في عام 1981،أعلن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك مناحيم بيغن (المولود في مدينة برست- ليتوفسك البيلاروسية) عزمه على حماية مسيحيّي لبنان. في الحال، انتابني إحساس بالهلع، لأنني كنت مقتنعاً أن إعلانه هذا كان يعني أنّ إسرائيل تخطط لتدخل بشكل مرعب جداً في لبنان. فانكببت من فوري على كتابة أربع مقالات نُشرت أولاً في صحيفة «النهار» اليومية، بين يومَي الأحد 19 نيسان و10 أيار 1981.
ثم أعيد نشر هذه المقالات الأربع في السنة ذاتها، في كتاب أصدرته «دار الوحدة»، عنوانه:
«من يحمي المسيحيّين العرب؟».
في محاولتي الأولى لكتابة أطروحتي للدكتوراه، أجريت أبحاثاً في تاريخ المسيحيّين العرب، بتوسّع تقتضيه الكتابة الأكاديميّة. اكتشفت في بحثي هذا حقيقة مهمة للغاية:
وهي أن المسيحيّين العرب اضطُهدوا…
نعم اضطُهدوا!
وفي تعريفي للاضطهاد أنه حملاتُ قتلٍ جماعيٍ مخطَّطة ومنظَّمة لجماعة ما، لأسباب عرقية أو دينية. في هذا الإطار، عانى المسيحيّون العرب الاضطهاد بهذا المعنى، في ثلاث حقب من تاريخهم، كما سأفصّل أدناه:
الفترة البيزنطيّة، والفترة الصليبيّة، والعصر الحديث، عصر السيطرة الغربيّة.
أولاً: في العصر البيزنطيّ، فيما بين القرنين الخامس والسابع عموماً، وبعد مجمع خلقيدونية الكنسي عام 451م.، انشطرت الإمبراطورية الرومانية الشرقية شطرين يعتنق كلٌ منهما إحدى العقيدتين المسيحيّتين الأساسيتين:
العقيدة الخلقيدونية التي اتخذتها بيزنطة عقيدة رسمية لها، والعقيدة المونوفيسيّة (القائلة بطبيعة واحدة في المسيح)، واعتنقها في العموم سكان أرمينيا وسورية الكبرى والعربية ومصر.
ولقد بدا لي أن هذه الخريطة الجغرافيّة لانشطار العقائد بين غرب الإمبراطورية وشرقها، تنم عن انشطار سياسي عميق، لأن حدود هذه الخريطة الدينيّة كانت مرسومة بوضوح وفق الحدود العرقية. وكانت السلطة المركزية البيزنطيّة ترفض وجود ما يسمّى الهرطقة الدينية، فشنّت حملات دينية دموية شاملة، استمرت نحو قرنين من السنين، من أجل إخضاع ما سُمِّي «اليعاقبة» أي الهراطقة المونوفيسيّين. وجاء في كتاب المؤرخ البريطاني ألفرد بتلر: «فتح العرب لمصر» أن البيزنطيّين قتلوا 200 ألف مسيحيّ مصري قبطي من اليعقابة المونوفيسيّين. وجرت أحداث دموية مماثلة، على نطاق أضيق، في سورية الكبرى. وحدها المقاطعة العربية نجت من هذا المصير لبُعدها عن بطش القبضة البيزنطيّة. ففي بلاد الشام، فقدَ رهبان دير مارون الذين انتموا إلى العقيدة الرسمية الخلقيدونية، مئاتٍ من صفوفهم، قتلهم اليعاقبة المسيحيّون، في خضم معمعة المجازر المتبادلة.
وقد أسّس الناجون من هؤلاء الرهبان في أواخر القرن الميلادي السابع، تحت الحكم الإسلامي، ما أصبح البطريركية والكنيسة المارونيّة. ما خلُصتُ إليه هو أن حملات الاضطهاد تُعزَى إلى الرغبة في فرض السيطرة الغربيّة الرومانية البيزنطيّة، بجميع الوسائل، ومنها اللجوء إلى اصطناع جماعات محلية من الأنصار. وكان جميع ضحايا هذه الحملات مصريّين أو مشرقيّين مسيحيّين، ولحق ضرر بالغ في النهاية بأنصار الحكم البيزنطيّ.
ثانياً:
كانت الحقبة الثانية من الاضطهاد الواسع الذي عاناه المسيحيّون العرب هي حقبة الغزوة الصليبيّة للمشرق العربي على مدى القرنين الميلاديّين الثاني عشر والثالث عشر.
حتى بداية الحملة الصليبية الأولى عام 1099م، كان تعداد المسيحيّين في بلاد الشام، نحو 80% من مجموع السكان. وهذا يعني أن هؤلاء المسيحيّين المشارقة، الذين يمثلون الكثرة الكاثرة من مواطني بلاد الشام، عاشوا خمسة قرون كاملة تحت حكم الإسلام. في هذا الشأن، أكد هذه النسبة العلّامة الأرثوذكسي المطران جورج خضر في واحدة من محاضراته عام 1981، استناداً إلى المؤرخ العربي الكبير ابن عساكر في كتابه الموسوعي الضخم «تاريخ دمشق الكبير». لكن بعد الحروب الصليبيّة، تحوّل المسيحيّون من كثرةٍ إلى قلةٍ بين السكان. ولست أملك مراجع أو مصادر تشير إلى نسبتهم من مجموع أهل الشام، في القرن الرابع عشر وما بعد. لكن ستكون مفاجأة كبيرة إذا بلغت نسبتهم 20%، أو حتى 15%..
فالذي حدث لهم، هو أولاً، أن الصليبيّين كانوا يعادون المسلمين والمسيحيّين العرب على السواء، إذ كان الصليبيّون الكاثوليك يعدّون اليعاقبة هراطقة. وهذا أمر لا تزال ذيوله محسوسة إلى اليوم، إذ إن كثيراً من الغربيّين يسمّون المسيحيّين العرب مسيحيّي الإسلام؛ وهو ثانياً، أن المسيحيّين العرب، بغض النظر عن معاداة الصليبيين لهم، دُفعوا بطبيعة الحال، وبقوّة الحروب الصليبيّة، إلى مواقع حَرَجٍ كبيرٍ كان عليهم فيها أن يختاروا، إما الانحياز إلى الجانب المسيحيّ الكاثوليكي الصليبي الغازي، أو الوقوف إلى جانب مواطنيهم العرب المسلمين. وفي كلا الحالين كان الأمر يعني أن المجتمع العربي المسيحيّ أُقحِم في مسار تاريخي دفعه على طريق التقلُّص والانحسار.
ومرّة أخرى إذن، أدت الغزوة الصليبيّة والتدخل العسكري الآتي من القوى الغربيّة، إلى إلحاق ضرر هائل بالمسيحيّين العرب، ولم تكن الغزوة حماية لهم على الإطلاق.
ثالثاً:
بدأت الموجة الأحدث من الغزوة الغربيّة للمشرق العربي، وهي الغزوة التي يمكنني أن أسميها الاضطهاد الثالث للمسيحيّين العرب، مع نشوء بداية العلاقة بين إمارة توسكانا ومملكة إسبانيا والأمير فخر الدين في لبنان. لكن التدخل آنذاك كان محدوداً جداً، وانتهى بإعدام السلطنة العثمانية الأمير المتمرد عليها، عام 1635. لكن في القرن التاسع عشر، تسابقت القوى الأوروبية للتدخل في شؤون السلطنة العثمانية، وشهد كل من لبنان وفلسطين فيضاً من المبشرين، والديبلوماسيين، والتجار الأوروبيين، لا سيما ما كان يسمى القوى الأوروبية السبع (فرنسا، وبريطانيا، وبروسيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وروسيا، والإمبراطورية النمسوية- المجرية)، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ألّف الدكتور عبد اللطيف الطيباوي عدداً من الكتب الممتازة، تناول فيها التدخل الغربيّ، في القرن التاسع عشر، في المشرق العربي، بينها كتاب «تاريخ سورية الحديث»، ويشمل لبنان وفلسطين؛ أو كتاب «المصالح البريطانية في فلسطين، 1800-1901»؛ أو كتاب «التغلغل الثقافي الروسي في سورية- فلسطين في القرن التاسع عشر»؛ أو كتاب «المصالح الأميركية في سورية 1800-1901؛ دراسة في النشاط التربوي، والأدبي والديني»؛ فوصف فيها أوجه النشاط الغربيّ في المشرق العربي، ومنه إنشاء المدارس والمستشفيات والكنائس للمسيحيّين؛ بالإضافة طبعاً إلى أن هذه القوى الغربيّة لم تنسَ أن تعيّن وكلاء تجاريين محليين لصناعاتها. واهتم الروس بطائفة الأرثوذكس، فيما وجّه البريطانيون والأميركيون انتباههم إلى تحويل السكان المحليّين إلى البروتستانتيّة؛ لا المسلمين فقط، بل كذلك مسيحيّي الطوائف الشرقية، وأدى هذا على هامشه إلى تكوين قطاع نصير سياسي لهم؛ وفي الوقت نفسه إلى زرع بذور الشك والارتياب بين الحائزين على الأَثَرَة الغربيّة، وهم على الأخص مسيحيّون، وبين الذين لم يحظوا بهذه الأَثَرَة، وكثرتهم الغالبة مسلمون.
مثل هذا تماماً كان يحدث في لبنان،الذي كان من الممتلكات العثمانية في القرن التاسع عشر. وقد أصدر السفير عادل إسماعيل عام 1975 مجموعة من 36 مجلداً تضم: الوثائق الديبلوماسيّة والقنصليّة الخاصّة بتاريخ لبنان وبلدان الشرق الأدنى من القرن السابع عشر حتى يومنا. لقد كشفت هذه الوثائق النفيسة من المراسلات الديبلوماسيّة، وقائع مهمة جداً أظهرت كيف أن القوى الأوروبيّة تعمّدت إيثار الموارنة المسيحيّين، كما فعلت فرنسا، أو فضّلت استمالة الدروز، كما ارتأت بريطانيا. وكانت المِنَّة في جميع الحالات تشمل منح الوكالات التجاريّة، وإنشاء المدارس والمستشفيات وحتى الجامعات. فهكذا، ولهذا، أنشئت «جامعة القديس يوسف» اليسوعيّة، وكذلك «الكليّة الإنجيليّة السوريّة»، التي سُمِّيت فيما بعد «الجامعة الأميركية في بيروت». وفي لبنان المستقل، في ما بعد، عند انتهاء الانتداب الفرنسي عام 1943، ورثت حكومة الاستقلال اللبنانية كثيراً من أوامر المهام الانتدابيّة الفرنسيّة الاستعماريّة، في السياسة، وفي نظام التمييز الطائفي، وفي التوجّه الثقافي والتربوي.
كان جدي لأبي متعلّماً على النظام الفرنسي، وجدي لأمي على النظام الإنكليزي، وأُنشِئتُ بدوري على النظام الفرنسي، في مدرسة لإخوة المدارس المسيحيّة. ولقد شهدت بنفسي في المدرسة كيف كانت النظم التربوية الغربية تبذر الشقاق الطائفي وكراهة المسلمين والعرب، وحتى النفور من الهوية والثقافة العربيتين، في قلوب التلاميذ المسيحيين وعقولهم. ففي عام 1954 مثلاً، كان علينا في الصف، أن نقف لنصلي من أجل انتصار الجيش الاستعماري الفرنسي، خلال معركة ديان بيان فو، حيث هُزِم الجيش الاستعماري الفرنسي في فيتنام، في تلك المعركة التاريخيّة؛ فيما كان الاستعمار الفرنسي ذاته يجثم على الجزائر وتونس. وفي أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، قيل لنا إن هذا العدوان كان استباقاً لهجوم كان يخطط له المسلمون للقضاء على المسيحيين. وبلغت محاولة تنفيرنا من المسلمين حدَّ الهُزء بهم، لأنهم يستخدمون الماء بدل ورق الحمام.
هكذا أنشؤوا مليشيات مجزرة صبرا وشاتيلا على كراهة الإسلام، والعرب، وفي موضوعنا هنا، كراهة الفلسطينيين بالطبع. لقد كانت غزوة غربية أخرى تفعل فعلها منذ قرنين، بذريعة حماية المسيحيين العرب، ولم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا سوى تفرُّعاً مباشراً عن هذه الغزوة.
فهل حظي المسيحيون العرب بالحماية في ظلّ هذه الغزوة الجديدة؟
اسألوا مسيحيّي جبل لبنان، لماذا هُجِّروا من بيوتهم وقراهم في ما سُمي الحرب الأهليّة بين عامَي 1975 و1990، تحت أبصار جيش الاحتلال الإسرائيلي وأَسماعه. أكانت الحرب لأسباب داخلية فقط، أم بسبب قصة طويلة تروى عن التدخّل الغربي؟
وماذا نقول عن مسيحيّي العراق؟
هل حمتهم القوى الغربية التي نظّمت، ودرّبت، وسلّحت، وغطّت إعلامياً وسياسياً تنظيم داعش والجماعات المشابهة؟
ماذا عن مسيحيي سورية في أثناء الربيع العربي المزعوم؟
أو عن مجتمع المسيحيين الفلسطينيين الذي شهد تقليصاً متواصلاً، منذ إنشاء الغزوة الصليبية الغربيّة الصهيونية في دولة إسرائيل، بنكبة 1948؟
في عصور حكم الدولة الإسلامية، لم يشهد التاريخ مثل هذه الأحداث أو المجازر، على ما نقرأ في المصادر التاريخية المختلفة التي بحثنا فيها بتوسُّع. وفي واقعة نادرة، قتل مسلمو دمشق 5.000 مسيحي، عام 1260م.، مباشرة بعد انتصار المسلمين في عين جالوت، في 3 أيلول من ذلك العام، على الجيش المغولي الرهيب.
أما سبب تلك المذبحة فهو أن بعض مسيحيي دمشق، كما يروي الإخباريون من ذلك العصر، احتفلوا بالغزوة المغولية عام 1258، فكانوا «يسكبون الخمور في المساجد». الغزوة جاءت هذه المرة من الشرق، لا الغرب، لكن في النهاية كان المرحبون بالغزاة هم الضحايا.
هكذا علَّمنا معلمُنا الفصيح الأعظم، التاريخ، أن الانحياز إلى جانب المحتل، ومعاداة المواطنين أهل البلاد، لا يحمي المسيحيين العرب، على الإطلاق. إن أفضل حماية للمجتمع المسيحي العربي، هي التناغم مع بيئتهم العربية والإسلامية، كما تثبت لنا الدروس المؤلمة الثمينة المتكررة في التاريخ.
هذه هي نظرتي إلى مجزرة صبرا وشاتيلا، بمقدماتها التاريخية البعيدة الغور، التي أدت إلى ظهور الميليشيات المسيحية اللبنانية التي ارتكبت المجزرة. فالتدقيق التاريخي لا يمكنه أن يكتفي بتركيز النظر في الحدث المحدود لرؤية الأمور على حقيقتها. ولا بد لعدسة التاريخ من أن تتسع لالتقاط الصورة الشاملة بأكملها، وإلا فإن الرؤية ستضطرب والحقيقة ستضيع.
المصدر: الشراع