
لا يُتوقع في العام الجديد (2026)، مع استمرار تمدّد نفوذ قوى اليمين المتطرّف في جسد الديمقراطيات الغربية وديمقراطيات دول الجنوب، والردّة العالمية صوب السلطوية، إلا أن يكون العالم أكثر خطورةً وانحرافاً عن القيم الإنسانية العالمية. وسيواجه المنشغلون بالنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان تحدّياتٍ غير مسبوقة تهدّد وجودهم نفسه. فعلى الرغم من اختلاف ظروف نشأة أحزاب اليمين المتطرّف وصعود الأنظمة السلطوية، إلا أنّها يدعم بعضها وجود بعض وانتشارها، وتلتقي معاً في العداء لقيم حقوق الإنسان العالمية، وشنّ حروب دعائية على هذه القيم، والتهجّم على دور المنظّمات الدولية والإقليمية متعدّدة الأطراف. كذلك تُشعل سياساتها الفتن والانقسامات محلّياً ودولياً.
ورغم ارتباط الشعبوية في السنوات الماضية بأحزاب وشخصيات سياسية يمينية، فإنها تبقى أسلوب حكم قبل كل شيء؛ إذ يدّعي ممثلوها أنهم المُعبّرون الحقيقيون عن إرادة الناس في مواجهة نخب فاسدة منفصلة عن الجماهير، وأن هذه الإرادة الشعبية ينبغي أن تسود من دون التقيّد بالمؤسّسات السياسية الليبرالية التقليدية وما تفرضه من ضمانات أو قيود حقوقية وطنية أو دولية.
تزامن صعود اليمين والردّة السلطوية مع أفول قوى الديمقراطية الليبرالية عالمياً
تزامن صعود اليمين والردّة السلطوية مع أفول قوى الديمقراطية الليبرالية عالمياً. وبحسب التقرير السنوي الماضي لوضع الديمقراطية في العالم، الصادر عن جامعة غوتنبرغ في السويد، فإن عدد الدول الديمقراطية يُعدُّ حالياً الأقلّ عالمياً للمرّة الأولى منذ 20 عاماً، ولم يتبقَّ سوى 29 دولة يمكن اعتبارها ديمقراطية ليبرالية. ومن ناحية أخرى، أصبحت الدول الديمقراطية التي شهدت تحوّلات نحو السلطوية أقلَّ قدرةً على التعافي تحت تأثير ظروف دولية وإقليمية غير مواتية، في مقدّمتها انصراف الدول الغربية عن توظيف الضغطين، السياسي والمالي، لنشر الديمقراطية، بالتزامن مع تصاعد القدرات السياسية والمالية والعسكرية لدول ذات أجندات سلطوية خارج المعسكر الغربي مثل روسيا والصين والهند وتركيا والإمارات. وقد رصد تقرير المنظمة الأميركية “العمل من أجل الديمقراطية” ظاهرة التعاون السلطوي العابر للحدود، إذ شهد عام 2024 وقوع نحو 45 ألف تعاون رفيع المستوى بين النظم السلطوية في العالم، لتشكّل قوّةً موازيةً وضاغطةً على تحالف الدول الغربية.
وقد أصدر البرلمان الأوروبي (أكتوبر/ تشرين الأول) قراراً هو الأول من نوعه، يحذّر من تغوّل نشاط الدول السلطوية على أراضي الاتحاد الأوروبي لاستهداف المعارضين وقمعهم ومراقبتهم، وتوظيف الشائعات السياسية والتضليل المعلوماتي لتقويض أنظمة الحكم من الداخل، وخصوصاً حملات نشر الأكاذيب عبر المنصّات الرقمية، معتبراً ذلك تهديداً غير مسبوق لسيادة الدول الأوروبية. كذلك رصد البرلمان في تقرير سابق له الدور الذي تقوم به حكومات كل من روسيا وطاجيكستان ومصر والهند في ارتكاب أنماط من القمع العابر للحدود ضدّ المعارضين والحقوقيين المقيمين في البلدان الأوروبية.
ومن ناحية أخرى، حقّقت السلطويات في العالم مستوى جديداً من التضامن والدعم فيما بينها، سواء عبر التواطؤ المباشر في التغطية على جرائم حقوق الإنسان، أو تقديم مصادر للدعم المالي والمساندة الاقتصادية. وفي المقابل، تضمحلّ القوة الصلبة والناعمة للدول الديمقراطية وقدراتها على إحداث تغيير في السياسات الدولية، أو تغيير في سلوك الدول السلطوية، وخصوصاً بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، وما أحدثته سياساته الانعزالية من تقليص غير مسبوق للمساعدات المالية المخصّصة لدعم منظّمات المجتمع المدني والمؤسّسات الدولية متعدّدة الأطراف.
وفي أميركا اللاتينية، حقّقت أحزاب اليمين، بما فيها تيارات يمينية متطرّفة تستلهم نموذج دونالد ترامب في الحكم، نجاحات سياسية كبيرة للمرّة الأولى منذ انطلاق موجات التحوّل الديمقراطي في هذه المنطقة خلال عقدَي الثمانينيّات والتسعينيّات. ففي تشيلي، فاز أخيراً خوسيه أنطونيو كاست بمنصب الرئاسة، وهو أحد المعجبين بديكتاتور تشيلي الشهير السابق الجنرال أوغستو بينوشيه. ومعروفٌ عن كاست اتخاذه مواقف صارمة ضدّ اليسار، وتبريره السلطوية باسم الاستقرار، ورفضه المساواة الجندرية والهجرة، وتهديده التوافقات الديمقراطية التي تشكّلت في تشيلي بعد بينوشيه.
ومنذ عام 2023، طبّق الرئيس خافيير ميلي في الأرجنتين سياساتٍ قلّصت راديكالياً الدور الاجتماعي للدولة، وسياسات صدامية مع الاتحادات العمالية، وهو يمارس التضييق على المهاجرين وحقوق المرأة. وفي السلفادور، يطرح الرئيس نجيب بوكيلة نموذج الشعبوية السلطوية، فتبنى سياسات تقوّض المؤسّسات الديمقراطية والسلطة القضائية في السلفادور. وتتبنّى أحزاب اليمين في دول أميركا اللاتينية أولويات معادية للمهاجرين، وتقويض الحماية الاجتماعية للأكثر احتياجاً في المجتمع، والتركيز في التصدّي للجريمة المنظّمة العابرة للحدود بالتعاون مع الولايات المتحدة.
يلتقي اليمين المتطرّف سياسياً وقيمياً مع المدّ السلطوي العالمي، ليكونا معاً جزءاً من ملامح النظام الدولي الذي يتشكّل
وفي أوروبا، نجحت أحزاب اليمين المتطرّف في الحصول على مكاسب سياسية، حتى وهي بعيدة عن تولّي الحكم مباشرةً، من خلال ما أحدثته من تأثير ببرامج أحزاب الوسط واليسار وأولوياتها، خصوصاً في سياسات الهُويَّة والحدّ من الهجرة لاحتواء الكتل الشعبية المساندة لليمين المتطرّف. ففي بريطانيا، تتبنّى حكومة حزب العمال السياسات الأكثر حزماً لمواجهة المهاجرين واللاجئين. واعتمد الاتحاد الأوروبي سياسات جديدة ستُعمَّم على جميع الدول الأعضاء تقوم على تصنيف دول كثيرة (بصرف النظر عن تدهور سجلّها الحقوقي مثل مصر وتونس والمغرب والهند وبنغلاديش) باعتبارها دولاً آمنةً لتقليص قبول طلبات اللجوء منها.
تفيد المؤشّرات الراهنة باستمرار نفوذ أحزاب اليمين المتطرّف والشعبوي في عدد متزايد من الديمقراطيات الغربية وغير الغربية. ويلتقي هذا اليمين، في كثير من الحالات، سياسياً وقيمياً مع المدّ السلطوي العالمي، بما يجعل الطرفَيْن معاً جزءاً من ملامح النظام الدولي الذي يتشكّل أمامنا. ففي هذا العالم الآخذ بالتغيّر، ينكمش الاهتمام بالأجندة الإنسانية والديمقراطية، ويتراجع التأثير السياسي للدول الديمقراطية، كذلك تزداد هشاشة مؤسّسات التعاون الدولي.
المصدر: العربي الجديد






