واقع الأمر أن مفاهيم مثل التقدم في مواجهة التخلف والعقلانية في مواجهة اللاعقلانية والأمن والسلام في مقابل التطرف والإرهاب والعنف قد اكتسبت أهميتها المحورية في تفسير حركة التاريخ لكونها أضفت مضامين خلاصية (شبه دينية) على «الجديد» وعبرت عن ترجمة قيمية لجوهري الكمال والارتقاء في الواقع المجتمعي. وكان من الطبيعي أن يرتب التحيز البنيوي «للواقع» على حساب «الإدراك» هيمنة للعوامل المادية المرتبطة بالاجتماع والاقتصاد والسياسة وتهميش لوزن العوامل الثقافية ـ القيمية في تفسير تحولات المجتمعات الغربية. وربما كانت مقولات مدرسة التحديث الأمريكية كما عبرت عنها كتابات عالم الاجتماع تالكوت بارسونز في أعقاب الحرب العالمية الثانية هي الأوضح في هذا الصدد.
بدأت أركان هذه الصورة الحداثية الكلاسيكية في الاهتزاز بشدة مع بدايات الثلث الأخير من القرن المنصرم وجاء ذلك على وقع عدد من التغيرات الرئيسية والظواهر الجديدة التي لم تتمكن الإطارات النظرية التقليدية بشقيها الوظيفي والماركسي من تقديم تفسيرات مقنعة لها. فقد مثلت حقيقة وصول نمط التقدم الغربي (الرأسمالي والاشتراكي) إلى حدود بدت قصوى وتبدت جلية في كوارث تكنولوجية من شاكلة انفجار مفاعل تشيرنوبيل (1986) وأزمات اقتصادية واجتماعية حادة لدولة الرفاهة في الشمال المتقدم كان أهمها تراجع معدلات النمو وتزايد نسبة البطالة وتصاعد تيارات العنف السياسي والعنصري فضلاً عن مشكلة التهديد الإيكولوجي للوجود الإنساني إشارات تحذير واضحة بدأت معها النخب السياسية والثقافية في الغرب، ولو على نحو جزئي، في التفكير في استراتيجيات جديدة لإدارة مجتمعاتها ركزت بالأساس على مواجهة تراجع معدلات الأمن والاستقرار المجتمعي وانتشار العنف والتعامل مع الأبعاد القيمية للتطور البشري.
من جهة ثانية، شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تراجعاً عالمياً لدور الدولة القومية سواء على أرضية صراعات عرقية ومذهبية أو في سياق فشل عمليات التحديث الدولانية في العديد من البلدان غير الغربية وهو الأمر الذي رتب بروز قوى سياسية ودينية معارضة مارست عنفاً وشكلت تهديداً مباشراً لموقع الدولة القومية وهويتها وأنتجت عملية إحياء شاملة لرؤى تقليدية حول المجتمع والسياسة رفضت الحداثة العلمانية المحيدة في تصوراتها للعنصر الثقافي-القيمي والتي لم تعد قادرة على طرح صيغ مقنعة للتعاطي مع تحديات العصر. ثم شكل السقوط المدوي لدول المعسكر الاشتراكي جزئياً في إطار حركات احتجاج شعبية عنيفة عاملاً إضافياً في بلورة حالة عالمية من «القلق الوجودي» تواكبت مع إجهاز عمليات العولمة على قناعة وجود حدود فاصلة بين المجتمعات.
فرضت حقيقة أن ظواهر من شاكلة ثقب الأوزون ومرض الإيدز وأخطار التكنولوجيا النووية والبطالة والفقر والعنف جميعها ليست قاصرة على شعوب أو مناطق بعينها بل تمتد إلى كل أرجاء المعمورة بحثاً متصاعداً من جانب العلم الاجتماعي للتوصل إلى أنساق بديلة قادرة على التعامل مع التغيرات سالفة الذكر لم يقف فقط عند محاولة نقد المقولات الحداثية الكبرى المتمثلة في التقدم والعلمانية والأمن. طور عالم الاجتماع الألماني أولريش بك في هذا السياق مفهوم مجتمع المخاطر وشكلت تقلبات الجزء الأخير من القرن العشرين في المجتمعات الغربية خلفيته الفكرية.
أنجز بك كتابه الأول عن مجتمع المخاطر في بدايات النصف الثاني من الثمانينيات، تحديداً في عام 1986. وأضفت كارثة المفاعل النووي تشيرنوبيل التي وقعت في نفس العام بعداً شديد الواقعية على مقولات الكتاب الرئيسية. فالفقرة الأولى في المقدمة المعنونة «لسبب معروف» تقيم بلغة المصير التاريخي ـ وهي في جميع الأحوال محببة لقلوب المفكرين الألمان ـ القرن العشرين: «لم يفتقر هذا القرن بأي حال من الأحوال للكوارث التاريخية: حروب عالمية، أوشفيتز، نغازاكي ثم هاريسبورغ وبوبال والآن تشيرنوبيل. وتحتم هذه الحقيقة الحرص في استخدام كل كلمة وتزيد من أهمية دقة النظر في الخصوصيات التاريخية. فقد عرفت كل أشكال الشقاء والمعاناة والعنف التي سببها البشر لبعضهم البعض على الدوام مفهوم «الآخر» وتمركزت حوله ـ اليهود، السود، النساء، اللاجئين، المنشقين، الشيوعيين، الخ. فمن جهة وجدت باستمرار سياج فاصلة ومعسكرات للاعتقال وأحياء بعينها في المدن وكتل عسكرية، ولكن ومن جهة أخرى المسكن الخاص ـ حدود فعلية ورمزية مكنت أولئك الذين بدوا بعيدين عن الأحداث أن يحتموا دائماً خلفها. حقيق أن كل ذلك مازال حولنا، إلا أنه وفي نفس الوقت في طريقه إلى الاختفاء منذ تشيرنوبيل. إنها نهاية «الأخر»، نهاية قدرتنا بالغة النمو على إبعاد أنفسنا، تلك النهاية التي أضحت مع التلوث النووي خبرة حياتية. وعلى الرغم من أن إمكانية دفع شبح المعاناة بعيداً عنا ما تزال قائمة، إلا أن ذات الأمر لم يعد ينطبق على أخطار العصر النووي. هنا تكمن قوتها الثقافية والسياسية غير المسبوقة. قوتها هي قوة الخطر التي تقضي على كل مناطق الحداثة المحمية وتنويعاتها».
ينطلق الكاتب في محاولته توصيف التغيرات الحادثة في مجتمعات الغرب نهاية القرن العشرين من قناعات أولية أربعة هي: أولاً أن اللحظة الراهنة هي لحظة انقطاع جذري في تاريخ الحداثة، ثانياً أن مفهوم الخطر وما يرتبط به من ظواهر كالتطرف والإرهاب والعنف قد أضحى المحرك الأساسي للبنى المجتمعية المعاصرة، ثالثاً أن مقولة «وحدة المصير البشري» التنويرية والتي ناقضتها مسيرة الحداثة منذ القرن الثامن عشر وحولتها إلى مساحة للفعل الرمزي تستحيل الآن إلى حقيقة واقعة، رابعاً أن جل هذه التحولات يفرض إعادة النظر في مدى فاعلية منظومات القيم العالمية في مواجهة ظواهر الإرهاب والعنف وغياب الأمن وصياغة نسق نظري ـ تفسيري بديل لفهم تحديات العصر.
فهناك واقع دخول المجتمعات المعاصرة في مرحلة جديدة من مراحل نموها تناقض، بأشكال مختلفة لم يتضح مداها بعد، حقائق المجتمع الصناعي كما خبرتها البشرية جمعاء في سياق التوسع الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر. يحدث هذا التغيير بفعل عمليات التحديث المتتالية في المجتمع الصناعي وعلى نحو يمكن مقارنته بالتحول في القرن التاسع عشر من المجتمع الزراعي إلى الصناعي.
إلا أن حقيقة التشابه التاريخي بين المنطق المجتمعي المؤدي إلى المجتمع الصناعي وذلك المفضي إلى استبداله أي التحديث لا ينبغي له أن يحجب جزء رئيسي أخر مكمل للصورة. ففي حين أن تحديث القرن التاسع عشر صارع في المقام الأول بنى تقليدية ومنظومات قيم دينية وطبيعة متمردة رغب في السيطرة الشاملة عليها، تواجه عمليات التحديث في اللحظة الراهنة ذاتها أو بعبارة أدق النتائج العنيفة لما رتبته في المائتي عام الماضيين.
يطول هذا الاختلاف بين تحديث المجتمع التقليدي وتحديث المجتمع الصناعي جوهر الصراع المجتمعي المعاصر الذي يتمحور حول البحث عن بدائل للوظيفة التقليدية للعلم والتكنولوجيا (غزو الطبيعة) وأشكال مغايرة لعلاقات العمل والحياة الخاصة والنماذج المثالية لأدوار الرجل والمرأة المرتبطة بها، وبالتبعية عن منظومة قيمية جديدة أو معدلة لأنماط السلوك البشري في المجالين العام والخاص.
وفي التحليل الأخير باتت بنى المجتمع الصناعي وميكانزمات حركتها، خاصة في مجال التكنولوجيا وعلاقات العمل والاقتصاد والاستهلاك والعملية الاتصالية، باتت مصدرا دائما لتحديات غير مسبوقة وعنف غير معهود من جهة ويصعب إدارتها في إطار آليات السيطرة والأمن المعهودة من شاكلة نظم الرفاهة والضمانات الاجتماعية (إعانة البطالة، معاش التقاعد، وغيرها). وهنا الرابطة السببية بين التحولات المعاصرة للمجتمعات الغربية التي تنتج العنف وبين ذيوع ظواهر التطرف والإرهاب التي أضحت تهدد حياة البشر.
المصدر: القدس العربي