بعد أيام قليلة فقط من انتهاء قمة طهران الثلاثية ولقاء الرئيسين التركي والروسي على هامشها ثنائياً (إضافة للإطار الثلاثي مع الرئيس الإيراني)، أتى خبر زيارة أردوغان لمدينة سوتشي الروسية ولقاء بوتين هناك، في الخامس من آب/ أغسطس الجاري.
الإعلان عن الزيارة يؤكد ما ذهبنا إليه في تقييم قمة طهران بأنها فشلت في التوصل لاتفاق ثلاثي بخصوص الملف الأهم على أجندتها، وهو العملية العسكرية التي تلوح تركيا بإطلاقها في شمال سوريا. فقد كانت القمة تكريساً وتأكيداً للمواقف السابقة، فأكدت تركيا على حقها في العملية وإصرارها على حماية أمنها من خلالها، بينما دعت كل من موسكو وطهران لتأمين متطلبات الأمن التركي عبر “حل سياسي”.
أكثر من ذلك، فقد أعقب القمة الثلاثية تطورات في كل من سوريا والعراق يمكن فهمها في إطار الضغط على أنقرة ومحاولة ثنيها عن العملية، بما في ذلك التحركات الميدانية للمجموعات المقربة من إيران، والهجمات على القوات والقنصلية التركية في العراق من قبل منظمات محسوبة على إيران وتحت عنوان “مقاومة الاحتلال التركي”. فإذا ما أضيف ذلك لتصريح المرشد الأعلى للثورة في إيران خلال لقائه بأردوغان خلال قمة طهران بأن “العملية العسكرية في سوريا ستضر بسوريا وتركيا والمنطقة”، يمكن القول إن العلاقات بين أنقرة وطهران تمر حالياً بحالة من التوتر غير المعلن.
ولذلك، فإن ذلك يدفع تركيا لمحاولة التفاهم مع روسيا، الفاعل الأهم في منطقة العملية المفترضة، وصاحبة النفوذ الأقوى لدى النظام السوري، والمسيطرة على الأجواء السورية، بما يعني أن موقفها من العملية أحد العوامل الرئيسة في تحديد أهدافها ومساحتها وتكلفتها، وربما فرص نجاحها كذلك.
كما أن أردوغان يذهب وفي جعبته ملفات أخرى، في مقدمتها الاتفاق حول تصدير الحبوب الأوكرانية، والذي بدأ تنفيذه بانطلاق أول سفينة أوكرانية، ولكن أيضاً بعد قصف روسي على ميناء أوديسا، والذي استحث انتقاداً مبطناً من الرئيس التركي ودعوته الأطراف المشاركة في الاتفاق لـ”احترام توقيعها” والالتزام بالاتفاق.
يضاف لذلك ملف محطة أك كويو للطاقة النووية، وهي استثمار روسي- تركي شهد بعض التطورات مؤخراً. فقد تحدثت بعض التقارير عن بدء إرسال روسيا مبلغ 20 مليار دولار بشكل تدريجي لتركيا، وهو المبلغ المندرج في الاستثمار الروسي في المشروع بما يتوقع أن تكون له تأثيرات إيجابية على سعر صرف الليرة. في المقابل، فقد تحدثت بعض التقارير -غير المؤكدة حتى اللحظة- عن إخراج الشركات التركية من المشروع بحجة مخالفة شروط العقد، وإلغاء تعاقدات بعض الشركات التركية في مجالَيْ السياحة والعقارات في روسيا.
اختصاراً، ثمة تطورات لافتة في ملفات مهمة على صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين فرضت ضرورة اللقاء بين الرئيسين بشكل مباشر، وبعد مدة قصيرة جداً من اجتماعهما في طهران. في أكثر من محطة سابقة كانت القمم التي تجمع أردوغان ببوتين، لا سيما في سوتشي، قادرة على إنتاج تفاهمات جديدة تساهم في تجاوز البلدين لبعض العُقَد أو التضارب في المصالح، فهل يصدر عن قمة سوتشي تفاهم جديد حول سوريا؟
يعيدنا ذلك للمنطلقات الرئيسية لأي تحليل يتعلق بالعملية العسكرية التركية المفترضة والقائم على:
أولاً، إصرار تركيا على استكمال مكافحة المنظمات المرتبطة بالعمال الكردستاني في شمال سوريا، وإبعادها عن حدودها، واستكمال إنشاء منطقة آمنة متى أتيحت الفرصة لذلك.
ثانياً، أتمت تركيا المتطلبات العسكرية واللوجستية للعملية، بينما تعمل مؤخراً على استكمال الأرضية السياسية لها من خلال التواصل مع الأطراف ذات العلاقة -والتي يمكن أن تسهل العملية أو تصعّبها- وفي مقدمتها روسيا.
ثالثاً، لروسيا مصلحة واضحة في استهداف أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية، حليفة الولايات المتحدة الميدانية، بما يمكن أن يوسّع الهوة بين أنقرة وواشنطن.
رابعاً، لتركيا أوراق قوة مهمة وقد تزايدت بشكل ملحوظ بعد الحرب الروسية- الأوكرانية والأدوار التي لعبتها وتلعبها فيها، وثمة حاجة روسية لأنقرة في هذا الإطار.
خامساً، كانت أنقرة قد أوقفت عملية نبع السلام في 2019 بعد توقيعها تفاهمات مع روسيا بضمان إبعاد مسلحي قسد 30 كلم عن الحدود التركية، ولطالما اتهمت أنقرة موسكو (وكذلك واشنطن) بعدم الوفاء بالتزاماتها في هذا الإطار، ما يضع على الأخيرة مسؤولية مضاعفة.
سادساً، تؤكد أنقرة أنها “تريد العنب لا ضرب الناطور” كما يقال، بمعنى أن تحقيق أهداف العملية عبر مسار آخر يمكن أن يقنعها بإلغائها أو تأجيلها مؤقتاً على أقل تقدير. وفي هذا الإطار يمكن فهم تصريح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بخصوص دعم بلاده سياسياً للنظام السوري لإبعاد قسد عن الحدود.
وعليه، ختاماً، ستكون قمة بوتين- أردوغان في سوتشي محطة غاية في الأهمية ومحددة لقرار أنقرة بخصوص العملية العسكرية المحتملة في سوريا، فإما أن يخرج عن القمة تفاهم يوحي بتأجيل تركيا للعملية، وإما أن تكون العملية قد اقتربت بعد التفاهم مع موسكو. حالياً، ووفق المعطيات القائمة، يبدو الاحتمال الأول أرجح، لكن القمم الثنائية المباشرة قادرة دائماً على تحقيق اختراقات، لا سيما وأن الملفات بين روسيا وتركيا كثيرة ومهمة ومتداخلة، بما يساهم عادة في التوصل لتفاهمات بين الجانبين.
المصدر: عربي 21