في لقاء لأعضاء اللجنة الدستورية المصغرة المنبثقة عن هيئة التفاوض السورية مع المبعوث الأميركي السابق للملف السوري السفير جيمس جفري وفريقه، على هامش انعقاد إحدى جولاتها العبثية في العاصمة السويسرية جنيف، استفزته مداخلة احد أعضاء الوفد، وهو ضابط رفيع منشق عن إحدى المؤسسات الأمنية لنظام الأسد، أظهر ردة فعل على تغير الموقف الأميركي المعلن من عصابة دمشق وتكرار الحديث عن أن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في سوريا بل تسعى لتغيير سلوكه فقط.
قال الضابط المنشق في مداخلته: “لقد كنت على رأس احدى مؤسسات النظام الأمنية عندما اندلعت ثورة الشعب السوري المطالبة بالحرية والكرامة، وصبرت لمدة سنة ونصف قبل انشقاقي، وكلي أمل بأن يستجيب النظام لمطالب الشعب ويحقق لهم بعض مطالبهم المحقة، ويغير سلوكه القمعي الذي كنت شاهداً عليه، ولما تأكدت ان هذا النظام يستحيل لن يغير سلوكه ولا يتقن سوى الحل الأمني والعسكري، غادرت مغامراً بحياتي وحياة أسرتي وأطفالي، فهل برأيك يا سعادة السفير بعد كل هذه السنوات وما شهده العالم من إجرام هذا النظام بحق الشعب السوري من قتل وتدمير واعتقال وتهجير باستخدام كل أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي، مازلتم مقتنعين فعلاً بانه يمكن ان يغير سلوكه؟ وهل قدر الشعب السوري ان ينتظر عشر سنوات أخرى لتتأكدوا أنه لن يفعل؟
وبكل ثقة بالنفس بعد أن شبك السفير يديه، سرد للحاضرين التجربة الأميركية مع الاتحاد السوفياتي أثناء غزو أفغانستان عام 1989، وكيف كانوا يكررون عليهم السؤال نفسه في كل عام، إن كانوا يرغبون بالخروج، فيرفضون، ونحن نقول لابأس أبقوا، وفي العام العاشر كان الجواب أنهم يريدون الخروج فقلنا لهم اخرجوا. وفي يوم ما قال الخميني: “كأنني أتجرع السم”، في إشارة الى توقيعه اتفاق وقف إطلاق النار مع العراق في نهاية الحرب بينهما، وأردف قائلاً: “ونحن لدينا السم لبشار الأسد في الوقت المناسب”.
ما يمكن أن يحيل إليه كلام السفير الأميركي هو أن السمّ الذي يدّخرونه لخصومهم ينبغي أن يتجرعه ضحايا كثيرون قبل أن يصل إلى أفواه الخصوم، وعندها تعلن واشنطن أنها سحقت قوى الإرهاب وعزّزت قيم الحق والعدالة والديمقراطية. هذا ما فعلته الولايات المتحدة تماماً بعد حصارٍ على العراق دام 12 عاماً، ثم قرروا احتلاله بذريعة امتلاكه ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، وعندما تبيّن زيف تلك الادعاءات زعموا أن الحرب من إجل إنقاذ العراق من حكم الديكتاتورية وإحلال الديمقراطية، ثم انتهت العملية بتسليم العراق كاملاً لإيران التي تركتها واشنطن تمعن خراباً ودماراً في العراق، وجاءت لتحاربها في سوريا، وكأن الشر الإيراني في سوريا يختلف عنه في العراق، أو كأن ميليشيات إيران في سوريا تنتمي إلى مرجعيات مختلفة عنها في العراق، لكن ما هو مؤكّد أن الإنصاف الأميركي في توزيع جرعات السمّ ينبغي أن يكون عادلاً بين الشعبين العراقي والسوري معاً، كما على السوريين والعراقيين أن يتجرّعاه قبل أن يصل إلى الخصوم الحقيقيين ( بحسب ادعاء واشنطن) هذا إن كان ثمة خصوم بالفعل.
إن كان ثمة جرعة سمّ يدّخرها الأميركيون لنظام دمشق، فإن فلسفة “تغيير سلوك النظام” تصبح ذات مدلولات ومفاعيل ربما لا تفارق ماهية السمّ الذي سيُعطى لبشار الأسد، ولكنها ربما تختلف بطريقة إعطائها أو تقديمها، ذلك أن الرهان الأميركي على تغيير سلوك النظام يستغرق وقتاً لا أحد يمكن له التنبؤ بنهايته.
لقد دخل نظام الأسد عامه الثاني عشر في حربه على السوريين، وكان سلوكه خلال تلك الأعوام يمضي بالتدرج نحو الأسوأ فالأسوأ. بدأ بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، ثم انتقل إلى قصف المدن والبلدات والقرى بالبراميل المتفجرة والمدفعية والصواريخ، ثم أجهز على المواطنين -عندما استعصى عليه إسكاتهم- بالسلاح الكيمياوي، وبهذا يكون نظام الأسد قد حقق نقلةً نوعية وفقاً لفلسفة المقولة الأميركية: “تغيير سلوك النظام”، أي حقق انتقالاً من كونه نظاماً استبدادياً كما كان يقال عنه في بداية الثورة، إلى كونه نظاماً “إبادياً” حين استخدم السلاح الكيمياوي، ولا شك في أن ضحايا هذه النقلة النوعية في “تغيير السلوك” كانوا هم السوريون، وليس المصالح الأميركية في سوريا، ولا ندري ما هي النقلة النوعية الأخرى التي تنتظرها واشنطن من نظام الأسد، هل الانتقال إلى استخدام السلاح النووي مثلاً؟
في سياق التأويلات العامة لفلسفة المقولة الأميركية في تغيير سلوك الأسد، ثمة ما هو هام وملفت للانتباه، وهو أن الجانب الجوهري من التغيير الذي تريده واشنطن من الأسد، إنما يطال علاقته بإيران وليس سلوكه حيال الشعب السوري، وهذا ما عبرت عنه إسرائيل أيضاً بكل نصاعة ووضوح، ذلك أن ما هو مقلق بالنسبة إلى الكيان الصهيوني هو النفوذ الإيراني الذي بدأ يتنامى بعد 2011، ويتخطى الخطوط المتفق عليها سابقاً، وبناءً عليه يغدو ما هو مطلوب من الأسد -وفقاً لفلسفة التغيير الأميركية- هو تقليص النفوذ الإيراني في سوريا أولاً، قبل مطالبة الأسد بالكفّ عن قتل السوريين، بل ربما يغدو إعفاء الأسد من جريرة جرائمه بحق السوريين مكافأة له إن هو أقدم على تحقيق المراد الأميركي-الإسرائيلي المتمثل بالموقف من إيران، ولعل هذا ما ترجمته بالضبط سياسة “خطوة مقابل خطوة” التي اقترحها الأردن بداية 2022، ولاقت تأييداً من موسكو، وترجمتها بعض الدول العربية التي أعادت علاقاتها مع نظام الأسد.
لعل المفارقة الأكثر إيلاماً لدى السوريين هو يقينهم أن الولايات المتحدة وإسرائيل معاً تدركان قبل سواهما مسألتين جوهريتين: أولها، أن العلاقة بين نظام الأسد وإيران عصيّة على الانفكاك، بحكم عضويتها المزمنة التي أتاحت لإيران الشروع في إحكام قبضتها على المقدّرات السورية سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً. وثانيها، أن قدرة إيران وأدواتها في سوريا ربما فاقت قدرة الأسد بالتحكم بمفاصل القرار السوري، وذلك بحكم تغوّلها الميليشياوي في معظم أنحاء الجغرافيا السورية، وكذلك بحكم شرائها لولاءات الكثير من ضباط الأسد وأزلامه. وفي ضوء ذلك، فإن أشدّ ما يخشاه السوريون هو أن يفتك السمّ الذي تدّخره واشنطن بوجودهم كشعب، قبل أن يتجرعه نظام الأسد.
المصدر: المدن