ثقافة «نحن» و«هم» ظاهرة عامة في سائر المجتمعات، تتجلى بأشكال مختلفة، نذكر منها: الفضولي والتنافسي والاستعلائي والعدائي… فهي قد تأخذ أحياناً طابع المقارنة بين الريف والمدينة، أو بين الأقاليم الجغرافية ضمن الدولة الواحدة، أو بين السكان ضمن المدينة الواحدة، وذلك تبعاً لمستوى الدخل ونوعية الخدمات وطبيعة الانتماءات المجتمعية (القومية، والدينية والمذهبية)، وحتى من جهة طابع الاستقرار: السكان الأصليون من أهل المكان من جهة، والوافدون أو النازحون أو «البرانيون» أو الغرباء من جهة أخرى. كما تهيمن هذه الثقافة – الظاهرة على ماهية العلاقات بين مشجعي النوادي والفرق الرياضية، والأحزاب السياسية. وغالباً ما تكون هناك صورة نمطية، وأحكام عامة يستخدمها كل طرف لتوصيف الطرف الآخر، وهي أحكام لا تتطابق مع الواقع في معظم الأحيان.
وتتحكّم هذه الثقافة بواقع العلاقات بين الدول في مختلف القارات، بل تُعتمد اليوم ركيزة لبلورة السياسات، وتسويغ النزعات الاستقطابية التوسعية، كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى أولئك الذين يروجون لفكرة التعارض الأزلي الأبدي بين الشرق والغرب، أو بين القارات والنظم السياسية، أو بين الأديان والمذاهب، وذلك وفق الحسابات والخطط والمصالح الخاصة بكل طرف.
ويُشار هنا على سبيل المثال إلى العزف على وتر الأوراسية في مواجهة الغرب، والدعاية الروسية المتزامنة مع الحرب على أوكرانيا، والاستثمار في الاتجاهات اليمينية المتشددة ضمن المجتمعات الأوروبية. وهي الاتجاهات التي تستثمر من جانبها في ورقة الإسلاموفوبيا وترويجها، وتدعو في المقابل إلى ضرورة الحد من تزايد أعداد المهاجرين المسلمين سواء من مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو من أفغانستان والصومال وباكستان وغيرها، وذلك بحجة أن الخلاف الثقافي القيمي مع هؤلاء يعرقل عملية اندماجهم مع ثقافة وقيم المجتمعات الأوروبية أو الغربية بصورة عامة.
أما في منطقتنا، التي تتسم بتنوعها الأقوامي والديني والمذهبي، وهي سمة تحلّت بها قبل تأسيس الدول الحديثة فيها بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وتعود بجذورها إلى أقدم العصور؛ فقد أصبحت هذه الظاهرة طاغية مهيمنة، وهي تتناقض مع المشاريع الوطنية الجامعة التي من شأنها ترميم وتعزيز وحدة المجتمعات على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق عوضاً عن تمزيقها؛ وإقامة حواجز الكراهية والحقد بين مكوناتها المجتمعية، بل وبين مناطقها الجغرافية. ومن الواضح أن تفاقم هذه الظاهرة سيؤدي مستقبلاً إلى المزيد من الانهيارات والتداعيات على صعيد تفجير المجتمعات والدول من الداخل.
ففي سوريا، بات الخوف من المجهول هو الذي يتحكّم بالعلاقة بين المكونات المجتمعية، خاصة بين العلويين والسنة، وحتى بين العرب والكرد، وبين المسيحيين والمسلمين، وبين أهل الريف والمدن، وبين المناطق المتاخمة التي تضم مكونات مجتمعية مختلفة من جهة القومية أم الدين أو المذهب. وكل طرف من الأطراف المذكورة يعتبر نفسه الـ «نحن» في مواجهة الـ «هم» الذي لم يعد مجرد الآخر المختلف، وإنما بات الآخر المتربص الذي قد ينقضّ على الـ «نحن» في أي لحظة، فالعلاقة لم تعد تنافسية قابلة للاستيعاب والمعالجة عبر التواصل والتفاهم والتكامل، وإنما غدت أقرب إلى حدود العدائية التي تتسبب في الانقطاع والصراع.
أما السلطة الأسدية التي تماهي بين نفسها والدولة، وتعتبر نفسها أبدية حتى ولو اقتضى ذلك قتل وتشريد المزيد من السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها؛ فهي ما زالت تخوّن السوريين، وتتبجّح بانتصارها المزعوم عليهم. هذا مع معرفة الجميع بأنها هي التي فتحت البلاد أمام جيوش الدول وأجهزتها، وأدخلت الميليشيات المتعددة الجنسيات والألوان والشعارات لتساعدها في قتل السوريين وتشريدهم.
فهذه السلطة التي تسببت مع رعاتها وداعميها بقتل أكثر من مليون سوري، وتشريد أكثر من 12 مليون سوري، ليست مستعدة بأي شكل من الأشكال لمراجعة نفسها، والاعتراف بأخطائها؛ كما انها ليست في وارد التعبير عن استعدادها للمحاسبة وتحمّل مسؤولية ما أقدمت عليه. وهي ما زالت تراهن على الخلافات بين السوريين، بل تعمل على إثارتها وتصعيدها، عوضاً عن بذل الجهود من أجل ترميم النسيج المجتمعي الوطني. فهي كانت، وما زالت، مستعدة لفعل أي شيء يمكّنها من الاستمرار والتحكّم برقاب السوريين وموارد بلدهم. وهي تعتبر نفسها الـ «نحن» في مواجهة السوريين الذين يمثلون الـ «هم» بالنسبة إليها، وتجد فيهم أعداءها اللدودين، تستعين بكل أجهزتها القمعية، وتستخدم كل الوسائل بما فيها الإرهاب بكافة أشكاله، والمخدرات، لتفرض سيطرتها عليهم.
والوضع في لبنان لا يختلف هو الآخر عما هو عليه الحال في سوريا من جهة الهواجس التي تعيشها الطوائف، الأمر الذي يمهد الأرضية أمام صيغة عدائية لمعادلة الـ «نحن» في مواجهة الـ «هم»، مع فارق جوهري يتمثل في عدم وجود سلطة مركزية متحكمة؛ ولكن هناك «الحزب الإلهي» القابض على مفاصل اللعبة، ويتدخل بصورة مباشرة، وذلك بالتنسيق مع راعيه الإيراني وحليفه الأسدي، في تحديد هوية الرئاسات الثلاث، والوزراء والمدراء العامين، بل يتحكم بتفاصيل التفاصيل، ويمتلك قرار السلم والحرب؛ ويهدّد الخصوم في دائرة الـ «هم» بأفدح العواقب، إذا ما تعرضت «المقاومة»، التي يصر على احتكارها، لأي ضرر. وكل ذلك وفق حساباته، وبناء على حساباته وحسابات راعية نظام ولي الفقيه.
والأمر ذاته في العراق، فكل مكوّن من مكوّناته المجتمعية الأساسية في البلد يعتبر نفسه الـ «نحن» في مواجهة الـ «هم»، وداخل كل مكوّن هناك مواجهة بين الـ «نحن» والـ «هم» الفرعيين، وهذا ما يفتح الأبواب أمام القوى الإقليمية، وإن بدرجات متفاوتة، للتدخل والتغلغل، خاصة من الجانب الإيراني، ضمن المجتمع المنقسم على ذاته، والتحكّم بالدولة المغلوبة على أمرها.
والوضع في البلدان الأخرى ليس أفضل حالاً هو الآخر، ويُشار هنا على سبيل المثال إلى اليمن والسودان وليبيا وتونس، وإيران وتركيا؛ ومن المرجح أن تصبح هذه الأوضاع أكثر صعوبة وتعقيداً مستقبلاً، إذا ما استمر تصاعد المد اليميني القومي المتشدد في أوروبا، وما لم تتمكن الأنظمة الديمقراطية من معالجة الثغرات ونقاط الضعف التي تعاني منها. وإذا ما استمر الاستقطاب الدولي المتصاعد راهناً نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي الحرب التي تنذر بالمزيد من التوسع والشراسة إذا ما تُرجمت التهديدات الروسية النووية الواضحة أو المقنعة، وعلى أرفع المستويات، إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع.
وهي تهديدات تتزامن مع تصاعد نبرة الخطاب العدائي الذي يسوقه بوتين تجاه الغرب الذي يهدد، بالنسبة إليه، الـ «نحن الروسي» المتمثّل في النظام الأوليغارشي الذي كان انهيار الاتحاد السوفياتي بالنسبة إليه نعمة رغم تباكيه الحالي عليه. فالنظام الحاكم اليوم في روسيا، يواجه تحديات جدية في الداخل والخارج، وذلك نتيجة الحرب التي أعلنها على أوكرانيا وتفاعلاتها، وبفعل تراكمات الفساد والاستبداد على مدى عقود.
دول المنطقة المأزومة حتى الحد الأقصى، والمعني بها هنا هي سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا والسودان على وجه التحديد، هي الأكثر معاناة على صعيد التشظي المجتمعي، ومن التدخلات الإقليمية والدولية، وهي الأكثر عرضة للمزيد من التداعيات والانهيارات، لا سيما في مرحلة اختلال الموازين الدولية هذه التي يعيشها العالم نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وتفاعلاتها، ومخاطرها المستقبلية، وانعكاساتها على أوضاع المنطقة التي تشهد نزوعاً أمبراطوريا بأشكال مختلفة من جانب القوى الإقليمية الكبرى التي تتطلع نحو المزيد من التأثير والهيمنة، وتأمين مجال أوسع لمشاريعها التوسعية؛ وهي مشاريع تأتي في سياق الرغبة في ملئ الفراغ الناجم عن الغياب العربي، والتحسب من امتدادات القوى الدولية المنافسة.
ولا يمكن للدول المشار إليها أن تخرج من أزماتها من دون توسيع دائرة الـ «نحن» لتصبح قادرة على استيعاب كل ما هو يندرج ضمن دائرة الـ «هو» على المستوى الوطني، ويقطع الطريق على المحاولات التي تحرك القوى الداخلية في مواجهة بعضها بعضاً. ولبلوغ هذه المرحلة لا بد من وجود إرادة جادة لدى الأطراف المتصارعة بإجراء المراجعات المطلوبة، والدخول في حوارات معمقة تستهدف الوصول إلى توافقات جامعة تكون أساساً لمشاريع وطنية تطمئن الجميع من دون أي استثناء، وتضع الخطط لحل الإشكاليات مع الجوار الإقليمي، تمهيداً لبناء علاقات ودية أساسها احترام تطلعات الشعوب، ومراعاة مقتضيات السيادة والمصالح المشتركة.
*كاتب وأكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي