الاقتتال الأهلي في السويداء.. المطلوب حوارٌ سوري وطني عقلاني جامع

د. طلال المصطفى

تشهد محافظة السويداء هذه الأيام واحدة من أخطر اللحظات على صعيد وحدة الدولة السورية في تاريخها الحديث، إذ يتفاقم الاقتتال الأهلي الداخلي بشكل غير مسبوق بين أبناء المجتمع المحلي الواحد (الدروز والعشائر العربية)، في منطقة لطالما تميّزت بسِلميتها وخصوصيتها الثقافية والوطنية، وبدورها التاريخي في الدفاع عن الهوية السورية الجامعة.

هذا الاقتتال، الذي بات يهدّد أرواح المدنيين وما تبقّى من السِّلم الأهلي والنسيج المجتمعي في السويداء وسوريا عموماً، ليس مجرد حادثة محلية عابرة سبق أن حدثت وقد تتكرّر في أي مجتمع محلي، بل هو تجلٍّ صارخ لغياب دولة القانون ومؤسساتها، ولتآكل ما تبقّى من العقد الاجتماعي السوري المتشظّي بفعل سنوات طويلة من الاستبداد الأسدي والحرب.

ما يجري في السويداء هو نتيجة طبيعية لحالة الفوضى السياسية والعسكرية والأمنية التي تغذّيها القوى المتصارعة على الأرض السورية، واستنجاد بعض الأطراف بالخارج إلى حد التدويل.

وقد تجلّى ذلك بوضوح في اتفاق وقف إطلاق النار، الذي جرى من خلال مفاوضات بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والدولة السورية، برعاية أميركية وعربية، كما أنه نتيجة للفراغ الذي تركه النظام السابق، في مناطق خرجت عن سيطرته المباشرة، فباتت فريسةً للاقتتال والانقسام المجتمعي.

اعتاد السوريون، ولا سيما المنخرطون في الشأن السياسي، على الانقسام والتشتّت عند كل مفصل أو حدث سوري جديد، سواء أكان سياسياً أم عسكرياً، وقد لمسنا ذلك منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011 وحتى اليوم..

نحن اليوم أمام مشهد سوري مقلق، تتساقط فيه آخر أوراق التماسك الأهلي والدولة السورية بحدودها السياسية منذ الاستقلال عام 1946، حيث يغيب فيه صوت العقل والحكمة، ويعلو صوت السلاح والمصالح الفئوية، الأمر الذي يستدعي وقفة سورية وطنية شاملة، تبدأ بدعوة إلى حوار وطني عقلاني جديد، يعيد الاعتبار لوحدة السوريين، ويمنع استنساخ تجربة السويداء في مناطق سورية أخرى، من خلال ترسيخ مفاهيم الحوار، والتمثيل السياسي العادل، والمواطنة المتساوية.

لقد اعتاد السوريون، ولا سيما المنخرطون في الشأن السياسي، على الانقسام والتشتّت عند كل مفصل أو حدث سوري جديد، سواء أكان سياسياً أم عسكرياً، وقد لمسنا ذلك منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011 وحتى اليوم، حيث فشلت جميع محاولات بلورة حوار وطني سوري جامع، بسبب غلبة النزعات الشخصية والفئوية والحزبية على حساب الرؤية الوطنية السورية الجامعة.

وفي السنوات الأخيرة، كشفت الأحداث عن التشوّهات السياسية والأخلاقية التي أصابت جزءاً كبيراً من النخب السورية، بما فيها تلك التي تصنّف نفسها علمانية أو ديمقراطية، والتي لم تستطع التحرّر من عباءة الهويات ما قبل الدولة، رغم ادّعائها مناهضة الاستبداد، فمارست الإقصاء والتخوين ورفض الرأي الآخر، وارتبطت بشخصيات دينية وقَبَلية تقليدية.

إن ما نشهده من انقسامات متزايدة في الخطاب السياسي السوري لدى معظم النخب، وغياب الحد الأدنى من التوافقات الوطنية، هو انعكاس مباشر لافتقادنا إلى رؤية وطنية جامعة، تقوم على ثوابت واضحة، أبرزها:

  1. الإيمان العميق بالتنوع السوري، بوصفه قيمة مضافة وليس تهديداً، فالمجتمع السوري ليس طائفياً بطبيعته، بل طائفيته صُنعت على يد سياسيين ونخب ثقافية ديمقراطية مزعومة تخلّت عن هذه المبادئ، وعادت إلى هوياتها الدينية والطائفية والقبلية ما قبل الدولة.
  2. تبنّي الديمقراطية وحقوق الإنسان كمبادئ تأسيسية من قبل الدولة والتنظيمات السياسية، والقبول بالنقد والحوار والاختلاف.
  3. بناء دولة القانون والمؤسسات، التي تكفل العدالة والمساواة، وتضمن التمثيل الحقيقي لجميع مكوّنات المجتمع السوري، عبر دستور ديمقراطي عادل يعيد ثقة المواطن بالدولة، بدلاً من اللجوء إلى الحماية الطائفية أو العشائرية أو الزعامات المحلية، أو حتى الأجنبية كما هو الحال في شمال شرقي سوريا والسويداء.
  4. التشديد على وحدة الأراضي السورية كخيار سياسي وطني غير قابل للمساومة، ليس فقط من خلال الخطاب، بل عبر مشاريع وطنية ملموسة تعيد وصل ما انقطع، وتمنع تكرار تجارب التقسيم، سواء كانت فعلية أم رمزية.

في هذا السياق، لا يمكن قراءة ما يجري في السويداء على أنّه صراع محلي بين مجموعات مسلّحة فقط، بل هو مؤشر خطير على تفكّك ما تبقى من المنظومة الوطنية السورية، وعلى قابلية بعض المناطق للانزلاق نحو صراعات أهلية، ما لم يُتبنَّ خطابٌ سياسي وطني جامع، ومشروع سياسي يضع حداً لتآكل ما تبقى من الدولة السورية.

إن الفوضى المسلحة في السويداء لا تعني فقط تهديداً مباشراً لأمن المجتمع المحلي، بل تهديداً لوحدة سوريا بأكملها، إذا لم يُعالَج الأمر من جذوره، عبر تعزيز الحضور المدني والمؤسسي، ونزع السلاح من جميع الأطراف وضبطه بيد مؤسسات الدولة فقط، ووضع حدٍّ لسلطات الأمر الواقع، من ميليشيات مسلّحة خارجة عن الدولة، من خلال آلية وطنية سورية شاملة تضمن العدالة والكرامة والتمثيل لجميع أبناء السويداء.

ما تشهده السويداء هو نداء أخير لنا كسوريين جميعاً، كي نعيد التفكير في أولوياتنا، ونتجاوز الخلافات الطائفية والمناطقية، نحو خطاب وطني سوري عقلاني جامع، يرفض استخدام السلاح ضد السوريين..

ولا بد من الاعتراف اليوم بأنّ الحوار الوطني السوري المطلوب يجب أن يكون مقاوماً لكل أشكال الانقسام، لا على مستوى السلطة والدولة فحسب، بل على مستوى المجتمع والمعارضة والثقافة أيضاً، حوار لا يُقصي أحداً ولا يُخوّن المختلف، بل يسعى إلى إعادة تعريف المشروع السوري الوطني برمته: من هو المواطن؟ ما هي الدولة؟ ما طبيعة العلاقة بين المكونات؟ ومن يحكم وبأي شرعية؟

إن خطاب الكراهية والتخوين والتعبئة الفئوية السائد لدى معظم السوريين اليوم لا يجلب إلا الدمار، وما تشهده السويداء هو نداء أخير لنا كسوريين جميعاً، كي نعيد التفكير في أولوياتنا، ونتجاوز الخلافات الطائفية والمناطقية، نحو خطاب وطني سوري عقلاني جامع، يرفض استخدام السلاح ضد السوريين، ويدعو إلى الحوار والحلول العادلة، في إطار دولة القانون والمواطنة.

لنحمِ السويداء، فهي ليست قضية درزية أو عشائرية محلية، بل قضية سورية وطنية بامتياز، لنعمل على إنقاذ ما تبقّى من الروح السورية الجامعة، ولنحوّل هذه المحنة إلى فرصة لإنتاج خطاب سوري وطني عقلاني جامع، يليق بتضحيات السوريين وآمالهم في الحرية والكرامة والعدالة.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى