تملك القاهرة بعض أوراق الضغط التي يمكن أن تستخدمها في إطار تصويب مسارات العلاقات الراهنة مع واشنطن.
للعام الثاني على التوالي قررت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن منع 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لمصر بسبب عدم امتثال القاهرة لشروط حقوق الإنسان التي وضعتها وزارة الخارجية الأميركية من دون إعطاء مصر وقتاً إضافياً للتجاوب أو التعامل المباشر. ومع ذلك ستفرج الإدارة الأميركية عن مساعدة منفصلة بقيمة 75 مليون دولار، وستتلقى مصر 95 مليون دولار أخرى بموجب استثناء قانوني يتعلق بتمويل مكافحة الإرهاب وأمن الحدود.
ملاحظات مهمة
يلزم القانون الأميركي وزارة الخارجية كل عام بتحديد ما إذا كانت مصر تحرز تقدماً على صعيد حقوق الإنسان أم لا، ويربط حصولها على 300 مليون دولار من المعونة العسكرية السنوية بمدى التقدم المحرز في هذا المجال. وبلغ إجمالي قيمة المساعدات العسكرية الأميركية المباشرة لمصر التي لا تشمل مبيعات الأسلحة نحو 1.17 مليار دولار في السنة المالية 2021.
ويتزامن هذا القرار الأميركي مع التحسن اللافت في العلاقات المصرية – الأميركية ولقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس جو بايدن أخيراً في قمة جدة في السعودية، وهو ما فهم منه أن الإدارة الأميركية في حاجة إلى تدعيم علاقاتها مع الدول الرئيسة في الإقليم، وعلى رأسها السعودية ومصر والأردن والإمارات. كما أن توجيه الرئيس الأميركي الشكر لمصر والرئيس السيسي على إنهاء المواجهة العسكرية بين إسرائيل و”حركة الجهاد الإسلامي” الأخيرة، بعد ثلاثة أيام، أكد أن العلاقات الأميركية – المصرية ماضية في إطارها المرسوم والمقدر بصرف النظر عن الاستمرار في طرح الانتقادات لمصر في ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، وعلى رغم الإجراءات التي أقدمت عليها القاهرة.
كذلك فإن استمرار زيارات المسؤولين الأميركيين إلى القاهرة، وكان آخرها زيارة قائد القوات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، وقبلها زيارات لعدد من الوفود من الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ، يؤكد حرص الإدارة الأميركية على التواصل مع مصر في هذا التوقيت باعتبار أن القاهرة تحتل مساحة متقدمة في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
وتمثل استمرار التعاون العسكري بين البلدين في انعقاد مناورات “النجم الساطع” والتدريبات المشتركة بين الجانبين، إضافة إلى تأكيد الحضور الأميركي المستمر والدائم للمشاركة الأميركية في القوة متعددة الجنسيات في سيناء التي تم تشكيلها تنفيذاً لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي وقعت الولايات المتحدة كشريك ووسيط على بنودها السياسية والعسكرية.
من ناحية ثانية، فإن انعقاد الجلسة الـ 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة ومشاركة مصر في فعالياتها، إذ سيتوجه السيسي بكلمة تركز على توجهات السياسة الخارجية المصرية في الوقت الراهن، وسيعرض تقييماً مصرياً للتعامل مع دول الإقليم وخارجه، يعني تواصل مصر المستمر والدائم ليس مع إدارة الرئيس بايدن فحسب، وإنما مع المنظومة الدولية بأكملها، بصرف النظر عن عدم قيام الرئيس المصري بزيارة دولة إلى واشنطن واقتصار لقائه الرئيس بايدن على قمة جدة فقط.
توازنات منضبطة
تحرص القاهرة على الاستمرار في توازن علاقاتها مع روسيا والصين في إطار علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولم تتخذ القاهرة خطوات سياسية محددة يفهم منها أنها تبنت صف روسيا في مواجهة الولايات المتحدة على رغم زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى القاهرة في إطار جولته الأفريقية، وتوجيه رسائله من القاهرة للعالم، بينما في المقابل لم يقم وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، أو أي مسؤول أميركي بارز آخر بزيارة القاهرة بصرف النظر عن استمرار الوفود الأميركية بإجراء زيارات إلى القاهرة.
ولا تزال الإدارة الأميركية تدرك طبيعة العلاقات المصرية – الأميركية وخصوصيتها الكبيرة في إقليم مضطرب، وفي المقابل تدرك القاهرة أن هناك لوبي حقيقياً يعمل لصالح مصر في وزارة الدفاع والبيت الأبيض، ولكن لا تزال هناك تيارات معادية وعدد من النواب المعروفين بالاسم في الكونغرس معادون لمصر تماماً، ويمثلون بالفعل تحدياً حقيقياً في مجال تنمية وتطوير العلاقات بين البلدين، بخاصة مع الإدراك الأميركي بأهمية مصر السياسية والاستراتيجية، وتأكيداً لطبيعة العلاقات الاستراتيجية المشتركة، والتي لن تتأثر في مجمل الموقف بأكمله على رغم حجب المساعدات أخيراً، إذ إن الرهانات الحالية تركز على ضرورة المضي قدماً بالعلاقات إلى مساحات أكبر من التوافق، وعدم الاصطدام في ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، وهو ملف مكرر ومستمر منذ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وكان مثاراً للحديث في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب، واستمر مع الرئيس بايدن، بخاصة أن التباين بين الجانبين تحكمه مواقف وتوجهات وعقائد وتقارير متراكمة.
وتدرك القاهرة جيداً حقيقة ما يجري في الكونغرس، بل وفي بعض لجان مجلس الشيوخ. ومن خلال جلسات الإنصات والاستماع التي تدور لتقييم مشهد العلاقات المصرية – الأميركية نخلص إلى وجود قناعة أميركية بقيمة مصر السياسية والاستراتيجية، ليس فقط بسبب قناة السويس، وإنما لتقييمهم الوضع بصورة كاملة في الشرق الأوسط، بخاصة أن هناك تخوفاً أميركياً عاماً من انفراط عقد التحالف العربي – الأميركي على رغم كل ما يجري من تأكيدات وضمانات وشراكات ممتدة، ووجود الدول العربية الحليفة إلى جوار إسرائيل في نطاقات ومهام القيادة المركزية الأميركية، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة أخيراً إلى إعادة ترتيب حساباتها السياسية والاستراتيجية، ليس في مجال إمدادات الغاز أو “أوبك+”، وإنما أيضاً في إعادة تموضع ونشر قواتها، والاستمرار في إجراء المناورات الاستراتيجية، ولعل التركيز على الأردن تحديداً يكشف عن الدور المرتقب للقوات الأميركية العاملة في الشرق الأوسط، تجاه مصر ودول الإقليم الأخرى.
رهانات القاهرة
تدرك القاهرة أن الموقف الأميركي بحجب جزء من المساعدات للعام الثاني قد لا يفسر بوجود أزمة مع إدارة الرئيس بايدن على رغم أن مصر تستطيع نقل رسائل رادعة للولايات المتحدة إن أرادت، وفي إطار تصويب مسارات العلاقات الراهن، وعدم التعامل مع الموقف الراهن بأسلوب رد الفعل، بخاصة أن الوضع الراهن في الإقليم يسمح لمصر بالتحرك والتمدد، بل ومناكفة الإدارة الأميركية بالفعل في ملف العلاقات الثنائية تحديداً، بخاصة أن دولاً أخرى مثل إسرائيل، وعلى رغم شراكتها الهيكلية والممتدة مع الولايات المتحدة، دخلت في مساحات من التجاذب في بعض الملفات، وعلى رأسها الملف النووي والتعامل مع إيران، كما أن لدى القاهرة أيضاً أوراقاً ضاغطة حقيقية يمكن توظيفها، تتجاوز ملف قطاع غزة، وأمن إسرائيل، حيث تريد الإدارة الأميركية أن تحصر طبيعة الدور المصري في هذا الملف فقط على رغم أن القاهرة لها حضورها في ليبيا، وسط كل ما يجري من تقييمات حقيقية لطبيعة الدور المصري الراهن في ليبيا وفي العراق وأمن البحر الأحمر وشرق المتوسط، وفي الخليج العربي، في ظل توافقات مصرية – خليجية بضرورة إحداث توازن حقيقي في نمط العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا، وقد يستكمل هذا الأمر في حال نجاح القمة العربية التي من المتوقع أن تجري في الجزائر في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
اتجاهات محتملة
بالتالي فإن مصر لديها مسارات عدة في التركيز على تعاملها مع القرار الأميركي، المسار الأول، عدم الدخول في صدامات حقيقية مع إدارة بايدن، وستنتظر نتائج الانتخابات التجديد النصفي للكونغرس للعمل، بخاصة أن الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين سيحسم ولو لحين، وسيشير إلى مدى تعامل الرئيس الأميركي مع المتغيرات المقبلة، كما أن هناك رهانات على أن بايدن لن يستمر لولاية جديدة أخرى، ولكن الولايات المتحدة ليست رئيس بل دولة مؤسسات، وهنا يجب تفهم حدود الصراع على قضية الديمقراطية والحرية التي تمثل ركناً مهماً في الكونغرس بصرف النظر عن وجود قوى مناوئة لمصر في هذا الملف، وتتطلب تعاملاً مختلفاً من القاهرة لإحداث اختراق في المواقف المعادية، وتتطلب سرعة التحرك للإفراج عن مزيد من المسجونين، وهو إجراء يتم في الوقت الراهن، وسيحسم مع استمرار جلسات الحوار الوطني، ووجود قناعة بغلق هذا الملف بصورة نهائية منعاً لتوظيفه من المصادر المناهضة لمصر في الخارج، وتوظيفها الحرفي لهذا الملف.
المسار الثاني، استثمار القاهرة لما يجري من مناخ معاد في الكونغرس وخارجه بالاتجاه نحو مزيد من التعامل مع روسيا والصين، وإرسال رسائل بليغة لإدارة بايدن مع التقييم أن الرئيس الأميركي سيرحل من البيت الأبيض وأن حجم الشراكة مع مصر من الصعوبة بمكان تفكيكها بالفعل أو تجاوزها، ولن يستطيع هذا الرئيس أو الكونغرس معادة مصر في الوقت الراهن أو الوصول إلى الصدام الكامل معها، وهو ما سيتطلب حنكة في أسلوب التعامل مع الموقف، بخاصة أن القرار الأميركي لن يؤثر إلا على حصة صغيرة من التمويل العسكري السنوي البالغ 1.3 مليار دولار الذي تقدمه الولايات المتحدة منذ فترة طويلة إلى مصر التي لا تزال علاقتها مع إسرائيل حجر الزاوية في نهج واشنطن تجاه المنطقة والإقليم، وهو ما تدركه القاهرة جيداً، وتراهن على استمراره وأوراقها كثيرة ومتعددة حتى مع الوضع الاقتصادي الصعب التي تشهده مصر، وتستطيع تجاوزه فالجانب الأميركي، سواء كان الكونغرس أو الخارجية أو الاستخبارات المركزية، مسلم تماماً بضرورة الحفاظ على تعاون مستدام على نطاق جيوسياسي واسع وممتد، حيث تلعب مصر دوراً حيوياً في ما يخص تخفيف التصعيد في الصراعات الإقليمية العربية مع التباين في رؤية كل جهة على حدة تجاه التعامل مع مصر.
الخلاصة الأخيرة
ستظل تقارير وزارة الخارجية الأميركية معادية لمصر، وستظل تسجل الحالات الخاصة بحقوق الإنسان والحريات بما في ذلك “الاعتقال أو الاحتجاز المفرط قبل المحاكمة”، على حد تعبيرها، وغيرها من دون أن تشير بالفعل إلى المصادر والبيانات التي تتعامل فيها، كما ستظل مجموعة من المشرعين بقيادة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب النائب غريغوري دبليو ميكس، وهو ديمقراطي من نيويورك، معادية للقاهرة وتحتاج إلى آليات مصرية في التعامل الجاد، ونقل الصورة الحقيقية إلى الجانب الأميركي بعيداً من الصور التقليدية للرد أو الاشتباك السياسي والإعلامي، وهو أمر مهم يتجاوز وجود علم بقائمة المناوئين للموقف المصري في دوائر الكونغرس والخارجية والبيت الأبيض بخاصة أن عدداً من المنظمات المنتقدة لمصر مثل “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية قريبة ومتابعة لما يجري وتتدخل في التفاصيل، وقد يتم إثارة هذا الملف في قمة المناخ (كوب 27) التي تستضيفها مصر في نوفمبر المقبل، بخاصة مع تقدير بعض المنظمات الحقوقية المستقلة، عدد السجناء والمحبوسين احتياطياً في مصر بنحو 120 ألف سجين وهي تقديرات تحتاج إلى مراجعة وتفنيد وتقييم مباشر من مصر في ظل المناخ الراهن الذي يتزامن مع تكثيف جلسات الحوار السياسي في مصر.
المصدر: اندبندنت عربية