًا بين تركيا والمتمردين الأكراد. لكن حزب العمال الكردستاني نفى أي تورط له في الهجوم. وقال الحزب في بيان نشر على الموقع الإلكتروني للجماعة يوم الاثنين: “من غير الوارد بالنسبة لنا استهداف المدنيين بأي شكل من الأشكال”.
وقال بيان صدر يوم الأحد بعد وقوع الانفجار عن السكرتيرة الصحفية للرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، كارين جان بيير، “إن الولايات المتحدة تدين بشدة أعمال العنف التي وقعت اليوم في إسطنبول بتركيا. إن قلوبنا مع الذين جُرحوا وأعمق تعازينا لأولئك الذين فقدوا أحباءهم. نحن نقف جنبًا إلى جنب مع حليفتنا في حلف شمال الأطلسي، تركيا، في مكافحة الإرهاب”.
ولكن، في تحديث عن التحقيق في التفجير قدمه صويلو، رفض وزير الداخلية التركي تعاطف أميركا. وقال صويلو إن تركيا “لن تقبل رسائل تعزية” من الولايات المتحدة، مشبهًا المشاعر التي عبرت عنها واشنطن بـ”قاتل يكون أول من يظهر في مسرح الجريمة”.
وأضاف فخر الدين ألتون، رئيس مديرية الاتصالات التركية، إلى الفكرة نفسها، حين قال: “يجب على المجتمع الدولي أن ينتبه. الهجمات الإرهابية ضد مدنيينا هي عواقب مباشرة وغير مباشرة لدعم بعض الدول للجماعات الإرهابية. يجب أن يتوقفوا فورًا عن دعمهم المباشر وغير المباشر لها إذا كانوا يريدون صداقة تركيا”.
وعلى الرغم من أن واشنطن وبروكسل تعتبران حزب العمال الكردستاني جماعة إرهابية مثلما تعتبره أنقرة، إلا أن الولايات المتحدة تواصل تمويل الجماعات الكردية المسلحة الأخرى، وتحديدًا “وحدات حماية الشعب”، التي تربطها علاقات بحزب العمال الكردستاني، ولكنها تعتبر جزءًا من “قوات سورية الديمقراطية” التي قاتلت تنظيم “داعش” في شمال سورية. وكان تسليح هذه الجماعات منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية نقطة توتر حاد بين واشنطن وأنقرة.
وقال ماكس أبرامز، أستاذ الأمن الدولي في جامعة نورث إيسترن، لصحيفة “ذا أميركان كونسيرفاتيف”عبر البريد الإلكتروني، إن السبب في ذلك هو أن أميركا تنظر إلى تنظيم “داعش” على أنه التهديد الإرهابي الأول منذ العام 2014، وقد رتبت أولوياتها وفقًا لذلك. لكن صناع السياسة في واشنطن كانوا عالقين بين المطرقة والسندان عندما يتعلق الأمر بمحاربة تنظيم “داعش” في سورية. “لم ترغب واشنطن في التحالف مع الرئيس الأسد لأنهما عدوان. وتبين أن ما يسمى بالثوار كانوا مقاتلين لا يمكن الاعتماد عليهم وملوثين بالتطرف ويقودهم تنظيم القاعدة وأصدقاؤه الجهاديون الذين فضلوا الإطاحة بالأسد على محاربة “داعش”. وعندئذ، برز المقاتلون الأكراد في شكل ’وحدات حماية الشعب‘ كأفضل المقاتلين الموالين للولايات المتحدة والمناهضين لـ’داعش‘ في سورية بعد معركة كوباني. أي أن الأكراد أصبحوا أول من يكافحون الإرهابيين مع أميركا”. وأضاف أبرامز: “وقد أثار ذلك غضب أردوغان الذي ينظر إلى المسلحين الأكراد على أنهم الإرهابيون الأوائل”.
”هذه هي الخلفية التي جعلت أردوغان لا يقبل التعازي الأميركية”، كما أوضح أبرامز. ومع ذلك، “من الصعب تحديد ما إذا كان حزب العمال الكردستاني هو الذي ارتكب الهجوم بالفعل. وقد أظهر بحثي، إحصائيًا، أن الهجمات مثل تلك التي وقعت في إسطنبول غالبًا ما تمر من دون أن يعلن مسؤوليته عنها أحد، لأن القادة المتشددين الأذكياء يترددون في تحمل المسؤولية بسبب تكاليف السمعة المترتبة على قتل المدنيين. وعلى النقيض من ذلك، يُرجح أن يتم الإعلان عن الهجمات التي تُشن ضد أهداف حكومية”.
زعم أبرامز “أن نسبة الهجوم إلى حزب العمال الكردستاني تخدم أجندة أردوغان لأنه معارض معروف للانفصالية الكردية، وكان منتقدًا شرسًا للدعم الأميركي للمقاتلين الأكراد في سورية الذين يدعون أنهم غير مرتبطين بإرهاب حزب العمال الكردستاني في تركيا. إن أردوغان محق في أن الجماعات مترابطة، لكن قوة العلاقة بينها ما تزال موضوعًا لنقاش ساخن”.
وبغض النظر عن الجماعة الإرهابية المسؤولة، يعتقد أبرامز أن هذا الهجوم سيأتي بنتائج عكسية على الجناة لأن “الإرهاب يبرر اتخاذ المواقف المتشددة ضدها وضد تطلعاتها السياسية، مع تعزيز الدعم الشعبي للحكومة في معظم الأوقات”.
واعترف أندرو دوران، وهو زميل باحث بارز في “مشروع فيلوس”، في مراسلات عبر البريد الإلكتروني مع “ذا أميركان كونسيرفاتيف” بأن “العلاقة بين ’وحدات حماية الشعب‘ و’حزب العمال الكردستاني‘ وثيقة، على الأقل أيديولوجيًا”.
وأضاف دوران: “الأكراد المتشددون، كما أشرت في مقالات سابقة في هذه الصحيفة وفي أماكن أخرى، هم أناس أيديولوجيون بشكل مخيف”، وقد نفذوا هجمات إرهابية ضد المدنيين الأتراك، وهو أمر غير مقبول”. ومع ذلك، “لم تكن ’قوات سورية الديمقراطية‘ كلها من المتشددين (أي ليس كلها من ’حزب العمال الكردستاني‘/ ’وحدات حماية الشعب‘)، وكانت عملية “’قوات سورية الديمقراطية‘/ وزارة الدفاع الأميركية أكثر نجاحًا بما لا يُقاس في تعزيز أهداف الولايات المتحدة من المغامرة الحمقاء لوكالة المخابرات المركزية مع ’الجيش السوري الحر‘”. وقال دوران إنه وجد في رحلاته السابقة إلى المنطقة أن “الأكراد في كل من سورية والعراق يبلون حسنًا بعدم الإقدام على الأميركيين بشكل عام، وفي زياراتي إلى الشرق الأوسط يبدأ تحليلي عادة من هناك: من الذي قد يحاول قتلي لأنني أميركي”.
وأضاف دوران: “كما يحدث، يبدو أن حلفاءنا الأتراك معتادون على تسليح الأشخاص الذين يريدون قتل الأميركيين والإبادة الجماعية للمسيحيين”.
مع القتال الوحشي والتكتيكات العنيفة التي يستخدمها كلا الجانبين في الصراع الكردي-التركي، يبدو أنه لا يوجد أناس خيّرون حقيقيون. وغالبًا ما تكون الحرب بينهما أكثر فوضوية وقابلية للشك أخلاقيًا مما قد يصدقه معظم صانعي السياسة في واشنطن: وهذا جزء من السبب في أن “السياسة الخارجية الأميركية في العراق وسورية، واليمن وليبيا، كانت طائشة وغير حكيمة وحمقاء لأكثر من عشرين عاما”، وفقًا لدوران.
“لم يكن من الممكن أن يظهر تنظيم ’داعش‘ إلى حيز الوجود لولا الإطاحة بصدام”، يقول دوران، كمثال. “قد تختلف العقول المتمتعة بالمنطق حول ما إذا كان من الأفضل الإبقاء على خلافة ’داعش‘ سليمة أو تدميرها. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه كان من الأفضل تدميرها. وكان الأكراد فعالين للغاية في محاربة ’داعش‘، سواء في العراق أو سورية”.
عندما يتعلق الأمر بما سيعنيه التفجير وتداعياته الدبلوماسية للعلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، لاحظ دوران أن الانقسام بين هذين الحليفين في “الناتو” قد اتسع في الماضي القريب. وأوضح أن “هناك في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية مَن يعتقد أن التحالف التركي، الذي تعود أصوله إلى الحرب الباردة، قد استنفد مساره وغاياته قبل عقدين من الزمن، وأن إسلاموية أردوغان غير الليبرالية كانت إشكالية بما فيه الكفاية للتسبب بافتراق الطرق بمجرد أن أصبح من الواضح أن قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لن يحدث”. وأضاف: “إن تركيا ليست جزءًا من أوروبا، ومصالحها وقيمها تتعارض تاريخيًا -وحاليًا- مع مصالح الغرب. وبالنظر إلى القرون العشرة الماضية، فقد شكل الأتراك تهديدًا أكبر بكثير للغرب من العرب والفرس مجتمعين”.
*برادلي ديفلين Bradley Devlin: مراسل في صحيفة “المحافظ الأميركي” The American Conservative. في السابق، كان مراسلا تحليليا لصحيفة “ديلي كولر”، ونشرت له مقالات في “ديلي واير” و”ديلي سيغنال”، من بين صحف ومطبوعات غير يومية أخرى. تخرج من جامعة كاليفورنيا، بيركلي بدرجة في الاقتصاد السياسي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Terror in Turkey
المصدر: الغد الأردنية/(ذا أميركان كونسيرفاتيف)